الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رفعة الجادرجي يغادر متاهته الإبداعية

عدنان حسين أحمد

2020 / 4 / 14
الادب والفن


دخل الزخرفة الإسلامية من أبوابها الخلفية فانفتحت أمامه الآفاق
عن عمر يناهز الرابعة والتسعين عامًا غيّب الموت المهندس المعماري رفعة الجادرجي الذي اختطّ لنفسه بصمة خاصة يعرفها المتابعون لمنجزه المعماري، والمتأملون لتجربته الأدبية والفنية وما جاورها من لمسات فكرية تتجلى في كتبه الأدبية والفنية على حدٍ سواء.
لا يمكن الحديث بعُجالة عن المنجز المعماري للراحل رفعة الجادرجي لكننا سنكون مُضطرين لذلك بسبب ضيق المساحة، وطبيعة الموضوع الذي لا يخلو من نبرة رثائية، فغالبية العراقيين يتذكّرون نُصب "الجندي المجهول" في ساحة الفردوس ببغداد الذي أنجزه عام 1959وظلّ شاخصًا حتى عام 1983 حيث قوّضه النظام الدكتاتوري السابق وأحلّ محله تمثال صدام حسين الذي أسقطه الأميركيون عام 2003، لكن نُصب "الجندي المجهول" ظلّ عالقًا في ذاكرة العراقيين للمسته الجمالية الخالية من التعقيد التي تُذكِّرنا بطاق كسرى، إضافة إلى رمزية النُصب الذي يمثّل الجنود العراقيين الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل الوطن.
إذا كان نُصب "الجندي المجهول" رمزًا وطنيًا محليًا فإن "نُصب الحرية" الذي أُنجز عام 1961 هو رمز شرق أوسطي في أقل تقدير، فلقد ذاع صيته عربيًا على الرغم من موضوعه الذي يروي أحداث ثورة 1958 وتأثيرها على الشعب العراقي. لقد صمّم الجادرجي هيكل اللافتة الكونكريتيّة التي حملت منحوتات الفنان جواد سليم الذي مزج هو الآخر بين الكلاسيكية التشخيصية والنَفَس الحداثي.
تتحرّك بناية "بدالة السنك" التي أُنجزت في منتصف سبعينات القرن الماضي بين التراث والمعاصرة أيضًا لكنها تذكّر بلمساته الفنية وتُحيل إليها بسهولة من جهة التصميم، والمواد المحليّة المستعملة في البناء.
هناك عدد كبير من الدور والعمارات التي صممها رفعة الجادرجي نذكر منها دار حسين جميل، وعلي مظفر، وعارف آغا، وحسن الكرباسي، ونصير الجادرجي، وفخري شنشل، وعبد حسن العزاوي وما سواها من البنايات والجوامع، والغريب أنه لم يكن يتردد في القول بأنه فشل في السيطرة التكوينية لهذه الدار أو تلك العمارة التي لم تستجب لرؤيته التصميمية ويعزو السبب إلى حداثة خبرته الفنية في هذا المضمار.
هذه مجرد إشارات بسيطة لعدد من التصاميم التي أنجزها الجادرجي، أما جعبته المعمارية الكاملة فتحتاج إلى مساحات واسعة، وشرح طويل.
وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أنّ الجادرجي كان عضوًا في "جماعة بغداد للفن الحديث" التي أُسست عام 1951من قِبل فنانين معرفين أمثال جواد سليم ومحمد غني حكمت وشاكر حسن آل سعيد وكان الجادرجي يتناهل معهم في أفكاره ورؤاه الفنية والثقافية.
لم يكن الراحل مهندسًا معماريًا فحسب، وإنما كان مصورًا فوتوغرافيًا مُرهفًا لا يكتفي بأسْر اللقطة، وتجميد الزمن، فثمة شيء ثالث في غالبية الصور التي يلتقطها ويقدّمها لنا كمتلقّين للفن الفوتوغرافي في محاضرات متعددة لم ينقطع عنها إلاّ في السنوات الخمس الأخيرة التي حاصره فيها المرض.
أصدر الجادرجي عددًا من الكتب التي تُنظِّر لرؤيته المعمارية أبرزها "الأخيضر والقصر البلوري" 2013 وتناول فيه محورين أساسيين الأول: " كيف تطورت النواة الفكرية لنظرية جدلية العمارة.؟ والثاني وصف للأبنية التي أنجزها مع عدد من زملائه المهندسين". كما أصدر كتاب "شارع طه وهامر سيمث" الذي قال عنه الناقد نجيب المانع بأنّ "هناك عبارات تشير إلى ما مارسه الجادرجي في مهنته من نقد عنيف لذاته واستعراض لما كان يتصوره أخطاءَه حتى يتوصل إلى الصواب مهما يكن الطريق إليه وعرًا أو شحيحًا بالإمكانيات". كما ذكر جبرا ابراهيم جبرا بأنّ "في خطّة الكتاب ولغته التحليلية جرأة في الموقف، وريادة في الرأي، وهما مما تميّز به المؤلف مفكرًا وإنسانًا ومهندسًا معماريًا".
يمتلك الجادرجي نزعة أدبية تجلّت في مذكراته وسيرته الذاتية وربما يكون "جدار بين ظلمتين" الذي كتبه بالإشتراك مع زوجته الأديبة بلقيس شرارة هو خير أنموذج للسيرة المزدوجة القائمة على بنية "التوازي والتداخل" إذ اشترك كلاهما في كتابة الفصول الأربعة التي تؤلف متن النص، حيث كتبت بلقيس الأجزاء الأُوَل من الفصول الأربعة، ثم كتب رفعت بموازاتها الأجزاء الأربعة الأُخَر التي تداخلت في السياق العام للسيرة الذاتية "المُزدوَجة" التي يكمّل بعضها بعضاً. وهي أول نص سير- ذاتي يوثّق في آنٍ واحد لتجربة متوازية ومتداخلة من داخل الظلمة وخارجها. كما تضمنت كتبه الأخرى أجزاءً متفرقة في سيرته الذاتية الحميمة التي توزعت في معظمها بين التطلعات الحُلُمية والعمل اليومي الجاد والمثمر الذي يتحول إلى بيوت ومشاريع عمرانية متعددة الأغراض كان يصوِّرها بكاميرته الشخصية، ويكتب عنها بالتفصيل كاشفًا عن نجاحاته وإخفاقاته في آنٍ معًا.
لابد من الإشارة إلاّ أنّ رفعة الجادرجي كان ناقدًا فنيًا ويكفي أن نشير إلى الفصل الثالث من كتاب "الأخيضر . . ." المُعنون "مع جماعة الرواد" لنؤكد صحة ما نذهب إليه فقد كتب عن هذه الجماعة، وناقش توجهاتها الفنية والفكرية ودورها في المشهد التشكيلي العراقي. لنقرأ ما كتبه عن الفنان فائق حسن مُركزًا فيه على الجوانب الثقافية والاجتماعية حيث يقول:"فائق حسن لا يقرأ إلاّ القليل، وإذا قرأ ففي بعض المجلات الفرنسيّة لا غيرها. معلوماته تكاد تكون معدومة في العلوم والفنون والتاريخ ولكنه هضم وأتقن هذا القليل بسبب عمق تفكيره، وأصالة أسلوب معيشته . . . لا يُقحم نفسه في أمور لا يفهمها، بل أنّ الأحداث تمرُّ من دون أن تمسّ انتباهه إلاّ ما يهمهُ منها، ويهضمهُ، ويتخذ منه موقفًا خاصًا متميزًا. . . فائق ضحكته ساذجة، ولباسه بسيط ورخيص ولكنه ذو طابع متفرّد". وقد توقف عند بعض أعماله الفنية، وتقنياته التي عدّها "مهنيّة ومتقدمة" في ذلك الوقت.
يوثِّق الجادرجي حياة الفنان محمود صبري الذي لم يكن الفن شغله الشاغل أول الأمر لأنه كان موظفًا في البنك بينما كان الرسم هواية يزوالها في أوقات فراغه لكنه سرعان ما ترك كل شيء وانقطع إلى الفن التشكيلي. يرصد الجادرجي هذه البدايات فيقول: "أما على الصعيد الفني فلم يكن محمود صبري بنظر جواد وفائق أكثر من هاوٍ مبتدئ، إنّ تكنيكه في الرسم والألوان والتكوين ضعيف ومن أعمال الناشئين، ولكنه كان أول من هزّ بحق الفن العراقي هزّة الإيقاظ من سباته في الرومانتيكية الريفية". وكان الجادرجي يتفق كثيرًا مع محمود صبري الذي يقول "إن للفن وظيفة اجتماعية لا يمكن تجنّبها" وهذا التناغم هو الذي جعلهما صديقين حميمين جدًا. ومثلما رصد بيوت الشَعَر والأعراب ودِلال القهوة انتبه إلى لوحات جواد سليم مثل "البغداديات" و "ليلة الحِنّة" و "القيلولة" مُنتظرًا من الجميع أن ينفتحوا على مناخات فنية جديدة، وتقنيات معاصرة تنقل الفن التشكيلي العراقي نقلة نوعية تضعه في مقدمة المَشهد على الصعيد العربي في أقل تقدير.
يتحدث الجادرجي في هذا الفصل عن تجربته في الزخرفة الإسلامية التي لم يفلح في الدخول إليها من الأبواب الأمامية فولج إليها من الأبواب الخلفية التي فتحت له آفاقًا واسعة وأمدّته بالكثير من عناصر النجاح والتألق بعد أن انهمك في التجريد الغربي وأفادَ من تجارب فنانين بريطانيين وهولنديين عديدين أبرزهم بِن نيكلسون، وثيو فان دوسبرغ، وخيريت توماس ريتفيلد.
يميل الجادرجي سواء في هذا الكتاب أو في كتبه الأخرى إلى التوثيق بصيغة أدبية فهو من بين المهندسين المعماريين القلائل الذين كتبوا عن أصدقائهم وأقرانهم في المهنة "الفنية" تمامًا مثلما كتب عن الفنانين التشكيليين واختبر أفكارهم ورؤاهم الثقافية المحاذية للفن التشكيلي. الملحوظة الأخيرة التي أسوقها في هذا المضمار هي أنّ الجادرجي كان متواضعًا في المهنة والكتابة، ولم يتعالَ على أحد، ولم يضع الآخرين في منزلة أدنى منه على الرغم من بعض آرائه النقدية القاسية، بل كان يعرض كتبه وأفكاره لأصدقائه والمقرّبين منه، وينتظر آرائهم في اللغة، والأسلوب، والمضامين التي كان يعالجها، ولم يتردد ذات يوم في قبول الأفكار العقلانية الصحيحة التي كانت تُسدى إليه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم