الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاث أطر لإعادة التفكير بحوار الفلسطينيين مع الإسرائيليين

أنس المصري

2020 / 4 / 10
القضية الفلسطينية


ما أقبل عليه عدد من الشباب في غزة ببدأ حوار مع شباب إسرائيلي هو، في المقام الأول، حقٌ من حقوقهم الأساسية التي لم تكفلها فقط مواثيق حقوق الإنسان ولكن أيضاً أعراف المواطنة الفلسطينية. بناء ومشاركة وممارسة رأي سياسي حر ومستقل هو أبسط حقوق الإنسان في هذا العالم، أو هو ما يجب أنه يكون عليه الحال، تماماً كما للمرء حقُ انتقاد ورفض ما يتم مشاركته من خلال ممارسة ذات الحق والحرية. من يرفض الحق في هذه الممارسة الإنسانية أولاً والقانونية ثانياً والسياسية ثالثاً فهو متورط، ضمنياً، بتبني ذات المنطق الذي تتبعه كل من السلطات الإسرائيلية والفلسطينية في قمع الفلسطينيين واضطهاد حقوقهم. لا يمكن الجمعُ بين المطالبة بالافراج عن المعتقلين السياسيين في سجون الحكومة في قطاع غزة أو الضفة الغربية والمطالبة باعتقال هؤلاء الشباب لأن كليهما يمارس ذات الحق وإن اختلف مضمون هذه الممارسة. هذا إذا كنا نتحدث بالإطار القانوني الذي انضمت له السلطة الفلسطينية والذي نعتكز عليه ذاتَه في مطالبة العالم بمحاسبة السلطات الإسرائيلية على ممارساتها تجاهنا.
حتى لمن لا يعتنقون هذا الإطار، والذين يختارون الانحلال من ضرورية التماثل في الالتزام بأعرافه، فالإطار السياسي الذي تتبناه السلطة الفلسطينية يكفل لأولئك الشباب، من بين حقوق وحريات أخرى، الحق والحرية في التواصل مع شباب إسرائيلي. السلطة الفلسطينية لديها برنامج كامل للتواصل مع الإسرائيليين تديره لجنة منظمة التحرير الفلسطينية لاثارة نقاش مع المجتمع الإسرائيلي. ومن يرى في هذا البرنامج تجاوزاً للمبادئ الفلسطينية فأولى به أن يرى في اتفاقية أوسلو ذاتها، وكل ما تبعها، وكل من هو قائمٌ عليها أو منتفعٌ بها، والحكومة في غزة من الفئة الأخيرة، تجاوزاً لذات تلك المبادئ—والتي أعتقد أن أولويات تحقيقها تبدلت حتى وإن لم يشأ الرغبائيون إعتناق هذه الحقيقة.
الهجوم على أولئك الشباب يصبح مسألة تنمرٍ جاهلٍ أكثر من أي شيء سواه، فالذي لا يستطيع توجيه الانتقاد لمن هم أولى بالانتقاد وأقدر على التغيير يختار التهجم على الفئة الأقل، والأضعف، وشبه العاجزة عن صنع أي فارقٍ حقيقي يرقى لجزيء مما تستطيع حكومتا الضفة وغزة تحصيله. أما من يختار التفريق بين الحكومة في الضفة الغربية والحكومة في قطاع غزة، لذمِّ الأولى ومفاضلة الأخيرة، بناءً على تعاملهما المتباين مع اتفاقية أوسلو وتبعياتها فهو ذاته الذي يفشل في تقديم أي مقترح ممكن لتوحيد الشعب الفلسطيني حتى في اختزاله في سكان الضفة والقطاع. أي عملية توحيد للشعب تتطلب واحداً من حليّن لا ثالث لهما: الاجماع على أوسلو (حتى بعد موتها قديماً ودفنها حديثاً) أو الاجماع على حلِّ السلطة والبدأ بعصيان مدني لا ينتهي (مهما تضاعفت معاناة الشعب) إلا بدولة واحدة ديموقراطية يكون فيها العرب واليهود سواسيةً في حقوقهم وواجباتهم. ضمن هذا الاطار السياسي البديل فإن عمل أولئلك الشباب ليس فقط من حقهم بل يصبح مسألة مهمة إذا أردنا أن نتوقف لمرحلة واحدة عن كوننا مشدودين بعاطفة—في رأيي الشخصي مصطنعة—والتوجه بتفكيرنا لصنع رؤية واضحةٍ لماهية تلك الدولة. تجدر الإشارة في ختام هذه النقطة إلى عدم وجود أي تصور لماهية الدولة الفلسطينية التي يصرخ ويغني الكثير على حدٍ سواء في مطالبتهم بها.
أما من يرفض الإطارين القانوني والسياسي السابقين، وأنا مؤمنٌ بحق الجميع في ذلك، فالدعوة الأخيرة هي لإعادة التفكير بماهية الإسرائيلي. جميعنا، وغالبية العالم معنا، قد لا نختلف ولو لولهة قصيرة حول استحقاق القادة الإسرائيليين للمحاسبة والعقاب، والأدلة—التي تُبنى عبر الإطار القانوني سابق الذكر ذاته—تُدينهم وتجعل من إقصاءهم عن المشهد لا ضرورةً فقط بل واجباً أساسياً لتحقيق العدل فالسلام المنشود. في تتابعٍ لهذه الفكرة يصبح الإسرائيلي—تماماً كغيره من مواطني هذا العالم—متلقياً لما يدليه قادة دولته، عبر مناهج التاريخ والجغرافيا والدين واللغة وسواها في المناهج الرسمية وعبر الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وهم بذلك—كما نحن وكما سوانا—حصيلةُ مشاعرِ قادتِهم، وتابعون لهم، وقابليتهم لرفضِ ما يتلقونه، بغض النظر عما إذا كان محقاً أو غير محقٍ، مماثلةٌ لقابليتنا لرفض ما تلقيناه، بغض النظر عما إذا كان محقاً أو غير محق، وفي ذلك هم ونحن كما الأتراك واليونانيون في قبرص، كما الهنود والباكستانيون في كشمير، كما المواطنون في تايوان والصين، كما الأرمن في قرة باغ، ولكن حقاً كما أي مجموعة ثقافية أو طائفة دينية أو سوى ذلك.
وبسبب هذه الحقيقة تقوم الدول والمنظمات والمجموعات كتلك الحديثة في غزة بإطلاق برامج يتحدثون فيها مع نظرائهم في المجتمع الآخر. الهدف من هذه البرامج ليس قَبُولَ الظلم الواقع على الفلسطينيين، وليس منحَ سلطةٍ أخلاقية للفرد الإسرائيلي. وإن كان هذا ما يدفعني لعدم انتقاد هذه البرامج فهدفها الثاني في توحيد الطرفين في مواجهة جهلهما والوصول لقناعة ترضيهم شخصياً هو ما يدفعني لدعم هذه البرامج بقوة. ولو أن نظامنا الفكري فالاجتماعي فالسياسي نظامُ حريةٍ وديموقراطية لكان أيسر لهذه البرامج أن يتسع أثرها على المجتمع الإسرائيلي، الذي وإن لم يكن نظامُ حكمه ديموقراطياً مثالياً إلا أنه سيسمح بتعبأة قد تسمح في ذات يوم لوصول إسرائيلي غير جاهل للحكم في إسرائيل—كما سمحت الديموقراطية، على فسادها، في الولايات المتحدة بوصول مرشحين ربما أشد انتقاداً لنتنياهو من أبو مازن بالمنافسة على منصب رئاسة دولتهم. لا يمكن لأحد الاختلاف على أن هذا أملٌ بعيد، ولكنه أقرب بكثير من الأمل (الرغبائي) الذي تسابق عليه الحكومتان التي سقطت مشروعيتهما منذ سنين.
أخيراً، إعتناق واحد أو أكثر من هذه الأطر للتفكير حول ما قامت به المجموعة الشبابية ينقلنا من الانتقاد غير البنّاء الى الانتقاد حقيقي الأهمية، فيصبح السؤال لا إذا ما كان يحق لهم تنفيذ مثل هذا المبادرة بل إذا ما كانت وسائلهم الأنجع في تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني—رفع الحصار ووقف الاستيطان والافراج عن المعتقلين وتعويض المتضررين وانصاف اللاجئين وسواها من الطموحات. يصبح السؤال كيف لمثل هذه المبادرة أن تُكمِل جهد المؤسسات الرسمية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية الساعية لتحقيق ذات الطموحات. يصبح السؤال كيف يمكن لهذه المبادرة جلب الإسرائيلي في صف الفلسطيني—في طِباقٍ للممارسة الإسرائيلية الرسمية في جلب الفلسطيني لصف الإسرائيلي (مصعب حسن يوسف، مثلاً). يصبح السؤال، أيضاً، لماذا قام هؤلاء الشباب في المقام الأول بإطلاق هذه المبادرة، ولماذا صُبَّ عليهم هذا الانتقاد والغضب دون نقاش واحدٍ معهم، وهل تلقوا عبر صناديق رسائلهم الخاصة دعماً لعملهم لم يخرج للعلن فقط وفقط لأن ذلك الخروج يشكل خطراً على حريتهم وسلامتهم. هذه الأسئلة هي ما تعين على تحقيق الأهداف سابقة الذكر لمثل هذه البرامج، أما التخوين والقمع والسخط فهي تماماً الممارسات التي تقترح هشاشةَ البُنيان المعرفي والفكري والسياسي الذي لا توجد وسيلة حماية أخرى له، الهشاشة التي دفعت الحكومة في غزة لتلفيق تهمة "تطبيع مع الإحتلال" للقائمين على المبادرة في إبداءٍ لجهل فعجزٍ مدقع عن التفريق بين المجتمع والحكومة—وهو ذات النهج الفكري الذي فشل في التفريق بين الحكم والسياسة ويعجز عن فهم المجتمع كمجموعات مختلفة لا عصبة على ملة واحدة.
أدركُ تماماً أن ما أطرحه هنا فيه انسلاخٌ قد يكون قاسياً من الطريقة—الخاطئة برأيي—التي تلقيناها منذ صغرنا، بل وفُرضت علينا في كثير من الأحيان، ولكني مؤمن أن إعادة توجيه طريقة التفكير، وليس التفكير ذاته، التي أدعو لها هنا ضرورةٌ لأي تقدم ذو معنى على الصعيد الفردي والمجتمعي والسياسي. كما وأدرك أن أغلب ما أسلفت به هو مجرد تفسير حاولت أن يكون موضوعياً للواقع، وهو ما أبني عليه رأيي الذي بدوره يحتمل الخطأ كما الصواب، وهو ذاته التفسير الذي اقتنعت به حتى قبل انتقالي من العاطفية المثالية عبر الحياة والعمل في غزة الى العملية الواقعية عبر دراسة ومقارنة حالات صراع مشابهة في خارج غزة، بما فيها زيارة جنوب أفريقيا، التي—بما أننا نستلهم منها مراراً وتكرارً—تنتشر فيها مثل هذه البرامج بل وتُعلمنا أن منع مثل هذه المبادرات ما هو إلا سبب لإطالة معاناةِ الفئة الأضعف وجهلِ فامتيازِ الفئة الأقوى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب: حملة -تزوجني بدون مهر-.. ما حقيقتها؟ • فرانس 24 / FR


.. كأس أمم أوروبا 2024: ديشان يعلن تشكيلة المنتخب الفرنسي.. ما




.. هل تكسر واشنطن هيمنة الصين بالطاقة النظيفة؟


.. سكان قطاع غزة يعانون انعدام الخيام والمواد الغذائية بعد نزوح




.. إسرائيل تقدم ردها لمحكمة العدل الدولية على طلب جنوب إفريقيا