الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل التاسع عشر/ 1

دلور ميقري

2020 / 4 / 14
الادب والفن


من نافذة قطار الضواحي، لاحَ برُّ الشام ببيوته الطينية وحقوله وجباله تحت أشعة شمس الصيف المذهّبة، كأنه صورٌ متقنة الرسم في كتاب يقلّبه بعجلة، طفلٌ نزق الطبع. في مقصورةٍ تحتوي على كرسيين متقابلين، خشبيين وعريضين، كان يجلسُ شابٌ عليه رداء سلاح الفرسان، يداعب شاربيه المعقوفين بين حينٍ وآخر كما لو أنه يخشى أن يطيرا من مكانهما بفعل هبوب الهواء، المتأثر باندفاع القاطرة على الطريق الوعر لوادي بردى. كان يتجنبُ النظرَ إلى الفتاة السمراء، الجالسة في مواجهته، ما جعل عيناهما متفقتين على متابعة المناظر الخارجية، المعروضة على شاشة النافذة العريضة. لكنهما كانا يسافران معاً، بدءاً من منزل الجدّة في دمشق، ومن المفترض أن هذه سبقتهما إلى الزبداني مع عمتهما وولديها. باقتراب وقت النزول في المحطة المأمولة، بدا الاضطراب على سحنة وحركات الفارس ذي الشاربين المعقوفين.
" آه، نسيتُ أن أخبركِ بضرورة المرور على بيروزا كي نأخذها معنا "، خاطبَ ديبو ابنة كبرى عمتيه. كان يعني امرأته، التي اقترن بها في بداية الصيف وتقيم في منزل الإيجار في قرية سرغايا، أينَ مكان خدمته في مركز الدرك. كَولي، كانت قد لحظت تغيّرَ ملامح قريبها قبيل نهاية الرحلة، ولعلها أحالت ذلك إلى تفكيره بأمر منغّص. ردت متسائلةً من خلف الخمار الأسود، المخفي وجهها: " ولكن هل ينتظرنا القطار، لحين عودتنا مع بيروزا؟ "
" يا لكِ من فتاة ساذجة! "، رد ابن خالها مقهقهاً. ثم أوضح بالقول، وقد استعاد قليلاً من الهدوء الداخليّ: " القطار سيمضي في طريقه، ونحن نمضي في طريقنا. بعد ذلك نركب ثلاثتنا سيارة مخفر سرغايا، ومن ثم نتجه إلى دار الجدة في الزبداني ". هزّت رأسها دلالة على الفهم، وكان القطار في الأثناء يُطلق صفّارةً تؤذن بدخوله إلى المحطة.

***
لو أنّ تلك المحاورة جرت بين القريبين في زمن مضى، لتسببت على الغالب بخصامهما وتنابذهما بالكلمات الجارحة. إن كَولي وبرغم من شراسة ابن خالها، كانت من قوة الشخصية ألا تهابه، بل وفي كثير من الأحيان كانت تجعله يهرب من مواجهتها. ألعاب الطفولة جمعتهما معاً في الزقاق، وأيضاً في حجرات منزل جديهما، ثمة حيث كانا يختبئان تحت الأسرة أو خلف الأبواب. مع وصول كَولي لسنّ أجبرتها على الخروج بالخمار، كان قريبها في الأثناء يئن تحت ضربات امرأة الأب. مع مرور الأيام، أضحى طبعه أكثر صعوبة حتى لم يبقَ لديه صديقٌ غير عمه الصغير، مستو. ذات مرة، كان ديبو منتصباً بطوله الفارع أمام باب دار أبيه، لما رأى ابنة عمته تخرج راكضة من دار الجدة باتجاهه وكانت عارية الرأس. أرادت أن تمرق من الباب، لكنه سدّ الطريق بجسده قائلاً: " عودي أولاً كي تستري حالكِ "
" لقد تأكدتُ من خلو الطريق من الرجال، وأنت أيضاً لديك عينان وتأكد لك ذلك "، أجابته بعناد. دفعها عندئذٍ بيده، فكادت أن تسقط أرضاً. تراجعت حتى أصبحت بمنأى عن قبضته الماحقة، ثم صرخت به قبل أن تولي هاربةً: " أيها الوحش، يا قاتل أمك! ". كان الوقتُ ظهراً، وما من أحد في الزقاق. مع ذلك، جرحه كلامُ قريبته بعمق لدرجةٍ حرمت عليه النوم تلك الليلة: " سأقتلها بيديّ والله، فماذا تظن نفسها هذه الجرو المغرورة؟ "، ردد أكثر من مرة وداخله يختنق بالقهر. كان يكن محبة كبيرة لوالدته في حياتها، وبقيَ بعد رحيلها المأسويّ يحتفظ بذكراها نقيةً لا تشوبها شائبة مع ما يعلمه عن اضطراب قواها العقلية. لقد منحته حنانها أكثر من بقية الأبناء، وكانت تزهو بقوته أمام الجارات حينَ يشكونه لها بسبب ضربه أولادهم.
بيد أن علاقته بقريبته السمراء لم تكن دوماً متوترة، بل ويجوز له أن يستعيد أوقاتٍ كانا فيه على أتم انسجام. في النزهة مع الأقارب بالبستان صيفاً، كان يرافقها كحارسٍ أمين أثناء الإغارة على الأشجار المثمرة، كالمشمش والدراق والخوخ، غير عابئين بالنظرات الحادة لأصحابها الصوالحة. كذلك كان يستعرض أمامها عضلاته النامية، بهزه جذع شجرة توت بقوة كي تتساقط الثمار في بطانية أحضراهما معهما لهذه الغاية. ذات مرة، أسعدته كثيراً عقبَ جمعها لأزهار برية من ضفاف الساقية: " هذه لك، ابن الخال! "، قالتها وهيَ تقدم الباقة. منذئذٍ خيّل إليه أنه أضحى فتاها، وكان يختلق الحجج ليجتمع بها في منزل الجدة، أينَ استقرت مع أسرتها بعيد مصرع أبيها في معارك الثورة. الجد، الحاج حسن، فرضَ عليها آنذاك تركَ المدرسة ولزوم المنزل. ذلكَ، طابقَ هوى ديبو؛ هوَ مَن حُرمَ من الدراسة غبَّ قضائه فترة التعليم الدينيّ عند الخوجة، ليُدفعَ به بعدئذٍ إلى العمل مع أبيه قبل أن يقرر أخيراً التطوع في سلك الدرك.
عليه كان أن يتذكّرَ فيما بعد مشاعرَ الغضب، التي امتلأت بها نفسه حينَ وصفته كَولي ب " قاتل أمه "، وهذه المرة على خلفية رفضها له كطالب زواج. والده، تعهّد بذاته نقلَ جواب ابنة شقيقته بذلك الخصوص، بهدف صرفه عن التفكير بها نهائياً. وإنه الأب، من اقترح عليه لاحقاً التفكير بفتاة أخرى: " إنها موجودة، وتفوق كَولي جمالاً، فضلاً عن رقتها ولطفها وأدبها ". هكذا وُضِعتْ بيروزا، ابنةُ السيدة ريما، في طريقه؛ وكانت مثله قد نشأت يتيمة، لكن من ناحية الأب.

* مستهل الفصل التاسع عشر/ الكتاب الرابع، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR