الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل الثامن عشر/ 2

دلور ميقري

2020 / 4 / 8
الادب والفن


السيارة، راحت تقفز على الدرب الوعر، متعثرةً بكسر صخور البازلت. منذ زمنٍ سحيق، استخدمَ البازلتُ في العمارة بالجنوب السوريّ؛ ومنها قلعة بصرى، الرومانية، وكانت سببَ شهرة هذه البلدة. السيارة، المطلية باللون الأبيض والمجتازة في طريقها البيوت القروية المبنية بتلك الأحجار السود، لم تلبث أن بدت عن بُعد لعينيّ خالدو كما لو أنها لعبة أطفال. لكنها هيَ بنفسها، ابنة عيشو، كانت قد أضحت صبيّةً في السادسة عشرة. لمحض المصادفة، أن هذا الكفر القريب من البلدة، أينَ تعيشُ فيه منذ مقتل أبيها قبل نحو ست سنين، يحملُ أيضاً اسمَ " معربا "؛ اسم القرية الدمشقية، التي شهدت مذبحة عصابته.
من النافذة، راحت خالدو تتابعُ إذاً اندفاعَ السيارة إلى لحظة توقفها على طرف الطريق ليسَ بعيداً عن المسكن. لوهلةٍ، استبعدت أن تكون السيارة قادمة إليهم؛ لأن قريب والدتها، صالح، لديه فورد سوداء اللون. ثم عادت تدقق نظرها في السيارة، عندما دلفَ منها رجلٌ عليه قيافة أهل المدن، تبعه آخر وكان السائقُ. توقفا قليلاً، يتكلمان ويهزان أكتافهما، قبلَ أن يُميّزَ أحدهما الصبيّةَ، المنتصبة وراء نافذة البيت الصغير. لوّحَ لها عندئذٍ بيده وتقدّم باتجاهها، فلما بانت ملامحه تحت القبعة المستديرة، فإنها هتفت بفرح: " الخال موسي..! ".

***
مثلما ذكرنا في مكانٍ آخر من سيرتنا، أنّ عيشو تولّت ترميمَ كوخٍ عائد للناطور، كان هذا قد تخلى عنه بأمرٍ من وكيل أعمال المخدومين، أصحاب المزرعة. الأرضُ المقتطعة لبطلة سيرتنا، كانت تبعد عن مسكنها بنحو عشر دقائق مشياً. ولقد تعهّدت الابنةُ السيرَ مع الخال، القادم من دمشق، وصولاً إلى ذلك المكان. كان الوقتُ على حد الأصيل، انتشرَ في خلاله ضبابٌ خريفيّ خفيفٌ فوقَ منخفض من الأرض، المحتمية فيه المزرعة بأشجارها المثمرة وخضارها. أشارت خالدو بيدها نحوَ المنحدر، قائلة ببساطة: " هناك يقعُ البستان، الخاص بنا ". على الأثر، ورداً على نداء الابنة، انتصبت امرأةٌ بهيئة قرويات حوران من بين كثافة الزرع، ليكشفَ نورُ الأصيل أنها عيشو.
من ناحيته، شاءَ موسي أن يلتقي شقيقته في أرضها، مقدّراً أن وجود القرويين من حولها سيكبح ردة فعلها ما لو علمت بسبب الزيارة. إنه على علم بالطبع بما عناه الشقيقُ الفقيد لعيشو، كونها رعته منذ مولده وكأنه ابنها. لقد ولد مستو حينَ كانت هيَ حاملاً بابنتها البكر، ومقيمة في دار والدها كون زوجها معتصماً في الجبل مع عصابته. منذ ذلك الحين، فكّرَ موسي بأسى، توالت النكبات على شقيقته، ففقدت أحباءها الواحد تلو الآخر. لولا أنها صبورة وقوية الشكيمة، لكانت ربما قد فقدت عقلها. كانت في الثلاثين عندما ترملت، لكنها رفضت فكرة الزواج مرة أخرى، مؤكدةً أنّ هدفها في الحياة باتَ تربية البنات والاحتفاظ بالوفاء لذكرى أبيهن. لعل اختيارها العزلة في هذا المكان، البعيد عن مسقط رأسها، كان أفضل طريقة للتمسك بقرارها. ولقد تكيّفت بسرعة هنا، نظراً لخصالها تلك، الموصوفة.

***
حدثٌ مفاجئ، يُحيل إلى تقلبّات الطقس في هذا الوقت من الخريف، عليه كان أن يبدد خطة موسي. كانت شقيقته قد هُرعت لتلقاه واحتضانه، متسائلةً من ثم بشيء من الجَزع: " أتمنى من الله أن يكون الأهلُ بخير؟ ". أومأ رأسه في حركة غامضة، محاولاً الابتسامَ. في اللحظة التالية، بدأ قصفُ الرعد قوياً. عندئذٍ، اقترحت عيشو أن يسرعوا إلى البيت. وما لبثت في خلال المسير أن تذكّرت أمراً، فقالت لشقيقها مستفهمةً: " أأتيتَ مع صالح؟ "
" بل استخدمتُ سيارةَ البك، معلّمي. وقد تركتُ السائقَ لابثاً فيها، لأن خالدو أخبرتني بقرب المسافة إلى المزرعة "
" لأنك لم تشأ أن يكون الرجلُ الغريب موجوداً وقتما تبلّغني الخبرَ المفجع، الذي حضرتَ من أجله. أليسَ صحيحاً؟ "، هداها ذكاؤها لهذا الرأي. عند ذلك، وفيما هبوبُ الريح يضرب الوجوهَ بالدفعة الأولى من المطر، أكّدَ موسي حَدَسَ شقيقته. بقيت برهةً متبلّدة الإحساس، كأنها لم تستوعب ما سمعته. لكن هيجانها بدأ على الأثر، بقولها في نبرة مرتجّة: " لا، مستو؟ هذا صغيرٌ جداً، رباه.. هذا ظلمٌ كبير، يا رب..! ".
في نهاية نوبتها انهارت على الأرض، فاقدةً الوعي ـ كما شتلة نبات غضّة في بستانها، ضربتها الريحُ بلا رحمة.

***
سورةُ غضب شقيقة موسي، الموجّهة ضد القدَر، كانت ولا شك إحدى شطحات التجديف، المُعرَّف بها قومُ أبيها، الكرد. أما التأثر من ناحية الأم، القروية المنشأ، فتجلّى لدى عيشو في هذا الحزن الجامح على الأخ الراحل، المعادل ما سبقَ وأظهرته على ابنتها حينَ صُدمت بخبر موتها المباغت. كذلك في سهولة اندماجها مع العيش كفلّاحة، ورضاها عن ذلك بحيث تسلو مباهج الحياة في عاصمة عريقة مثل دمشق.
في حقيقة الحال، أنّ نصف أبناء سارة، وليسَ عيشو حَسْب، تأصّل فيهم الميلُ لحياة المزارعين؛ فلم يكن غريباً إذاً أن يعمل موسي وكيلاً لأعمال هذا الملّاك وذاك الإقطاعي، بينما الشقيقان الآخران، حسينو وفَدو، اختارا ببساطة مهنةَ الناطور. سلو وشقيقه الأصغر، جمّو، شاءا الاختلاف عن أولئك الأخوة وذلك بالعمل في مشغل النول. لولا قدَره الظالم، ربما كان مستو الراحل سيُكمل سيرةَ والده وجدّه في الانتماء لفئة المتعلمين من ذوي الوظائف، ولعله أيضاً كان أثبتَ موهبته كأديبٍ يقرضُ الشعر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR