الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إضاءاتٌ على البردةِ الثالثة

حسناء الرشيد

2020 / 4 / 12
الادب والفن


بل بُعدهُ , قربهُ لا فرقَ بينهما
ازدادُ شوقاً إليهِ , غابَ أو شهدا

كان هذا البيت هو أول ما قرأتُ من تلك القصيدة , والذي جعلني أذهبُ بسرعةٍ إلى موقع ( الگوگل ) كي أبحثَ عنها لقراءتها , أدركتُ حينها أن ليسَ لجزءٍ مهما عظُم أن يُعبّرَ عن الكلِ الذي سنخسرُ الكثير إن لم نقُم بقراءته بصورةٍ كاملة ..
فــ ( تميم البرغوثي ) المعروفُ بجرأته وتبنّيهِ للكثير من القضايا الوطنية لم يكُن أقلّ جرأةً في كتابته لقصيدة ( البُردة ) التي نُدركُ من قراءتنا لعنوانها أنهُ لم يقُم باختيارهِ جزافاً فقد جاء كنوعٍ من المجاراة _ أو ( المعارضة ) على حدّ زعمهِ في تقديمهِ لقصيدته _ وهذه المعارضة كما ذكر كانت لقصيدتي البوصيري وأحمد شوقي والمعنونَتين بذات الاسم , وكان حاذقاً كذلك حين أبقى على بحرِ البسيط مع تغييرِ القافية من الميم الى الدال كي يبتعدَ عن تكرار المعاني والمفردات الموجودة في القصيدتين السابقتين . وقد قام باتباع ذات الطريقة في كتابتها وأعني ابتداءهُ بالغزل الذي يصيرُ فيما بعد ( عشقاً صوفياً ) بامتياز :

وسنةَ اللهِ في الأحبابِ أنَ لهُم
وجهاً يزيدُ وضوحاً كلما ابتعدا

وقد رضيتُ بهم أن يسفكونَ دمي
لكن أعوذُ بهم أن يسفكوهُ سُدى

ثم ينتقلُ شاعرنا لغزل العيون الذي اعتادهُ العرب قديماً وحديثاً كذلك :

قُل للقدامى عيونُ الظبيّ تأسرُهم
ما زال يفعلُ فينا الظبيّ ما عهدا
لم يصرع الظبيّ من حسنٍ به أسداً
بل جاءهُ حسنهُ من صرعه الأسدا ( وهو في هذا يُفندّ قوانيناً قديمة ويضع مكانها رؤيتهُ الجديدة أو فلسفتهُ الخاصة به وحده ) .

وهو أيضاً يبررُ بعض تصرفات العشاق بقوله :

لولا الهوى لم نكُن نهدي ابتسامتنا
لكل من أورثونا الهمَ والكمدا
ولا صبرنا على الدنيا وأسهمها
قبل الثياب تشق القلب والكبدا

ثم يعرجُ شاعرنا بعد هذه المقدمة نحو وصف النبي الذي لم يقصد أن يمدحهُ ( مدح الملوك ) على حدّ تعبيره , بل هو يرجو أمراً آخر :

إني لأرجو بمدحي أن أنال غداً
منهُ الشجاعةَ يوم الخوف والمددا
أرجو الشجاعة من قبل الشفاعةِ إذ
بهذهِ اليوم أرجو نَيلَ تلكَ غدا ( ويا لهُ من مطلبٍ رائع حقاً ) !

ثم ينتقلُ للكلام عن الصفات التي يتصفُ بها رسول الله من سخاء وكرم , أو من معجزاتٍ عُرفت عنه وهو في كل هذا لا ينوي أن ينحو نحو الآخرين في الكلام عنه , بل هو يذكرها ليقول أنهُ لن يستفيض في شرحها وتبيينها بل سيتكلمُ عن أمورٍ أخرى , التفتّ لها بفطرته لا غير :
لكن بما بانَ في عينيهِ من تعبٍ
أرادَ إخفاءهُ عن قومهِ فبدا
وما بكفيهِ يوم الحرّ من عرَقٍ
وفي خطاهُ إذا ما مال فاستندا ( وكأنهُ يُصوّرُ لنا حال التعب الذي يبدو على النبي الكريم )

بما تحيّرَ في أمرين أمتهِ
وقفٌ على أيّ أمرٍ منهما اعتمدا

والأمثلةُ لا تتوقفُ عند هذا الحدّ لكن شاعرنا ودّ أن ينتقل للكلام عن عذاب المسلمين في بداية الدعوة أيضاً :

بما رأى من عذاب المسلمين به
إن قيل سبّوه نادوا واحداً أحدا ( وأظن أننا لم ننسى بعد ذلك المشهد العظيم من فيلم الرسالة , حين يقوم المشركون بتعذيب بلال )

وشاعرنا يوغلُ في وصف عذابات تلك الثلة العظيمة حين يقول :

يكادُ يُسمعُ صوت العظم منكسراً
كأنهُ الغصنُ من أطرافهَ خُضدا ( أقسمُ اني تخيلتُ حال ذلك الغصن بل حال تلك العظام التي تكسَرت ! )

بما رأى ياسراً والسوط يجلدهُ
يقول أنت إمامي كُلما جُلدا

وشاعرنا يودّ ان يُبيّن أن الرسول لم يجئ كي يكون سبباً لتعذيب من اتبعّوه :

من أجلهِ وُضعَ الاحبابُ في صَفَدٍ
وهو الذي جاء يُلقي عنهم الصَفَدا ( وهي التفاتةٌ مهمةٌ حقاً , فالرسول قصدّ ان يُلقي عن الناس تلك الأغلال التي تُكبلهم لا أن يكون سبباً لتكبيلهم )
وهو لا يُغفل الكلام أبداً عن الإمام علي عليه السلام بل وأولادهُ أيضاً فيما بعد , واعتبرهُ سبباً آخر من أسباب مدحه للرسول الكريم :

بما تردّد في ضلعيه من قلقٍ
على الصبيّ الذي في فرشهِ رقدا ( وكيف لا وهو ربيبه ؟ )
هذا عليٌ يقول الله دعهُ وقد
باتَ العدوُ له في بابهِ رصَدا
بدرٌ وضيٌ رضيٌ من جراءتهِ
لنومهِ تحتَ أسياف العدا خلدا ( ويالهُ من خلود عظيم ! )

وهو لا يُغفل التشبيه أو مقارنة تلك الحالة من ( رقود الإمام علي في فراش النبي الكريم ) بحال ابراهيم الخليل وولده اسماعيل عليهما السلام :
فــ :
تلك التي امتحنَ الله الخليل بها
هذا ابنهُ وسيوف المشركين مُدى
( حيث عبّر عن ( عليٍ ) هنا بـ ( اسماعيل ) وسيوف المشركين ماهي سوى تلك ( المُدية ) التي أراد ابراهيم الخليل أن يذبح بها ابنه وهو تشبيهٌ غريبٌ بعض الشيء برأيي ويستلزم خيالاً واسعاً أو وجهة نظر وقناعةً شخصيةً فلسفية كي تؤدي بصاحبها إلى أن يصف الأمور بهذه الطريقة )
ثم ينتقل الشاعر لوصف شجاعة عليّ عليه السلام في معركة بدر الكبرى وكيف كان هذا الرجل العظيم سبباً مهما في نصر المسلمين حينها حتى يصل للكلام عن أحزان الرسول الكريم وعليٍ عليهما السلام ، فرغم رحيل ابنه ( ابراهيم ) ولكن يبدو أن حزن الرسول على رحيل أولاده ليس لهُ من نهاية :

وعندهُ تربةٌ جبريل قالَ لهُ
بأن أولادهُ فيها غداً شُهَدا ( والكلام هنا عن تربة كربلاء )
والرسول رغم كل هذا :
يُخفي عن الناس حزناً ليس يُرسلهُ
والدمعُ بادٍ سواءً سالَ أو جمدا

وشاعرنا لا يقطع تسلسل الأحداث بل يستمرَ في الحديث عن هجرة النبي وهربهُ من المشركين بعد نوم عليّ في فراشه :

بما انتحى لأبي بكر يطمئنهُ
وحول غارهما حتى الرمال عدا !!
يقول يا صاح لا تحزن ودونهما
علا لأنفاس خيل المشركين صدى !!

وحاشا للرسول الكريم أن يقوم بأفعالٍ غير كريمة أبداً ، فرغم علمهِ بأن قريشاً ستستمرُ في طلب ثأرها رغم مرور الأيام والسنين ولكنهُ يعفو عنهم ولا يُذكرّهم بأيام بدرٍ أو أحُد :

ظلمُ العشيرة أضناهُ وغرّبهُ
عشرين عاماً فلما عاد ما حقدا !!

وصفاتَ النبي لا تقفّ عند حدٍ أبداً :

١ - لنا نبيٌ بنى بيتاً لكل فتى
منّا وكلّ رضيعٍ لفّهُ برِدا

٢ - وكلّ عرسٍ أتاهُ للعروسِ أباً
يُلقي التحية للأضياف والوسدا

٣ - وكل حربٍ أتاها للورى أنساً
واستعرضَ الجند قبل الصف والعددا

٤ - مُمسحاً جبهات الخيل إن عثَرَت
حتى ترى المهر منها إن هوى نَهَدا ( فرحمتهُ لا تقتصر على الناس فقط ) !
وعن نفسي فقد أحسستُ وكأني أتعرفُ الى الرسول الكريم من جديد بعد قراءتي لهذه الأبيات الرائعة , وكأني لم أكن أعلمُ عنه كل هذا , بل وكأني كنتُ أعلم لكني لم أجد الجرأة الكافية للحديث عن هذا الكيان العظيم بكل تلك البساطة المُحيّرة والتي تجعله أكثر قرباً للنفوس ..

فهو :

شيخٌ بيثربَ يهوانا ولم يرَنا
هذي هداياهُ فينا لم تزل جُددا

وهو الذي علم الناس الكثير فــ :

هو النبيُ الذي أفضى لكل فتى
بأن فيه نبياً إن هو اجتهدا !

وقد كره الظلم قبل أن يولد حتى فكان ( نقض الظلم ) علامةً من علامات ولادته الكريمة :

من نقضه الظلم مهما جلّ صاحبهُ
إنقضّ إيوان كسرى عندما وُلدا !

وهو الذي أنكرَ عبادة الأصنام كذلك رغم أنهُ ولدَ في بيئة لا تدعو لغير تلك العبادة :

أنكرتَ أربابَ قومٍ من صناعتهم
وربما صنع الإنسان ما عبدا
ورحتَ تكفر بالأصنام مهتدياً
من قبل أن يُنزل الله الكتاب هدى
كرهتهُ وهو دينٌ لا بديل لهُ
غير التعبُد في الغيران منفردا ( وفي هذا إشارة لذهاب النبي للتعبد في غار حراء )

وليس ( الكفر ) أمرٌ مشينٌ على الدوام كما يقول شاعرنا :

والكفرُ أشجع ما تأتيه من عملٍ
إذا رأيت ديانات الورى فندا
وربَ كفرٍ دعا قوماً إلى رشدٍ
وربّ إيمان قومٍ للظلال حدا ( وهذه الفلسفة عظيمة حقاً )

وشاعرنا لا يغفل الإشارة إلى ما نعيشه الآن من رضوخ للظلم كلما سنحت له الفرصة :

وربما أمم تهوى أبا لهبٍ
لليوم ما خلعت من جيدها المسدا
من المطيعين حكاماً لهم ظلموا
والطالبين من القوم اللئام جدا

ثم ينتقل للكلام عن حادث تعرض النبي للأذى بعد ذهابه لبني ثقيف ويقوم بمقارنته بما حصل بعد من عروج النبي نحو السماء وكأنهُ يودّ أن يقول أن الله عرج به نحو سماءه كنوعٍ من المكافأة أو ( تطييب الخاطر ) :

أكرم بضيف ثقيفٍ لم تُنلهُ قرى
إلا التهكُم لما زار والحسدا
ضيفاً لدى الله لاقى عند سدرته
قرىً فضاق بما أمسى لديه لدى

ويالها من أجواء رائعة ( قاب قوسين أو أدنى ) :

أفدي المسافر من حزنٍ إلى فرحٍ
محيّر الحال لا أغفى ولا سهدا
يرى الممالك من أعلى كما خُلقت
تعريج رملٍ أتاهُ السيل فالتبدا
والرسل في المسجد الأقصى عمائمهم
بيضٌ كأن المدى من لؤلؤٍ مُهِدا
يُهوّنون عليه وابتسامتهم
ندىً تكثف قبل الصبح فانعقدا
والريح تنعس في كفيه آمنةً
والنجم من شوقه للقوم ما هجدا
يكاد يحفظ آثار البراق هواء
القدس حتى يرى الراؤون أين غدا

( ولقد قصدتُ أن أنقل لكم الأبيات من دون أن أتكلم عنها لأني أريد لمن يقرأها أن يعيش ذات الإحساس الذي عشته حال قراءتي لها وتخيّلي لكل التفاصيل التي رسمها لنا الشاعر بعذوبة حروفه فصرتُ وكأني أراها أمامي حقاً وأشعر برقة الندى المتجمع ( قبل الصبح ) كما جاء في وصفه !

وعروج النبي نحو السماء لهُ الكثير من الأسباب , ومن أبرزها على حدّ إيمان تميم :

يا من وصلتَ إلى باب الإله لكي
تقول للخلق هذا الباب ما وُصدا
من قاب قوسين أو أدنى تصيح بهم
لم يمتنع ربكم عنكم ولا بعُدا !

فــ :
الله أقرب جيران الفقير لهُ
يُعطي إذا الجار أكدى جارهُ وكدى
الله جار الورى من شر أنفسهم
فامدد إليه يداً يمدد إليك يدا ( ويا لروعة القرب الإلهي ) !

ثم ينهي حديثهُ عن ذلك الأمر بقوله :
أفدي كساءك لفّ الأرض قاطبةً
قميص يوسف داوى جفنها الرمدا !

أما في حروبه , فرغم أن النبي كان قادراً على عدم التواجد فيها لكنه كان يفعل محتملاً الألم والتعب ورغم أنهُ كان قادراً كذلك على إنهاء الحرب إن رمى العدا بـ ( كف حصى ) لكنهُ لم يتخذهُ حلاً أبداً :

وكنتَ تُنصرُ في الهيجا بكف حصى
إذا رميت به جمع العدى همدا
لكن ربي أراد الحرب مُجهدةً
والنفس تطهرُ إن عودتها الجهدا
لو كان ربي يريح الأنبياء لما
كانوا لمتعبة الدنيا أُسىٍ وقُدى ( وهو توضيحٌ رائع فعلاً ) ..

ولا بد من العودة للحديث عن النبي ومخاطبته برقةٍ أكثر :

يا سيدي يا رسول الله يا سندي
أقمتُ باسمك لي في غربتي بلدا

وهو يشبه حاله بحال الطيور التي لا تستطيبُ الأكل أو الشرب إلا في منازل آل البيت , ( أي أضرحتهم المشرفة ) :

لا يلقط الحب إلا في منازلكم
ولا يقيم سوى من شوقه الأوَدا
كذاك أرسل روحي حين أرسلها
طيرا إليكم يجوب السهل والسندا
ليس الحمام بريداً حين يبلغكم
بل تلك أرواحنا تهوي لكم بُرُدا

ثم ينتقل للحديث عن حال البلاد العربية وظلم حكامها :

لنا ملوكٌ بلا دين إذا عبروا
في جنةٍ أصبحت من شؤمهم جَرَدا

وهو يشكو حالهُ للنبي بطريقة تجعل العيون تغرورق بالدموع فهو يتكلمُ معهُ وكأنه يراه :

يا مثلنا كنت مطروداً ومغترباً
يا مثلنا كنت مظلوما ومضطهدا
أدرك بنيك فإنا لا مجير لنا
إلا بجاهك ندعو القادر الصمدا

ثم ينتقل شاعرنا بعد هذا للكلام عن قصيدته وشرح أسباب كتابتها , فنتخيلهُ جالساً أمام النبي ويقوم بالكلام معه فعلاً حين يخاطبه بقوله :

تتبُعاً واختلافاً صغتُ قافيتي
( مولاي صلِ وسلم دائما أبدا )
وليس معذرة في الاتباع سوى
أني وجدت من التحنان ما وجدا
وليس معذرة في الاختلاف سوى
أني أردتُ حديثا يثبت السندا
وخشيةً ان يذوب النهر في نهرٍ
وأن يجور زمانٌ قلمّا قصدا
وراجياً من إلهي أن يتيح لنا
يوما على ظفرٍ ان ننشد البُرُدا
وصلِ يارب ما غنت مطوقةٌ
تُعلم الغصن من إطرابها الميَدا
على محمدٍ الهادي محمدنا
نبينا شيخنا مهما الزمان عدا
وهذه بردةٌ أخرى قد اختتمت
أبياتها مائتان استكملت عددا
يارب واجعل من الختم البداية
وانصرنا وهيء لنا من أمرنا رشدا


(( حسناء الرشيد ))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس