الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خدعة القرن-: تفكيك العنوان وتأملات في لغة العنصرية الكولونيالية

خالد الحروب

2020 / 4 / 12
القضية الفلسطينية


تقدم "خدعة القرن" ونصوصها اللئيمة نموذجا مُذهلا في آليات قلب الحقائق، وفبركة التاريخ الماضي والقريب، واستتفاه القانون والأعراف الدولية، وتكرار لوم الفلسطينيين مداورة او مواجهة، مقابل الانحياز الاعمى والمُعبر عنه بوقاحة إلى جانب المستعمر الإسرائيلي. احد الجوانب المُدهشة في نصوص الصفقة "القرنية" يتمثل في "فن" نحت، او تزوير، الكلمات والتعامل مع المصطلحات، وطمس كثير مما هو مُتعارف عليه منها، وتوليد مفردات خطاب جديد مرافق للصفقة والسياسات الامريكية والصهيونية المُنتجة لها. الطمس استهدف اللغة والمصطلحات والمفردات التي يستخدمها القانون الدولي والأمم المتحدة حول فلسطين وطيلة عقود طويلة. ففي طول وعرض مائة وواحد وثمانين صفحة لا تذكر "الخطة" على الطلاق مفردة "الاحتلال" حتى عندما احتلت إسرائيل سيناء من مصر، وتستخدم عوضا عن ذلك "وضع اليد" او "اكتساب". وطبعا لا يمكن ان نجد تعبيرا يشير الى "انسحاب الجيش الإسرائيلي"، لأن "الانسحاب" معناه ان احتلالا ما كان قد سبقه. وتعلن "الخطة" بوضوح ان قوانين مجلس الامن والقانون الدولي لا تشكل مرجعاً لها، وما تقره وتعتمده مرجعية بديلة هو سياسة وقرارات إدارة ترامب الامريكية الحالية. فعندما تناقش مثلاً موضوع القدس تنطلق من ان الموقف الأمريكي هو اعتبار القدس موحدة وعاصمة ابدية لإسرائيل، وهذه هي نقطة البداية والمرجع الذي يجب ان تتأسس عليه أيه توافقات لاحقة. وبطبيعة الحال ليس هناك أي ذكر إلى حقيقة ان القدس الشرقية تُعتبر منطقة مُحتلة بحسب القانون الدولي واستنادا الى عشرات القرارت الأممية الصادرة عن مجلس الامن. مُقابل عملية الطمس هذه هناك البعث للغة إحلالية جديدة، بعض منها تفككه هذه السطور، لكن البعض الاكبر يحتاج تحليله مساحة أوسع بكثير مما هو مُتاح هنا. وما تتوقف عنده هذه التأملات هو مكونات ومفردات وإيحاءات الوصف الإعلامي الترويجي الذي نشرته الإدارة الامريكية عن عمد وهو "صفقة القرن"، وكذلك صياغات العنوان الرسمي كما تُرجم الى العربية: "من السلام إلى الإزدهار: رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، وهو ترجمة غير دقيقة للعنوان بالانجليزية:
Peace to Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People
التحليل التالي يحاول ان يفكك العنوان باللغة الإنجليزية وهي اللغة التي تم صدر بها النص الأساسي الرسمي للخطة، وتم ترويجه من قبل الإدارة الامريكية.
ولتكن البداية مع الوصف الذي برز أولا في الخطاب الأمريكي ثم الإسرائيلي: "صفقة القرن"، وهنا فإن استخدام لفظ صفقة deal يشي بعقلية تجارية تنظر لكل أمور الحياة والاجتماع والسياسة والحقوق من منظور الصفقات التجارية وما تحمله من ايحاءات ربح او خسارة او اقتناص. وفعل وايحاء الاقتناص مقصود بشدة ولذاته هنا وموجه ضمنيا الى الفلسطينيين كي يقفزوا على الصفقة المطروحة وينتهزوا الفرصة ولا يضيعوها كما اضاعوا غيرها. وكما هو مُتوقع سرعان ما اندلقت المراهقة السياسية من فم جاريد كوشنر "مهندس" الصفقة بعد إصدارها منددا بموقف الفلسطينيين الذين اضاعوا الفرصة ولم يقتنصوها كما عادتهم في إضاعة الفرص! واساس هذه اللغة "الصفقاتية" تعود الى ثقافة دونالد ترامب نفسه الذي يعتقد ان "الصفقات" هي الوسيلة الانجع لمقاربة كل القضايا، سواء كانت شراء كازينو او بيع وشراء اوطان، بناء على خبرته الاقتصادية والتجارية والربحية. وحتى لو افترضنا انه لا ضرر في استخدام هذه المفردة في مجال الحقوق السياسية والوطنية المنُتهكة لأحد الأطراف من قبل الطرف الآخر، فإن الفضيحة الأكبر في هذا الاستخدام تكمن في ان احد اهم اطراف "الصفقة المُفترضين" غير موجود فيها اصلاً وغير موافق عليها إبتداءً ولم يُستشر في أي من بنودها. الصفقة تكون بين اطراف ونتيجة لمفاوضات وتوافقات، ولا يمكن ان تكون مفروضة على طرف رافض لها وغير مُشارك فيها بالأساس.
إضافة إلى ذلك، كيف يمكن اعتبار هذه الخطة "صفقة القرن" كله، من الآن وحتى نهايته والقرن نفسه لم يمض منه سوى عشرين عاماً فقط؟ على أي اساس تُغلق هذه الصفقة مستقبل العالم خلال الثمانين عاماً القادمة وتفترض ان هذه الصفقة هي الأهم فيه، رغم أهمية ومركزية الصراع مع الصهيونية في فلسطين؟ الأساس الوحيد هنا هو التضخيم والتفخيم والمبالغة بهدف حشر الفلسطينيين في الزاوية وخنقهم بهذه التهويلات واشعارهم بأنه ما من مناص إلا قبول "الصفقة" التاريخية. لكن فيضان التفاهة في الوصف "صفقة القرن"، وبنظرة استرجاعية الآن، يبدو انها زادت عن قدرة حتى المخرج الأمريكي ذاته عن تحملها، وقاده إلى تحييد استخدام هذا الوصف في العنوان الرسمي للخطة المذكور أعلاه، وقد خلا هذا العنوان بالفعل من التوصيف المعجزاتي وتهويماته التي أحال اليها تعبير "صفقة القرن".
اما الإنتقال الى هذا العنوان الرسمي نفسه والذي لا يزيد عن سطر، فبإمكاننا قراءة العديد من التضمينات والاستبطانات الاستعمارية التحقيرية للشعب الفلسطيني، التي تدفعه إلى في مرتبة اقل من الإسرائيليين، إضافة إلى نبرته الإدعائية العالية، كما سنرى ادناه.

اولاً: يبدأ العنوان من مرحلة تتناسى الصراع كلياً ويقول "من السلام إلى الازدهار" Peace to Prosperity متغافلا عن جوهر "الموضوع" وهو الصراع والإحتلال بالقوة العسكرية ولا يشير إلى هذا الصراع أساسا، بل يقفز إلى إدعاء عريض يتحدث عن الازدهار. ويمكن ان ينطبق هذا التوصيف التحولي "من السلام الى الازدهار" على علاقة أي بلدين او عدة بلدان مع بعضها البعض في العالم، وهو الانتقال من حقبة سلام عادية الى حقبة ازدهار، متناسياً عن قصد ان ما يسبق أي سلام هو حل أي صراع قائم بين الأطراف المقصودة. وهذا "التأسيس" الذي يقعده العنوان يعكس فعلا جوهر "الخطة" التي تنطلق من "الوضع القائم" كما هو وتريد ان تبني عليه "ازدهارا" وتنطلق منه وترسخه.

ثانياً: بعد "من السلام إلى الازدهار"، يأتي الوصف "رؤية لتحسين حياة ..." الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا يستبطن ان حياة الفلسطينيين والإسرائيليين تحتاج الى تحسين متساو وهي حياة تواجه نفس الظروف (والمعاناة)، والخطة تقترح كيفية معالجتها. وفي هذا الخداع اللغوي تصوير كاذب لمساواة في الظرف المُعاش عند الطرفين وهو ما تترجمه نصوص الخطة عندما تكرر الإشارة إلى معاناة الإسرائيليين من "الإرهاب الفلسطيني". في نفس الوقت تعمل هذه الكلمات الثلاث "رؤية لتحسين حياة ..." على طمس أسس الصراع التي في جوهرها احتلال واستعمار وسيطرة من قبل إسرائيل على حياة الفلسطينيين وحاضرهم، وليست حصراً مسالة تحسين ظروف معيشية. والمساواة القسرية لحياة الفلسطينيين حتى من ناحية معاشية مع حياة الإسرائيليين التي تناظر حياة الدول الغربية من ناحية معدلات الدخل وظروف المعيشة، فيها أيضا خداع واضح واولي يمهد لما سيأتي في تفاصيل الخطة من "تحسين" لحياة الإسرائيليين أيضا!

ثالثا: يستخدم العنوان كلمة "شعب" people بطريقة غاية في الإلتباس والمخادعة، إذ يقول:
to improve the lives of the Palestinian and Israeli people. كلمة شعب ملحقة هنا بالإسرائيليين في نهاية الجملة وعليه يكون واضحا للقارىء والعين العابرة على العنوان ان هناك "الشعب الإسرائيلي"، بينما لا تلحق نفس اللفظة بالفلسطينيين، بل يُستخدم وصف "فلسطيني" Palestinian بشكل اجرد. ولضمان عدم الحاق وصف شعب بالفلسطينيين فإن الصياغة تضعهم في العنوان قبل الإسرائيليين وهو امر شاذ في الخطاب الأمريكي والإسرائيلي الذي يعمد دائما إلى ذكر الإسرائيليين أولا. وهذا الترتيب في ذكر الإسرائيليين في المقام الاول هو ما حافظت عليه ايضا نصوص "الخطة" في صفحاتها المائة واحدى وثمانين. ويتبدى هذا بوضوح في عنوان القسم الثالث من "الخطة" الذي يقول "رؤية للسلام بين دولة إسرائيل والفلسطينيين والمنطقة". ليس هذا فحسب بل وفي معظم حالات الإشارة للطرفين فإن الوصف الغالب يكون: "دولة إسرائيل والفلسطينيين"، بمعنى التهرب من ذكر وصف "شعب فلسطين" او "دولة فلسطين"، حتى بعد ان تم تعريف هذه الدولة في "الخطة" بكونها عمليا ليست دولة ولا سيادة لها على الحدود او الموارد ومنزوعة السلاح وهدفها الوظيفي صيانة امن "دولة إسرائيل"، فإن النص يتباخل في ذكرها بشكل كاريكاتوري.

رابعا: من الواضح ان من صاغوا العنوان الرئيس للخطة واجهتهم معضلة لغوية سياسية تكمن في محاولة تمرير عنوان يبدو محايدا لكن يحافظ في الوقت نفسه على التراتبية الكولونيالية التي "ترقي" من مرتبة الإسرائيليين و"تخفض" من مرتبة الفلسطينيين. فلو كان العنوان فرضاً "رؤية لتحسين حياة الفلسطينيين والإسرائيليين" فإن هذا سوف يساوي بين الطرفين ويبدوان من ناحية حقوق جماعية to improve the lives of the Palestinians and Israelis ... وكأنهم على نفس المستوى، فضلا عن ان عنواناً كهذا يخفض من مرتبة إسرائيل والإسرائيليين حيث لا يؤكد على خاصية "الشعب" او "الدولة" التي يجب الحاقها بهم. اما إن كان العنوان "رؤية لتحسين حياة الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي، او الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي" to improve the lives of the Palestinian people and the Israeli people فإن فيه رفع لمستوى الطرف الفلسطيني الى مرتبة الشعب وهو ما حرص صاغة العنوان على تفاديه.

خامساً: هربا من هذين الخيارين انتهى مهندسو العنوان الى صيغة غريبة فعلا هي التي استخدمت عنوانا رسميا، وترجمتها الى العربية خلافية جدا، وفي احسن الحالات وادقها يمكن ان تكون: "رؤية لتحسين حياة الفلسطينيين والشعب الاسرائيلي"، على خلاف الصيغة التي انتشرت اعلامياً وهي "رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، وهي غير دقيقة. غرابة العنوان الذي اعتمده النص تكمن في عدة نقاط، منها استخدام الجمع لمفردة حياة lives، أي حيوات، بما يعني الإحالة إلى طرفين، وفي نفس الوقت استخدام كلمة "شعب" بصيغة المفرد people فقط وملحقة بالإسرائيليين فقط. ولو كانت هناك مقاربة صادقة في النظرة للطرفين على قدم المساواة لتم استخدام لفظ الجمع "شعبين" peoples. نستشف من هنا ان الجمع الذي استخدم في مفردة حياة، حيوات، هو رشوة لغوية لئيمة هدفها تشتيت الإنتباه عن الإنتقاص الأهم الذي حدث في تفادي صيغة الجمع لكلمة people، وهكذا وعبر هذه البهلوانية اللغوية سوف تمر التراتبية الكولونيالية التي تخفض من شأن وموقع الفلسطينيين. الخلاصة إذن، من ناحية المعنى والسماع الصوتي، هي ان استخدام "شعب" بصيغة المفرد يحيل إلى ان الموصوف الأقرب هو الطرف الإسرائيلي فقط، والقراءة ستكون: "الشعب الإسرائيلي"، وليس "الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي". إذن قبِلِ "مهندسو" العنوان الركاكة اللغوية هذه مقابل ان لا يتم مساواة الطرف الفلسطيني بالإسرائيلي في العنوان، فلم يستخدموا صيغة الجمع (المثنى بالعربية)، أي "الشعبين" في خاتمة العنوان كما تفترض سلاسة اللغة: " ... رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، مثلا.

سادسا: تتضاعف ركاكة وغرابة والتباس العنوان أيضا لأنه قد يُقرأ قراءة اخرى تشي بأن الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي هم شعب واحد مكون من مجموعتين اثنيتين مختلفتين، وان هدف الخطة هو تحسين حياة هاتين الإثنيتين، بسبب استخدام صيغة المفرد لكلمة "شعب" كما اسلفنا. وهذه القراءة التي تعيد خلط الأوراق تعكس ُمقاربة هامة تطرحها "الخطة" وتريد ان ترسخها، وجوهرها تعريف الصراع بكونه نزاع إثني بين مجموعتين بشريتين يمكن حله من خلال إعادة ترتيب "آليات" التعايش بينهما. وإعادة التعريف هذه تريد ان تشطب من القاموس كل ما له علاقة بمفاهيم الاحتلال، والسيطرة على السكان، والتراتبية الاستعمارية، وسرقة الأرض والموارد، وسوى ذلك مما كرسه القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. ومن هنا فإن الوصف الذي تستخدمه نصوص "الخطة" عند الحديث عن المستوطنين اليهود هو "السكان اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية" أو "الجاليات اليهودية ...". وتتحدث بلغة مشابهة عن فلسطيني المثلث داخل فلسطين المحتلة عام 1948، مُوحية بأنهم جالية فلسطينية تعيش في إسرائيل، وبذلك فإن المشكلة تكمن في التعايش بين إثنيات فلسطينية ويهودية ويمكن التفكير بحلول "إبداعية" مثل نقل السكان وغيره.

"خدعة القرن" ونصوصها وعنصريتها واستعماريتها واحتقارها للفلسطينيين والعرب واستعادتها لكل منطق الاستعمار الغربي الأبيض في فلسطين، كما يقول الصديق رامي خوري، تُقدم درسا مُتجددا في تمثلات العنجهية الامريكية والإسرائيلية التي لا تعرض على الآخرين إلا ما يركعهم ويكرس من إذلالهم، وفي حال قبلوا وركعوا فإن مصيرهم مواصلة الدوس عليهم الى الابد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن