الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة أأحمد -باريزيان- من الذاكرة

عبد الغاني بوشوار

2020 / 4 / 8
الادب والفن


قصة أحمد "باريزيان"من الذاكرة
كنت أسكن في مدينة تزنيت بسوس في الجنوب الغربي من المغرب الأقصى عندما كنت صغيرا أتابع دراستي الابتدائية. وكان بيت خالاتي (أخوات جدتي) الذي كنت مقيما فيه يوجد ب لقسبت نتافوكت"(زنقة الشمس) بحي أيت محمد وكان البيت قريبا من مسكن رجل متقدم في السن غريب الأطوار معروفا في المدينة ب بريزيان .
اسمه الحقيقي هو أحمد، كان نحيفا ومعروف عنه أنه يعاقر الخمرة يوميا، ولا أحدا يعرف عنه كثيرا عدا أنه عاش في فرنسا لمدة قبل أن تقوده الأقدار إلى لقسبت نتافوكت (زنقة الشمس). كان مؤدبا، نضيف البزة منحني الضهر بشوشا يتمتم مع نفسه ولا يخرج من مسكنه إلا وهو معلق قفة على ذراعه الأيسر. لم أره قط ينهر أطفال الحي والمدينة بالرغم من أن البعض منهم يتهكم عليه.
كانت مدينة تزنيت مميزة في تاريخها بوجود شخصيات غريبة تثيرهم اعتداءات الأطفال فيردون بالعنف ورمي بالأحجار والسب، لكن الساكنة تتسامح معهم وينهون الأطفال عن إدائهم. أتذكر وأنا طفل لم أتجاوز الخامسة من عمري، شابا كثيف الشعر وكانت ملابسه رثة يجوب أزقة المدينة وفي يده مزمار مثل مزمار الرعاة يخرج منه أصواتا عجيبة يتلذذ ويطرب بها كل من يسمعه. كانت النساء في حينا يتمتعن بسماعه ويطلبن منه المزيد عند اجتماعهن أمام منزل إحداهن للدردشة والترفيه عن أنفسهن ويا لها من فرحتهن إذا صادف أن مر "فريكس "بقربهن لسماع طربه الذي لا يبخل به عليهن بعد توسلهن إليه. ما زال صدى صوت مزمار "فريكيس" يدندن في آذاني، وبالمقارنة مع ما سمعته وأسمعه في هذا العمر، فإنه لا يمكن لي أن أصف هذا الشاب إلا بالعبقري وفنان ساحر يبهر كل من سمع مزموره، على أن "فريكس" يخاف منه الأطفال الذين يرمونه بالحجارة ويعتبرونه مجنونا فيطاردهم ويهربون منه خوفا من أيصدر منه ما لا تحمد عقباه لأنه في نظرهم أحمق. لكن موهبته وترانيم مزماره لا يضاهيها أحد واختفى من المدينة فجأة ففقدت بذلك هذا الشاب الذي لا نعرف عنه غير صوت مزماره العذب الساحر ولم أتذكر أنه يسعى ولا علم لي كيف يدبر معيشته.
وبالرجوع إلى قصة "باريزيان" فقد تقدم أنه كان يسكر يوميا ويقتني مشروبه المفضل "الروج" (نبيذ أحمر) من الدكان الوحيد الذي يملكه أحد التجار من الطائفة اليهودية عندما يستطيع شراءه، إذا حصل على الدراهم من مصدر غير معلوم ربما من تقاعده أو من تمويل معارفه في فرنسا. لا أحد يعلم حقيقة موارده، فهو كتوم وقليل الكلام، يعيش في عالم خاص به، من الصعوبة بمكان تخيله.
في يوم من الأيام، أواخر الخمسينات من القرن الماضي، بعد رجوع محمد الخامس من المنفى وحصول المغرب على الاستقلال وجلاء قوات المستعمر الفرنسي ألقي القبض على أحمد بارزيان بتهمة السكر، وكانت الشرطة في ذلك الوقت صارمة وشديدة على كل من تشم فيه رائحة الخمر، أثار بلبلة في الشارع أو لم يثرها علما أنه لا توجد حانة في المدينة آنذاك ولا مكان عام لتناول الشراب، فكانت عادة المدمنين اقتناء ما يحتاجون إليه من المشروبات الكحولة من أخينا اليهودي الذي تزوده شاحنة تأتي من مدينة أغادير مرة في الأسبوع، وبالطبع فإن بيع الخمور ممنوع عن المسلمين، لكن السلطات تغض الطرف والتاجر مرخص له البيع للأجانب من غير المسلمين فقط. شاءت الأقدار أن ألقي القبض على "باريزيان" وقدم للمحكمة أمام القاضي.
لما مثل أحمد أمام القاضي، واعترف بجرمه حكم عليه بعقوبة السجن لمدة، لكن أحمد شعر بالظلم واحتج على الحكم ثم قال للقاضي: "سيدي القاضي، سبحان الله، لم تروا غير قنينة أحمد والشاحنة القادمة من مدينة أغادير أسبوعيا لا تحمل غير القنينة التي يتناولها أحمد، فيها خير يا سيدي".
بعد خروج صاحبنا من السجن، استمر على حاله ونمط حياته وانقطعت عني أخباره بسبب هجرتي إلى مدينه أغادير لمتابعة دراستي الثانوية.
إن قضية بيع وشراء وتناول المشروبات الكحولية في المغرب في غاية التعقيد لأن القانون يحرمها ويحكي الناس قصصا بخصوص تعامل السلطات مع هذه الظاهرة لا تخلو من التعجب والذكاء سواء من البائع أومن السكران.
فقد حدث أن انتقل تاجرنا اليهودي من مدينة تزنيت إلى مدينة أغادير التي فتح فيها دكانه، وذات يوم ألقي القبض على سكير أثار البلبلة في الشارع وسألوه عن مصدر مشروبه فدلهم على التاجر اليهودي الذي قدموه إلى المحكمة بتهمة بيع الخمور للمسلمين، فكا جوابه للقاضي: «سيدي القاضي، ، اليس الخمر حراما على المسلمين، حسب الشريعة الإسلامية؟" أجابه القاضي: "بلى". فقال التاجر: "أنا لا أبيع الخمر إلا لغير المسلمين، فكل من يدخل عندي لشراء الخمر أعتبر من غير المسلمين لأنني واثق أن المسلم حرام عليه تناولها وعلى هذا الأساس فإنني ملتزم بالقانون وحريص على التقيد به ولا تسمح لي نفسي بتزويد أي مسلم بالخمر الذي تحرمه علية شريعته"، فضحك القاضي وأطلق سراحه.
وحدث مرة أن ألقي القبض على سكير كان قد تناول "الروج" في حانة من الحانات ولما مثل أمام القاضي تنبه وتذكر، عندما كان القاضي يتناول مشروبه المفضل "الويسكي" بجانبه في نفس الحانة، فلما أصدر القاضي حكمه بالسجن عليه، تبسم المحكوم عليه وقال: "إيه يا دنيا الويسكي يحكم على الروج"، فقهقه الحاضرون، ورفعت الجلسة. ها ها. قصص قد تملأ مجلدات لمن يستطيع كتابتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب