الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: كمّامة عزلة

إيمان سبخاوي

2020 / 4 / 14
الادب والفن


أين أذهب بكل هذا الملل و لا جدة لي تقصّ عليّ خرافة أحتمي بها من كل هذا الخراب، في هذا الوقت المستقطع من الخوف و الهلع و فــوبيا المــوت، لا تخت يسعني أنا و الذكــريات، على أحدنا أن يخلد للنوم... سأحاول كتابة رسالة ورقية إلى حبيبتي في ظل هذا الغياب، الفكرة أكثر من سيئة، منذ مدة لم أر موزّع البـريد في زمن اللاتواصل الإجتماعي و الأسوأ، أنه ربما سيضطر إلى تعـقيمها بسائل كحولي و لا أحتمل أن تتلاشي كلماتي التي نفخت فيها من روحي، أن تستحيل إلى لطخة زرقاء. صنعت بالورقة سفينة صغيرة وضعتها عند رأسي و بقيت أنتظر نوح، كعزاء صغير على هذه الأرض المنكـوبة بفيروس مخابر أعداء الحياة، طغاة المال و السلاح. حتى جارنا "رافع" بائع الزعتر استعاض عن تجارته ببيع المعـقّمات و السوائل الكحولية و بدأ يعطي دروسا في تفادي المـرض، حوّل كل سكان الحي إلى أرستقراطيين، يمسحون أفواههم و خدودهم بين قبلتين، جعلهم يتوجـسون خيفة من المصافحة و الحضن و الود... آه أين أنت يا حبيبتي لأتلقف القبلة كرغيف ساخن من بين شفتيك الحـارقتين المذعورتين، القبلة تمحو خطايا اللسان و تصحّح حواسنا و تعيد لنا رهافة الصبا في تلمّس الأشياء و الشعور بها. هل من نبي يفصل الدين عن الكورونا و يسكت "السلامي" الذي سمعته بالأمس يقـول: أنه عقاب إلاهي يصيب به الكفّار كاذبا على الله و ناسبا له قذارة الإنسان، الذي لوث بغبائه الجو و نفث السموم في البر و البحر، قطع الشجر و قتل الحيوانات و الحشرات و حفر الأرض طمعا في المـزيد من الثروات.. كدت أصدق أنه أحد علماء الدين أو السياسة أو متفلسفي نظريات المؤامرة لما استفاض في شروحاته كأن الكورونا أجرى حوار معه و أخبره بكل مخططاته و بلائحة ضحاياه، لو لم أره بنفسي يتهافت لتكديس ما يحتاجه في الأيام القادمة من كمامات و معقمات و مواد غذائية تكفي له و لعشر أمثاله و لفئران الجيران و الأحياء المجاورة، اشترى كل شيء، حوّل بيته إلى مخـزن كبير لتكديس البضائع، معتقدا بموحب العقد الذي أمضاه مع كورونا أن جبل البضائع الذي في رأسه عاصم له من الموت، أمثاله لو قالو له غدا ستحين ساعتك لاشترى كفنا بجيوب سـرية و ملأها ذهبا لرشوة الملائكة، كورونا كان أكثر عدلا من التفريق بين فقير و غني، بين يهودي و مسلم، بين من يسكن في قصر و من يسكن في برّاكة، بين دولة ضعيفة و دولة متقــدمة. هل سيعيدنا هذا المخلوق اللامرئي إلى رشدنا؟ لا بد لي من روايات تخلصني من "السلامي" و "رافع" في هذا الحجر الصحي، وحدها ستخفف علي انخفاض إيقاع مدينتي الممسوسة، الهادئة... لا زحام في الشوارع، لا أحد يفتح فمه في التاكسي، الكل مصاب بالذعر و القلق العمومي. أعيد اقتناء (الطاعون) لكامو، (الحب في زمن الكوليرا) للماركيز مازلت أملك منها نسخة، (هاملت) لشكسبير أيضا لا أدري لمن أعرتها، أدور بين الرفوف (ستاند) لستيفن كنغ و أعرض عن (عيون الظلام) لدين كونتز سأكتفي بمشاهدة الفيلم، (الديكاميرون) لجيوفاني بوكاشيو بترجة رائعة للذي رحل عنا هذا العام صالح علماني... أتصل بها في محاولة أخيرة لرؤيتها، لا ترد... اللعنة عليك أيها القميء، نحن بشر نحب اللمس و العناق نعطس في وجوه بعض و نتبادل كؤوسنا و نتذوق طعام بعض، لا يطيب لي فنجان القهوة التي أعدها في الصباح لأمي إلا إذا تذوقتها من فنجانها كيف بهذا التصرف النبيل حولتني إلى قاتل، أنا الذي أرى بأصابعي و أشم بها، أكان علي أن أرى حياتي تمر على وجهي كفلم بطيء، منذ أن وضعتني في الزجاجة و أغلقت بإحكام و قلت عليك أن تنتظر موتكَ؟ و أنتِ، لا تردي... لكن لن تجدي غيري يتخطى الردهة الوبائية و يدخل عليك غرفتك في الحجر الصحي و يحتضنك بلا بزة بلاستيكية و يقبلك بلا كمامة. أعود منهكا، أصبت بحمى الشوق... بعثت لها عبر كل التطبيقات، لكنها لا ترد... أفقد شهيتي يوما بعد يوم، زمن منعت فيه القبلة لا يعول عليه، عيب عليك يارجل يا أبو قرون، عيب عليك يا كوفيد التاسع عشر تحول بيني و بين فم حبيبتي و عينها و تلمس وجهها، أنت لا تــفهم في الحب، ليت الله يزوجك بكــروناية و يريحنا منك (الحب هو الموت). أصاب بوعكة عشقية، يزداد قلق أمي علي، ترسل أبي لإحضار شيخ راقي، الشيخ يسعل بقوة. أقول له: لست مريضا، أتعرف يا شيخ ماذا يقول ابن عربي؟ يقول: الشوق يسكن باللقاء و الإشتياق يهيج باللقاء. إني أتعذب يا شيخ و أشد العذاب شوق العاشق... يتمتم و يهمس في أذن والدي الذي أحضر الشاي، إنه يهذي محموم و يهذي، لا لست مريضا يا شيخ بصوت خفيض، إنها وعكة عشقية، يسعل الشيخ مرة أخرى، يضع يده على جبيني، يده مشتعلة كالتنور... أنت المحموم يا شيخي. أتعـرف ماذا يقـول أيضا: (كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه). تنفسه يضيق، أحضر والدي طستا به ماء، أصدر عطسة بمرسوم رئوي، قرأ على عطاسه ما تيسر من قرآن، نفث على الماء من قاع غدده اللعابية، رشف منه؛ مجّه من فمه و بصق على وجهي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية