الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موقعُ العملِ الثقافيِّ من الدَّولةِ والمجتمعِ

علي طه
كاتب

(Ali Taha)

2020 / 4 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


مع كلِّ مشكلةٍ مجتمعيةٍ، ينقسم الرأي العامُّ بنحوٍ مباشرٍ أو ضمنيٍ، سجالاً حاداً أو طرحاً هادئاً، بين جلّادٍ للمجتمع يلوم فقدانه ثقافة المجتمعات المتطوِّرة، وناعٍ مشفِق عليه يرى الدولة مقصِّرة في تطبيق القانون بنحو الفرض والإكراه القسري كي يستقيم أمر المجتمع نحو الإنسجام وحفظ الحقوق ومنع التعدّي والفوضى.. فما هو العلاج، إذن؟ بالقوة وأساليب العنف الحكومي المضاد أم بالموعظة الحسنة وتعميم ثقافة التعايش وحفظ الحقوق وما شاكله من مخرجات الفعل التنويري؟

لا يمكن للدولة أن تنشأ من فراغٍ، فلها سياقاتها التاريخيةٌ المملّةٌ، ولها ثقافتها الداعية لها، والمعززة لها، والناتجة منها. إنها إن تركت لشأنها فسوف لا تكتفي باحتكار العنف بل تطبِّقه، وهنا مكمن ضعفها، اذ ليس الاحتكار يعني التطبيق، والا لا فرق بينها وبين التنظيمات الإرهابية وجماعات السلاح المنفلت من حيث الجوهر، لكنَّ الاحتكار يعني المصادرة، وعدم التدخُّل الا بالحالات الضرورية مثل العلاج الذي لا يُعطى إلا بوصفة طبيبٍ خبيرٍ لا يجوز تعميمه على أيِّ مريضٍ آخر.. يمكن للدولة أن تفرض عنفها بشكل غير صحيٍّ، الأهمُّ من ذلك، إنَّها حتّى لو فرضت قوانينها بنحو مقبولٍ فهذا لا يكفي في معالجةِ مشاكلَ المجتمعِ وأزماته، فنحن، إذن، أمام تحدّيين بنيويّين:

الأوّل، هو دولةٌ حقَّة، تحتكر العنف من جهةٍ، ولا تطبِّقه الا وفق مسطرة قانونية مسبقة من جهةٍ ثانيةٍ..
الثاني، تناول مشاكل المجتمع بالمداولة لفهمها وعلاجها من خلال استنفار الجهد لتعزيز قيم الحقوق والحرّيّات والقانون والانسجام.. إلخ.
فمن يقوم بهذين التحديين، تحدّي النضال من أجل الدولة، وتحدي العمل ضمن إطار الدَّولة على سدِّ القصور الوجودي/الطبيعي في وظيفتها؟

استفراد الدولة بالمجتمع يحوِّلها إلى مجرَّد نظام استبدادي أو شمولي وكلّاني، ينطلق من أفق الحقوق، وبداعي الحفاظ عليها، وينتهى إلى قتلها وتعزيز الضدَّ منها، وهذا بالنتيجة النهائية يؤدِّي إلى نشوء جماعات غير منسجمة، تخرج عن إطار الإجماع، لأنَّ أفرادها يشعرون بانفسهم مستهدفين من خلال العنف المفروض عليهم، إذ يطبَّق بدون قبولهم وتأمين قناعتهم -هذا لو حسبنا أن مصالحهم مضمونة-، وبالتالي، تنشئ كياناتٌ ليست معارضةً للدَّولة فحسب، بل قد تكون معادية، تستهدف الإطاحة بها ثوريا او انقلابيا، وفي أقل الإيمان تشيع ثقافة عدم الإطمئنان تجاه الدَّولة وتشيع روح عدم الثقة بها من قبلِ شرائحَ مجتمعيةٍ واسعةٍ، مما يزعزع من أمن المجتمع ويجعله غير مستقرٍ..

ليست الدَّولة هي كلَّ شيء، أي ليست الحلَّ السحري لكلِّ مشكلةٍ اجتماعيةٍ، هذا لو تغاضينا عن مشاكل الدولة نفسها، حتى تلك التي نصفها بالحقَّة والنموذج.. إنما الدولة نقطة بدايةٍ صحيحةٍ وإطارٌ لعملٍ لا يمكن أن يأخذ فاعليته ونتائجه الإيجابية دونه، بمعنى أنَّ وجود الدولة مطلوب كشرطٍ ضروريٍ وليس شرطاً كافياً، شرطٌ يسبق الشروط، لكنه لا يحل محلَّ بقية الشروط، والا لتحوَّلت إلى دولةٍ بوليسيةٍ تخترق الخصوصيات، واستبداديةٍ لا تسمح لقوى المجتمع بالمشاركة في الشأن العمومي، وكلّانيةٍ تفرض نموذجها دون احترام لسياقات الفرض، او قناعات المواطن..

إذن، لسنا نعوِّل على الدولة كما يعوِّل عليها الاشتراكيون، ولسنا مع الفوضويين "الأناركيين" الذين يرون المجتمع -وبالأحرى الفرد- بلا دولة أفضل منه مع دولة، فليس الأمران بصحيحين أو منتجين، فلا الدولة الإشتراكية حقَّقت غاياتها، ولا الفوضوية صحيحة منطقياً وخليقة بغاياتها فعلاً.. نحن نضع ثقتنا بالدولة كونها الحدَّ الأدنى الضروري نحو الحدِّ الأعلى، عنيت أنَّ قطار المجتمع ينبغي أن يسير وفق سكَّة منظَّمة تماماً، وهذه السِّكَّة/الدولة تنظِّم سيرَ القطار، لكنها لا تتحكَّم بوجهته ولا ببقية تفاصيله الكثيرة، وهذا شأن المجتمع، فهو بحاجة لثقافة تخضعه للدولة في مرحلة ما، ولثقافة تحرره من جرعاتها الزائدة وتغلغلها فيه بلا ضرورة..

هذا هو معنى أولوية المهامِّ، وضرورة تأجيل الحديث الاستنزافي للطاقات حول مشاكل المجتمع بنحوٍ زائدٍ عن الحاجة، والانهمام بقضية "الدولة"، للنضال من أجلها. فبدون ديمقراطية، مثلاً، لا يمكن الحديث عن مشاكلها لفتح المجال للمعارضة، وبدون دولة لا يمكن الحديث عن حدودها كي يتسع المجال لمساحاتٍ اجتماعيةٍ ليست من مهامِّ الدولة ولا من إمكانياتها.. ولذلك ينبغي معرفة سلَّم الأولويات، وفي أي مرحلةٍ نحن، لكي نعرف ماهو العلاج كيلا يذهب الجهد هباء، وأحياناً كثيرة يؤدّي العمل بغير محله إلى مشاكلَ مضاعفةٍ، إنتاج للانقسام والفوضى وتعزيز لحالات ماقبل الدولة بقوة، ذلك أنَّ كلَّ سجالٍ دون نظامٍ يستند عليه كإطار وأرضية، سيكون سِجالاً احترابياً، وصراعاً هوياتياً، وانقساماً عنفياً.. لا تطوّر نحو الأحسن إلا بنقد الماثل والواقع، سواءً كان هذا الواقع وضعاً تقليدياً ما قبل الدولة، او وضعا جديدا يمثِّل الدولة، أما الإنخراط في سجالاتٍ حول الممكن دون أثرٍ ملموسٍ له في الواقع الخارجي، فذلك مدعاة لتكريس الوضع التقليدي بقوة وتأصيل منهجه التخلُّفي، من هنا أهمية مقولة أولوية الواقع، أي ضرورة العمل منه وإليه.

إذن، بكلِّ الأحوال، نحن بحاجةٍ إلى الثقافة، ثقافة شريحةٍ نخبويةٍ تعزِّز قيمها داخل المجتمع، إما تناضل من أجل الدولة تنظيراً ونقداً واحتجاجًا ودعوةً.. أو تناضل من أجل تخليص المجتمع من استفراد الدولة له، فتستأثر -أي الثقافة- بقطاعاتٍ اجتماعيةٍ لتعالجها بالتنوير، والتنوير يكون فاعلاً لو جاء بعد استيفاء الدولة لعملها الأساس، ولو توفَّرت لها (وهنا فرق الجدية عن الهراء النظري السائد) كيانات مؤسَّسية على أرض الواقع، كمنظمات مجتمع مدني.. وهذا يجعلنا أمام خلاصةٍ ترى الثقافة ليست كلَّ شيء مثلما الأمر مع الدولة، فهي الأخرى ليست كلَّ شيء، لكنَّ الثقافة الداعية للدولة، والثقافة الداعية للمجتمع بعد الدولة، وبعبارةٍ أخرى، الدولة كنتيجةٍ لنضالٍ ثقافيٍ لصالحها، والدولة كأفق لنضال ثقافي لصالح المجتمع، هو الأمر المنطقي والمنتج في أيِّ مجتمعٍ يُراد له الخير..

لا خيرَ في ثقافةٍ لا تراعي منطق الأولوية في القضايا ولا تعرف مكمن التحدّي التاريخي، أو لا تراعي منطق اولوية الواقع، فتجافيه بهراءٍ نظريٍ متعالٍ يعزِّز قيمَ العدمية والفوضى والتشتت وأدبيات الانسحاب من الحياة ولوم المجتمع.. فحاجتنا تكمن لثقافةٍ مؤثرةٍ منتجة، أي تعرف تحدّيها بالضبط ماهو، وتتنزَّل من المثال الذهني إلى مؤسسات مادية لها فعلها على أرض الواقع وبالتالي، أثرها حتما، وما دون هذه الشروط فخرطُ القتاد!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. كتيبات حول -التربية الجنسية- تثير موجة من الغضب • فرا


.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتفض اعتصام المؤيد




.. بصفقة مع حركة حماس أو بدونها.. نتنياهو مصمم على اجتياح رفح و


.. شاهد ما قاله رياض منصور عن -إخراج الفلسطينيين- من رفح والضفة




.. نتنياهو يؤكد أن عملية رفح ستتم -باتفاق أو بدونه-