الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية

عايد سعيد السراج

2020 / 4 / 12
الادب والفن


الفصل. الأول من رواية. الأديب. ايمن ناصر. ومن المعروف أن الفنان. التشكيلي. والنحات. ايمن ناصر .قد اصدر عملا. روئيا. بعنوان. اللحاف. وكانت هذه. الرواية جريئة وتحدثت عن الأحداث التي جرت معه عندما كان معارا الى. دولة. اليمن في. التسعينات وكذلك عيشه في مدينة. الرقة السورية.


أيمن احمد ناصر

رواية (روجين) انتهيت من كتابتها في مدينة الرقة ربيع 2011
عند رغبة بعض الأصدقاء أعرض
المقطع الأول من الفصل الأول.
*******************************

عتـبــــة
جلستُ وراء مكتبي أقلِّب جمر الأفكار مزحوماً بأوراق مخطوط رواية بدأتها قبل عامين. كان ذلك صباح أحد الأيام حين استيقظت وفي ذهني دبيبُ فكرةٍ تلاحقني. أمضيت سحابةَ نهاري أستنهض همّتي متحمّساً لها. موضوعها يقوم على تأليف رواية أستعيد فيها من دائرة النسيان على نحوٍ مخاتل قصّةَ فتاة في مقتبل العمر. صبيّة ترقص على هضبات عمري بينما أهبط فوق الخمسين بعامين أو ثلاثة. اتسعت روحي وأنا أستحضرُ بحياءٍ داشرٍ تفاصيل جسدها وملامح وجهها العذب. استهواني الموضوع أشدَّ استهواء وحرّك رماد عشقي للنثر والمثاقفة.
وأكاد أجزم أنَّ ما أكتبه مجرّد وهمٍ عشته في زمن ما.
الفكرة باختصار اعتمدت على أنّني أحتفظ برسالة مميّزة من تلك الفتاة. رسالة ليست كباقي الرسائل. فيها ما يلهب الروح والجسد ويخدِّرهما بآن. اقتنعتُ بالفكرة وكتبتُ أكثر من ثلاثين نصّاً لتلك الرسالة، ولم تعجبني حتى التمعت في سماء ذاكرتي قصيدةُ نثرٍ أعجبتني كتبَتها صديقةٌ على جدارها الأثيري ذات يوم على صفحات النت. وهي شاعرة أمضت سنوات في بلاد الاغتراب مع زوجها. لكنها رجعت مُطلّقة لتستقر في دمشق. وفي إحدى جلساتنا العالية المستوى دعوتها للسهر معنا احتفاء بصدور ديوانها الثاني. عرّفتُها إلى أركان الدائرة التي أنتمي إليها. ومنهم الدكتور صهيب الذي كان عائداً لتوّه من أوروبا، ولا يعرف كثيراً عن تاريخ بعض فتيات البلد اللواتي تركهن طالبات في الثانوية قبل سفره إلى ألمانيا. وعودة صهيب كانت بناء على إلحاح من نسيبه رئيس الحكومة المكلّف بإعادة تشكيلها. وعده بمنصب وزير الشباب والرياضة. وأظنُّ صهيباً في تلك السهرة أعجبته الشاعرة حتى سألني عنها بنيّة الزواج فأثنيت عليها وقام بخطبتها رسمياً. حفظت هي لي هذا الجميل. سبقتني أصابعي للاتصال بها عبر هاتفي النقّال:
- " صباح القصائد، شاعرتنا الجميلة"
- " أهلاً دكتور متعب. صباح النور"
- " ألا ترغبين في الخروج؟ "
- " متعب، أعرفك، لا تتصل إلاّ لأمر يخصّك، هات من الآخر"
- " هل نشرب نخب خطوبتك؟ "
- " أنت قلتها. أي استحالة خروجي مع غير خطيبي"
- " ليكن، لكنّي أحتاجك "
- " قل، أسمعك"
- " أحتاج واحدة من قصائدك الطويلة، تلك التي تتحدث عن الأفعى المقدسة لكتابٍ أشتغل عليه"
شمتتْ ساخرة: "حتى تعلموا معشر النُّقّاد أن لا غنى لكم عن رومانسيتنا نحن الشعراء في كتاباتكم المملّة".
خبَّأتُ ضحكة كبيرة وراء فمي وقلت:
"بالتّأكيد، ولكن هذه المرّة ليس كتاباً نقدياً بل رواية".
أجابت منذهلة بالخبر: "معقول! أخيراً متعب المبروك صاحب القلم الحديدي، الناقد الصّلب، ورئيس تحرير أكبر صحيفة ثقافية سيكتب رواية!"
قلت: "هو كذلك يا ست فرح" وكان هذا اسمها.
"ما دام الأمر كذلك، هي تحت أمرك، صُغ منها ما شئت. سأرسلها على جدارك لتظلّ شاهداً أكيداً على بصماتي في روايتك".
مازحتها: "ترسلينها، من تقصدين؟ القصيدة أم صاحبتها؟"
"متعب، ما زلت على طبعك، لئيماً تصطاد في الماء العكر"
قلت: "وما ذنبي إذا كان الماء عكراً بالأصل والسمكة لا ترغب بالسباحة في مياه نظيفة". ضحكتُ بيني وبين نفسي لظرافتي الوقحة، والجارحة ربما.
ردّت بغضب: "بدأنا بالغلط متعب أفندي؟ هذا أنت، لم تتغير أيها اللئيم. أنسيت أنني أصبحت خطيبة صديقك الوزير. حسنٌ سأتيك بالقصيدة ودوّنها باسمك إن شئت" وأغلقت الهاتف بوجهي حانقة".
ما كان يجب أن أقسو عليها بهذه الوقاحة. ولكن ما كان عليها أن تغلق الهاتف بوجهي بهذا الشكل أيضاً. ما دفعني حقيقة إلى ذلك، أنني كنت واثقاً من أنّ صهيباً لن يستمر في خطبته معها، ولن يتزوجها إذا اكتشف حقيقتها التي لا يعرفها أحد غيري من دائرة أصدقاء صهيب الضيقة.
بعد يومين اتصلتْ: "القصيدة معي، أنتظرك في الكافتيريا بعد نصف ساعة"
"لم لا تأتي الجريدة. تعالي، لا أحد هنا"
"أرجوك متعب، دع هذه النغمة. لا وقت لدي. صهيب ينتظرني في مكتبه بالوزارة. سأعطيك القصيدة وأذهب إليه".
التقيتها في كافتيريا الكرنك ،المكان المعتاد للقاءاتنا السابقة. ما إن جلسنا حتى اعتذرتْ لي عن إغلاقها الهاتف بوجهي. قدّمت لها سيجارة. دخنتها بنهم. كانت غاضبة وخائفة من أن أثرثر شيئاً لخطيبها يجعله يفسخ الخطوبة ويرمي الخاتم بوجهها:
"أنا مَدينة لك بالكثير، وآمل أن تستطيع مساعدتي في إكمال زواجي".
طيّبت خاطرها:
"اطمئني فرح" وناولتني القصيدة في مظروف أنيق ،ووعدتها بالمساعدة في إتمام زواجها ، ما دامت مخلصة لصديقي الوزير، ولي...
عدت إلى الجريدة، قرأت القصيدة مرّات ومرّات. لكنها لم تكن كما ظننت. أعدت صوغ مفرداتها على شكل رسالة تودِعها تلك الصبية في جيب سترتي، لكن ذلك لم يعجبني أيضاً. رحت أُشعل نار ذاكرتي المتهالكة تحت أسوار هذا العذاب العذب. مرَّ عامان ومازلت أكتب.. حتى وجدت نفسي بعد عامين ملءَ نفسي. بعيداً عن فرح وقصيدتها. وأنّ قصّة حبٍّ قد حصلت معي فعلاً قبل عشرين أو خمسٍ وعشرين سنة. تابعتُ كتابة الرواية بنفسية مقاتل محصّنٍ بكل أنواع الدفاعات الأدبية والمواجهات النقدية المتاحة. ولا يخلو الأمر من عجرفة نحوية ومقاطعَ أشبَهَ بمحاولات يائسة لرشوة القدر في أن تكون تلك الرسالة واللقاءات الحميمية حقيقة، وليست وهماً ينسجه خيالي المريض. بدتْ لي وأنا أستعيد هذه اللحظات النائية من الإلهام ،قصّة ماثلة في جيب ذاكرتي يمكن سكبها بيسر وسهولة.
أُصابُ بالرعب كلّما فكّرت بأنّني أصبحت مستودعاً جافّاً للذكريات، ولا أنكر بأنّها ذكريات محطّمة. من منّا أصلاً ينفي وجود منطقةٍ ما في ذاكرته لا تقع تحت الاحتلال المباشر للماضي.
أُشعل نار ذاكرتي المتهالكة تحت أسوار هذا العذاب، ومن يراني منهمكاً ومستغرقاً يعتقد أنّني أفكّر تفكيراً عميقاً، بينما أكون في الواقع خاوي الرأس متوقّف التفكير.
لم يطل بي الوقت، حتى تحقّقت أنّ عملي أنا متعِب المبروك -الكاتب وأستاذ النقد في جامعة دمشق- لا يصادف أيّ تقدّم، بل يتطوّر إلى أسوأ مما كان. فكتابةُ رواية عملٌ شاق.
تعاظمت في داخلي المخاوف بحثاً عن مخرج مشرّف، وبلغ هذياني حدّاً مخيفاً حين بدأت أسمع صوت تلك الصّبيّة بين السطور، بل وأصبحت قادراً على رؤيتها واستحضارها وقتما أريد، وأروح (أحصي فوق جسدي آثار لمساتها وأعدّها بفرحٍ، كسارقٍ يحصي غنائمه).
هذا الإحساس يتصاعد خاصّة حين أبدأ الكتابة عن مفاتنها. تتدفق الدماء في عروقي كأغنية تتفرّع حتى أكثر الأركان خفية في جسمي، وتعود إلى القلب المطهّر بالحب.
بَيدَ أنّني عندما كنت أجلس أمام الورق تظلّل وجهي سحابةٌ عتيقة من الكآبة تحطّ غلالها حول عينيّ، ترتفع حرارتي وأتوقّف عن الكتابة. أروح وأجيء مع دغش ذكريات بعيدة. أبقى جامداً أفكّر بحرارة المكان وبحرارة أنفاسها. ترتبك أصابعي فوق ورقة ممتلئة بكلمات وعبارات يكثر فيها الحذف فأعيد نسجَها من جديد لعلّي أحصل على حفنة صغيرة من السعادة. أُخرج رسالتها من درج ذاكرتي. أسرّب عطرها عميقاً في كثبان خريف عمري. أتنشّق بَهار الكلمات وعبق هاتيك الأمكنة وذاك الزمان. قرأتها مرّاتٍ ومرّات. لن أدع مثل هكذا رسالة تلوذ بعيداً عن وحشة الروح.
وأنا أقرأ، كان وجه روجين الجميل بين السطور ينساب مع صمت الغرفة، بارداً لزجاً يستفزُّ كريّات دمي، وأنا أتلذذ بصدى صوتها الهامس:
(أتدري حبيبي "متعب"؟ أعدُّ الساعات والدقائق احتفاءً بقدومك.
أرتّب أوراقي كما يحلو للصيف أن ينام. أبتكر شوقاً لك لا ينضب. أرسم لهفتي بكلِّ الألوان، أُفتِّش عن احتدام الأحمر بين التفاصيل لعلّي أجدُ لوناً يليق بمناسبة قدومكَ هذا الصباح.
حضورك يسعدني مثل طفلٍ بحضرة قوس قزح. واقعةٌ أنا بغرامك يا "متعب" فما
عادت عصافيرُ قلبي غافية. حبرُ غيابك أيقظها فغادرتْ دفاتر النحو.
قل عنّي ما شئت مجنونة مريضة، معقّدة. فأي نعتٍ ترميني به هو منك. حضوركَ بأحلامي يتدفّق شوقاً محموماً.
كنتَ تعاملني كطفلة، وأشعر بحزن كبير حين تداعب خدّي كفتاة شقية عليك إرضاؤها، أو حين تقترب منّي لتصحّح لي أخطائي الإملائية في دفتر التعبير فتنتابني رغبة في تقبيل خدّك، وما أن أضع يدي فوق يدك حتى تنتزعها بحركة سريعة فتتركني كسيرة القلب، عشباً يابساً، لوحاً مُرصَّعاً بالتعب والعاج. أشتهي أن أقطف لك كلمات وكلمات من أشجار البلاغة، كما علمتنيها. ولكن، كل الكلمات رثّة. وحبّك جديدٌ جديد، ولأنّي أحبّك، عاد الجنون يسكنني، والفرح يشتعل في قارّات روحي، وعيناك تخالس صمتي.
حين أحببتك، خرجت كل الأديان من قلبي وبقي الله.
بغيابك تنتحر أبجدية جسدي. تصبح الأيام صيفاً حارقاً.
تذكَّرْ دائماً أنَّ عشقنا ليس خطيئة، فقط بمعتقدات أهلي وترنيمة قدسية الأفعى. الأفعى، هل تذكر تلك الأنثى البديعة العصيّة على الأَفهامِ؟ حدّثتُك عن قداستها.. ليتك تسمع نداء قلبكَ مرة واحدة.
أنا صنيعتك يا متعب، كما "غالاتيا" صنيعة "بيغماليون"، هو نحتها من عاج وتجرّأ على الآلهة لتحولّها امرأة من لحم ودم. أمّا أنت كتبتني بحبرِ وهمك، ولم تجرؤ على تحويلي كائناً حيّاً حتى في ذاكرتك.
أعرف أنّك تحبّني مثل كتابٍ نقديٍ صاغته أنامل عقلك اليابسة، وأعرف أنّك ما مشيتَ يوماً تحت المطر، وأنت ترتعش من الحب. هي المواسم يا سيدي تسجنك في آنية من نحاس تقطرك كخمر الأمنيات. هو بستان الخوف يحيط بك منذ طفولتك، يسكن ذاكرتك كرغيف تنّور مرشوش بالزعتر. دعنا لا نسمّي الأشياء بمسمياتها ،فعندما نسمّيها ننفصل عنها.
فقط، حينما تقرّر القتل، اجعل قلبك كالحجر، ولا حاجة لإراقة الدماء.
ملحوظة: أعرف أنك ستضحك ضحكتك المتخابثة تلك من عباراتي المنتقاة من رواية هنا وديوان هناك، أعرف ذلك. لكنّي أظلُّ قطرةَ نبيذٍ تتماهى بين شفتيك، وتنضوي فراشة تتشهّى الاحتراق بين تويجات قلبكَ المشتعل.
(مجنونتك السامّة.. شمس الحياة)

الفصل الأول

-1-
أضحك ملْءَ حزني من نثار كلماتها. أرشف ما تبقى من سلاف قهوتي مع انتهاء رسالتها، ونبوءةٌ بين الحروف تُسفرُ أنّها ستظفر بي يوماً ما. تؤكّد أنّ سُمّها هو الترياق الذي يبقيني عاشقاً لها للأبد. عشقٌ يجعلني لا أرى أجمل منها بين النساء، وخوف مورّث بجينات دمي يؤكّد أنّ ترياقها وصل إلى جرحٍ أحدثته في كيان حياتي، فظلّ مفتوحاً، مقروحاً إلى الأبد.
يغلبني اللهاث وراء كلمات أجمعها في مخطوط رواية ينسدر غطاؤها عن نار موقدة في دمي، اسمها: روجين.
يجدر بي أن أتوقّف عن جنوني وتضرُّع الكتابة إليها. يخطر ببالي أن أمسك تلابيب ذاكرتي. أُذلّها. أطفئ سيجارتي وسط قلبها. أبتدع لنفسي ذاكرة نظيفة بدل ذاكرة تشوّهت. فالحب ليس بهذه البساطة. الحب هو: أن ترتجف قدماك حين تفكِّر بمن تحب.
روجين، يا وليدة خيالي المهووس بالجمال والخوف من المجهول. ستأتين عزفاً هادئاً في صخب المخطوط. صحوةَ هواجس وحواراتٍ كاذبة لم تحصل بيننا ربما. لست أذكر عنكِ سوى ما تنطوي عليه ذاكرتي المهشّمة من وهمٍ جميلٍ، ودفءٍ كنت تغمرينني به، وشرخاً أحدثتِهِ في روحي الضالّة. غدوتُ أستجمع ملامحك بذلك الوضوح الذي كنتُ أتذكّرك به. حاولت كتابتك قصيدة كافرة، فعدّتُ وآمنت بك.
أهادن وجع الكلمات. أكتب وأمزّق.. تأخذ الأمور شكلها المستدير فيصهل الحنين بين أصابعي. تضيق العبارة في عقلي المرتبك وتتسع رؤية ما أتذكّره من وطأة صباحات ريفيِّة مفعمة برائحة النهر وضوء الأغنيات.
حقيقة الأمر. مرّت أزمنة لم أعد أذكركِ فيها، رغم أنّ صوركِ تطارح الزّمن الذي أسرها بين جفنيّ. إلى أن جاء يوم ولمحت فيه فتاة تشبهك من طالبات الكلية لا أعرف اسمها تمرّ أمامي في بهو الجامعة. تضم كتاباً إلى صدرها. وكأنّ أحداً أسقط حجراً في مياه قلبي الراكدة، بل أضاء عود ثقاب في ظلمة ذاكرتي وتركني محتاساً بك، مسكوناً باللهفة. بدت لي مرحة، نشيطة، مشاكسة بأنف جامح منحوت بعناية إلهية، وشفتين مثقلتين بدرّاق شهي أوقدتا دفئاً في عروقي، كأنّما آتية من أحلامي بمفاتن جسدك يبرزها بنطال ضيق، وبلوزة فاقعة الصفار تكشف حدود كتفين مدهشين بلون البرونز، ومساحة مرحة من صدرها ينعكس عليها ضوء النهار بلون برتقالي يتحول إلى لون أحمر دافئ يعطيها عظمة وبهاء أشعراني بنشوةِ سُكْرٍ عميق وغامض. إنّها أنت، لم أصدّق! كان الشّبه عجيباً غريباً، بل مطابقاً. سيماء حسنك واستواء قدّك وألق الّلوز بعينيك. مشيتك وليل شعرك الأسود الفاحم. باختصار، كلّها على بعضها كانت كلّك على بعضك.
ماذا بعد؟ أبحث عن لغة تليق بوصفك. لفَّتـني غيمةٌ من نعاس لطيف كأنّه جزء من موت غير موجع، ولكنّه لا يحمل اسم الموت!
استبدّت بي الخواطر. لا بدّ أنّها روجين. ملأني الحبور، وغمرتني مشاعر غريبة ألهبت عقلي وتسلّطت عليه. تابعتها حتى وقفتْ مع زميلة لها تُحادثها. دنوت منهما. عن بعد خطوتين أو ثلاث عنَّ لي أن ألمسها أقصد ألمسك، أشعر بك، أعبث بشعرك المعقود كذيل فرس. لكنّي جبنت. أغمضت عينيّ على ثلوج فتنةٍ وسواقي فرح. أخضعني الخوف للتخاذل فما عدتُ شجاعاً كأيّام زمان. استدارت وانتبهتْ لنيّتي.
اقتربتُ أكثر متظاهراً بالنظر إلى لوحات معلقة على جدار البهو. حاصرتني العيون فتهيّبتُ الإقدام أكثر. ما الذي يجري؟! هذا ليس سلوك أستاذ الدراسات العليا الدكتور والباحث "متعب المبروك" الذي يرهبه الزملاء ويحترمه الدكاترة قبل الطلبة.
هجست: لماذا تزداد الرغبة في الحياة بحضور الخطر؟ وأيّ خطر!
انجرح قلبي وتناثر وقاري في المكان وهي تروزني من قدمي إلى رأسي، ثم تتأبّط صاحبتها ملاعبة أصابعها وراء ظهرها تحيّيني بشيطنة تلميذة، ثم تطلق ضحكة صافية، وتنساب كجدول. كان عليَّ أن أحافظ على قوّة شخصيتي وطبيعتي الجافة التي يعرفها طلابي. فرملتُ مشاعري وحاولت تغييبكِ، وأنا أتابعها ببصري.
دخلتُ قاعة الدرس. نثرت أوراقي على المنصة، ورفعت رأسي أتفحّص المدرّج. كانت تجلس في الصف الأمامي.
هي من طالباتي إذاً! لكنّي لم أرها من قبل.
عيناها في عينيّ. نظراتُها أيقظت ياسمين اشتهاءٍ في دمي. كانت على رأي عبد الرحمن منيف: (عالَماً طفلاً يركض برعونة نحو الفرح والحزن معاً) عربد عقلي بلذّةٍ ما استطعت صدّ نفسي عن الاستسلام لها. أخذَتْ تتوثب في مجلسها توشوش صديقة لها. أظنّها هامستها كلاماً يتعلّق بي؛ فعيناها معلقتان بأشرعتي وأذنُ صديقتها تكاد تنغرز في فمها.
كان عليَّ أن أكبح نفسي كي لا يبدو عليّ التأثّــر اللعين. كتبتُ عنوان المحاضرة على السبورة: (شعرية العنوان في الرواية السورية الحديثة) ثم استدرت لأتكلّم. لكنّي لم أنطق بحرف. تيبّس حلقي ولم أقدر على ابتلاعه مثل أنبوب لحم مجفف. نطقتُ بجملة واضحة: "المعرفة الحقيقية تأتي من الداخل" ثم اختنقَ حلقي بجُملٍ قصيرة وسريعة قلت بعضها سراعاً. ثم تابعت حديثي بهدوئي المعتاد إلى أن خانتني اللغة وأنا على منصّة الكلام، فطلبت منهم إخراج النّوَط.
"الدكتور مرتبك، لا بدّ عاشق" همس أحد الطلبة في الدرج الأول. سعل آخر مشاغباً: "لعلها مراهَقة الخمسين. انظر يكاد يأكل روجين بعينيه" غشي وجهي فرحٌ ثقيل وهو يذكر اسمك. لم يكن ينقصني إلا هذا! تجمّد قلبي، هل قال "روجين" فعلاً؟ ما عدت أذكر. غرقت في حالة لا يمكن الإفلات منها. أمّا هي فقد تبسّمتْ بخبثِ أنثى تعرف ما تفعل. كانت تدرك أنّها سبب ارتباكي. أشعرَتني بالحرج. كان لا بدّ من تخفيف وطأة المباهاة التي غمرَتها فعبستُ جادّاً في وجهها. ثرثرتُ بأسئلة وجملٍ لأتخلّص من تأثيرها عليَّ، لكنّها لم ترتدع.
واصلتْ قذف سهامها، وواصلتُ حرَجي رافعاً صوتي ملتفتاً عنها إلى طلاب المقاعد الأخيرة، ثم رميتُ بصري فوقها فرأيت وجهك يبتسم لي يغمزني ويضحك. ارتخيتُ تحت وطأة جاذبية الأنثى وما يجري تحت الجلد من طبيعتها المبهمة وغموض قانونها الرهيب. تلك الجاذبية التي يقول عنها "إبراهيم الكوني" في روايته "التبر": آهٍ من جاذبية الأنثى لا أحد يعرف ما هي، لكنها تجذب وتجذب. إنّها كهمهمات الجن. أعترف، لقد أوقعتني في حيرة وارتباك. اشتعل قلبي بالخوف وبكى من فرط توقي لك. غدوت نهب لذَّة لن أنساها في حياتي. فالجمال الأنثوي إبداعٌ إلهي لا ينتهي.
رمقتني بتلك النظرة التي يرغب كل رجل أن ترمقه بها أنثى من هذا النوع. ابتسمتُ، نعم، كان لا بدّ أن أبتسم وأنتشي وأنا أتخيّل مشهداً حميمياً معها. يا إلهي، كم يبدو الأمر بعيداً عن الواقع الآن! فما يمكن أن يغطّيه الوقار يفضحه خيال فتاة في السادسة عشر من عمرها. بدا لي كل شيء قريباً ناعماً، ويداي تتسللان إلى الصدر والأرداف وأسفل البطن... لكنّي أجفل. كان اتجاهاً عربيدياً خاطئاً في التفكير. أحسست أنني ثورٌ إسبانيٌ مترعٌ بمتعة مشعّة، يرهز بحافره قبل الانقضاض على راية خصمه الحمراء. هدّأتُ روعي خفيةً، وحدّقتُ إليها بتركيز أقلّ. نخرتُ، ثم أكملتُ ما بقي من المحاضرة على عجل.
دقائق ثقيلة من الصمت مرّت. شعرت بضرورة فعل شيء، لكن كلّ ما فعلته أن جرجرتُ عينيَّ بعيداً عنها وأودعت الحقيبة أوراقي، ثم غادرتُ الحَلبة قبل أن يؤول الوضع للأسوأ.
فحواسّنا لا يمكن الثقة بها كثيراً.
هرعتُ إلى البيت من فوري. ما إن دخلت مكتبي حتى فصلت الهاتف الأرضي، وأطفأت الجوال كي ألوذ بموسيقا ذاك الإحساس الذي يتملّك شخصاً ينهض في الصّباح معذّب الروح، يتذكّر سهرة الأمس التي أَسرفَ فيها بالشّراب، وقادته النّشوة إلى إطلاق عنان نزواته الخاصّة فبدأ بجلد ذاته.
في لحظة مليئة بالعذوبة استعدت صهوة روحي. وبلهفة عاشق عدتُ إلى الماضي ليس هرباً من الحاضر، بل لأجعل الحاضر أكثر وضوحاً. أضع الرسالة جانباً، وأمدّ أشرعة الكتابة في يمّ المخطوط مثل بحّار حزين يرفع أشرعة انتظاره غير عابئٍ بألمٍ فظيع في مؤخرة رأسه.
لم أتقدم بضعة أسطر حتى داهمتني زخّات خواطر شوّشت ذهني وعطّلتني عن الكتابة. يتعقّد الأمر أيّما تعقيد رغم حماسي المفرط.
آه يا روجين، لا نعرف أهميّة من نحبّهم إلا بعد أن يغادرونا. نكتشف بعد رحيلهم عطراً مجنوناً يلتصق بجدار القلب.
لأجلك روجين، سأسعى جاهداً للكتابة حتى النهاية، في جو من السكينة بأصابع لا ترتجف، ورغبة في الحياة تنقذني من عشقٍ يُذهب العقل تنبّأتِ لي به، ولا أستطيع الإفلات منه.
ينتابني إحساسٌ، أنّ ما مرَّ من حياتي شبيهٌ ببِرْكة معاناة غصتُ فيها بكامل ثيابي كي أنقذ نفسي من غَرَق. أتساءل أحياناً: لمَ تحدثُ للمرء أشياء مجنونة لا يستطيع الاعتراف بها؟ فكلّما تذكرت هاتيك الخوالي من الأيام، أو قرأت رسالتك، تنتابني حمّى تُرعد أوصالي وأهذي. هل هو انطباعٌ آنيّ؟! أم عذابُ لعْنتك يتركني يابساً كورقة خريف عارياً إلاّ من غبار عشقك وحكمة سنواتي الخمسين؟ لا أدري. باعتقادي لا هذا ولا ذاك، فثمّة ذكرياتٌ لها رائحة لا يمكن التحرّر منها. تُذكِّرنا بها ومضةٌ، أو عطرٌ، أو كلمةٌ ما حتى بعد عشرات السنين. كأنّما نحتاج دوماً إلى ما يحرّر مخيلتنا، ثورة تنسف زيف حياتنا.
كنت أشعر بثقل حاجتي للمرأة حين تُغرقين رموش حروفك في سجود طويل، وتزيدين جرعات جنونك في قصاصات وأشعارٍ تدسّينها في جيبي خلال زياراتي القصيرة لبيتكم، توقعيني في كمين الارتباك والشهوة فيما تكتبين ومقولة "أُنسي الحاج" ترنّ في أذني (لا أعرف قَصاصاً أكبر من الحب) أُبعِدُ ذلك عن مخيلتي معتبراً ما تريني إياه إرهاصات فتاة مراهقة، فخبايا التوت لمّا تحمرّ حباتُها، والقزُّ ما زال في شرنقة اللذّة لمّا يتحررْ. يشعرني ذلك بالخزي كلما فكّرت به. كم أرغب أن تنشبي أظفار روحك في جسدي، أن يكسر حضورك بلّور ذاكرتي، أن تخرجي من بين السطور وتكلّميني، وألّا تظلّي صامتة. فقط أرغب بالاعتراف وأن أصرخ في مدىً لا يُحدُّ صداه. ولكن لمن أعترف؟ من يستحق من البشر أن أعترف أمامه أصلاً غير الورق؟
كنا نغبط صديقنا "آرسين" حين كان يأتينا ضاحكاً سعيداً ليخبرنا أنّه غدا نقياً خالياً من العيوب، بعد أن اعترفَ ورمى كل آثامه في تلك الحجرة الصغيرة، وغدا مستعداً للقاء الرب دون خوف.
"كيف ذلك يا آرسين؟" نسأله؟ فيجيب: "أتاحت لنا الكنيسة طريقاً للخلاص من الذنوب، حين كلّفت آباء (مقدّسين) بتلقّي الاعتراف".
لكنّ آرسين ونحن نعود لآثامنا من جديد. يعترف هو ليعود نقياً حسب اعتقاده ونبقى نحن ملوثين، وهكذا، لعبة ظريفة كان يلعبها كلّ حين مع كاهن جديد. لعلها بدعة بيضاء ابتدعتها الكنيسة لفتح باب التوبة وتنقية القلوب من الآثام. ليتني أجد ما يستحق أن أبوح به سوى القبح الذي نبق بذاكرتي بعد ذاك الحادث الذي أودى بحياة زوجتي.
ليتني أجد كذباً أبيض أغمر به من يسمعني ليباركني وأرتاح. يفتح لي باباً لتوبة تغسل ذنوبي.
* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-