الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- تابو - تكسير المحظور و تعرية الواقع

علي الشمري

2020 / 4 / 15
الادب والفن


في روايته الاخيرة تابو، يُكسّر حميد المختار كل التابوهات المحظورة، ويُخضعها لأدواته السردية من نقدٍ و تأليب وتوبيخ، فهنا رواية على مستوى من الجرأة، و مناقشة المحظور وتعرية الواقع، وهنا ايضًا رواية كُتبت باحترافية عالية، و سردية متقنة، فهل يختتم حميد المختار مسيرته بتابو.
في الاهداء الذي استعاره المختار من مسرحية بوريس غودونوف لـ بوشكين، جعلني اتساءل ان كان للمختار ان يختتم مسيرته بـ تابو لأن العتبة الاولى في العمل دائما ما تكون معبرة عن دواخل الكاتب نفسه، اذ كُتب في الاهداء
[ ثمة قصة أخيرة وينتهي سفر مدوناتي، نفذت انا الآثم ارادة الرب الموكلّ بها، ليس عبثًا ان جعلني الآله شاهد اعوام عديدة وهداني الى فن وصنع الكتب.
دؤوبٌ ستمضي السنون وسيعثر راهبٌ على كتبي الغيورة المجهولة، ويشعل كما فعلت انا مصباحه ويعيد كتابة القصص الحقيقية ... ]
وماجعلني استاءل مرة اخرى، هل يتقاعد الاديب عن الكتابة، ويعلن في يومٍ ما انه قد كتب آخر مدوناته، وان سفره قد انتهى ؟؟

بعد ان يكتب عبد الحميد المختار، الشخصية الرئيسية في الرواية والذي سيأخذنا معه حتى النهاية في رحلة متشعبة متعبة من الاحداث و التساؤلات و العودة الى الماضي، يومياته، يقرر ان يبحث عن ابليس، جاء هذا بعد ان داهمه خطر الاحساس بوجود اشباحٍ في غرفته الضيّقة، فعزم على ان تكون مهمة البحث عن ابليس قضيته الرئيسية، اذ يقول " وبما انه طرد من الجنة وهبط الى الارض فهذا يعني انه موجود معنا يعيش بين ظهرانينا، يأكل وينام ويتزاوج وينجب ولكن لا يموت، الفرق بيننا وبينه اننا نموت وهو لا يموت، والفعل هو الفعل، فعلنا واحد، نحن نشترك به، القتل والسرقة والظلم والفواحش ما بطن منها وما ظهر جميعًا كلها نتيجة اعمالنا نحن " فهنا لا فرق بيننا وبين ابليس، حتى ان افعالنا و تصرفاتنا تتشابه ولا تختلف، وربما تكون النفس البشرية أشرُّ من ابليس نفسه، كما وان الشيطان يمثل فى الأدب صورًا عديدة، منها التمرد على السلطة الاستبدادية، ومنها نكران الجميل، والخبث والغدر وحب الإساءة إلى الآخرين.
ان مهمة البحث هذه يتّخذها المختار بابًا لطرح التساؤلات التي يحملها البشرية همًا على صدروهم، واقصد بها التساؤلات المقلقة المحاطة بكم من الادعاءات و الموروثات، فعبر شيطانة الحواس التي هي ابنة ابليس والتي ستوجد ربما في ذهن الشخصية الرئيسية في الرواية التي تعيش حالة نفسية متزعزعة، ستصدح في آذاننا التساؤلات، و الحجج، ان قصة الخلق و احتجاج الملائكة على الله ايضًا تثير تساؤلًا عن علمهم بفساد الانسان وهم الذين لايعلمون بشيء، لتقول شيطانة الحواس ان في الوقت الذي كان ابليس يعبد الإله مدة ألف سنة، كان ثمة بشر على الارض يقتلون ويسفكون الدماء، لم يكن ثمة ابليس معهم، فمن اين جاءت شرور الانسان القديم، اليست هذه ورقة براءة من كل الجرائم التي علقوها به، كما لو كان شماعة الوجود الازلية التي تحملت كل جرم وبشاعة ووقاحة الانسان، ليأتي الدور بعد ذلك الى هابيل وقابيل ليقتل احدهما الآخر و ليبدأ تاريخ دماءٍ جديد على هذه الأرض.
ان الانسان كان مصدر الشرور الأول، قبل ان يوجد البشر، منذ ان كان هناك بشر قبلنا، وحتى وجدنا، فأن النفس هي الشيطان الحقيقي، وهي التي تصدر منها كل الموبقات، في حين ابليس ليست له القدرة على التحكم بالنفس لولا ان النفس هي اقوى من ابليس نفسه، و اجرأ منه ايضًا.
يواجه الشخصية الرئيسة في الرواية وهو عبد الحميد المختار، امرًا غريبًا يجعله في دوامة من الحيرة، اذ يتلقى اتصالًا مفاجئًا من مركز الشرطة يطلبوه بالحضور، وبعد ان يحضر يخبروه ان هناك جريمة قتل قد وقعت، وان المقتول هو انت، و بعد ان يُحال الى المحكمة، يخبره القاضي بأن المقتول يحمل اسمك و صورتك وكل شيء يخصك، ورغم ان الجثة كانت مشوهة ولايمكن التعرف عليها وكيف يمكن ان تكون مطابقة لـ عبد الحميد المختارـ الا ان القاضي يحيله هو الآخر الى لجنة شُكلت لهذا الأمر، وهم ينتظروه في وزارة العدل.
بعد ان يصل الى وزارة العدل، يلتقي باللجنة المكونة من خمسة اشخاص، بينهما امراة، فيخصص كل واحد منهم يومًا للقاء عبد الحميد المختار و التحقيق معه، علّهم يتوصلون الى كشف سر هذه اللعبة، في مكتبته وبعد عودته، يستعيد المختار حياته السابقة، يتذكّرها و يقلّب صورها، مرغمًا بالاعتراف على سنوات حياته كلها، فيأخذنا في رحلة الى الذكراة، الى الاعماق، الى الطفولة و الأزقة والسجون و مآسي الحياة و بؤسها، من بطش السلطات و استبداد الانظمة الى الديمقراطية المستهلكة وصورتها المشوهة، ليأخذنا بعد ذلك المختار في اقسام الرواية وتقسيماتها التي تتراوح بين الطويلة التي ستشكف لنا عن شخصياتٍ اخرى في الرواية، مثل الحاج عبد القادر الذي سيبدوا من اول ظهور له على انه شخصية مهمة من خلال ما يحيط به من مظاهر الترف و الحمايات، حتى عبود صاحب الاسطورة وزاير موسى وجواميسه و الجنون الذي سيصيب القطاع 33، وبين المقاطع القصيرة التي اما ان تكون بمثابة المنفذ الضيّق للقارئ الذي يعبره الى عوالم اوسع و اعمق، واما تكون بمثابة مقاطع كثيفة لاتخلو من فلسفة و فكرة ومناقشة لدوافع نفسية و اخرى دينية، او وجودية، او اجتماعية.
على امتداد الرواية التي بلغت صفحاتها 326، لم يترك لنا المختار مجالًا للأستراحة، او التأجيل، فالعوالم الغرائبية و الفنتازية التي صنعها المختار مزجًا بالحياة اليومية في الرواية كانت مثل المغناطيس التي تسحب القارئ بقوة، ليُكمل، وكما عبر عنها الناقد علي عبد الامير صالح في تعليقه على الرواية بأنها عوالم فنتازية وغرائبية اكثر واقعية من العوالم الحقيقية، بفضل الخزين المعرفي والفكري و الموهبة الادبية و الحساسية المرهفة للروائي، فالجنون الذي يصيب القطاع 33، خير دليل على ذلك، فالأم التي التي تستيقظ في الصباح لتبحث عن بكارتها في الفراش، و الاب الذي يبحث عن عضوه المفقود ويقول انهم سرقوه، و الجارة التي تبحث عن زوجها بين تلال الزوري ولاتدري انه أخذ جمعًا من الصبية وبدأ يبلع الدعبل ويصدر من بطنه اصوات ارتطامها، و (شالح) الذي رآه الناس وهو يفتح قدر اللبلبي لتطير منه طيور الجن الشبحية مالئة سماء القطاع بالاجنحة المحلقة، و المراة التي امسكو بها وهي تخون زوجها مع عشيقها الذي قتل زوجها، وبعد ان اخبروها بانه قام من موته فصاحت بهم: تماما كمؤخرتي التي تغني .. فظن الناس انها جنت لكن الذي حدث بعد ذلك كان بادئة الجنون المطبق، لان مؤخرة هذه المرأة فعلا ً اطلقت غناءً عالياً ضجت له جنبات القطاع، كان صوت الغناء الخارج من هذه المؤخرة بلا انقطاع طيلة ساعات الليل التي اربكت نوم الاطفال والمرضى مستمرًا مما دعا الشيخ خلف ان يعلو بصوته المتعب محاولا التغلب على صوت مؤخرة هذه المرأة وهو يؤذن لصلاة الصبح وكان يقهقه بصوت مسموع فانتبه الناس له لانه كان يؤذن بالمقلوب..
تنغمر الرواية ايضًا في الحياة الاجتماعية للناس، في يومياتهم، في استرجاع ماضي النظام المستبد، من اعتقالات وسجون، ثم سقوطه، وبداية عصر الديمقراطية الذي جاءنا به مجرمون آخرون يلبسون لباس الدين، و الجهاد، و النضال، والحجج النتنة التي فاحت رائحتها فيما بعد، والذي سيتجسد ذلك في شخصية الحاج عبد القادر النسر، الشخصية الاشكالية المركبة ذات الماضي و الحاضر المختلف، فهو نموذج يقدمه الروائي لمئات من الذين كانوا ذوي نفوذ في النظام، حتى اصبحوا حجاجًا في عهد الديمقراطية، دون ان يتخلو عن نفوذهم في الدولة الجديدة ايضًا.
تتعدد الاصوات في الرواية، تتشاكل الاحداث، وتشتبك، وتتعقّد، انتقالًا بين ماضي، وحاضر، ونقل لأحداث، وقص لأحداث من جهة معلومة، فمن أيروس نامة وهي القسم الاول من الرواية، الى اجنحة الموت البيضاء وهي القسم الثاني، الى فرناندو ووجوهه الخمسة وهو القسم الثالث قبل الخاتمة، نكون امام نصًّا سرديًّا محكمًا عميقًا مليئًا بالاحداث التي تتفكك و تتشكل و تتعقّد، وهذا ما اجده في قدرة المختار السردية وعبقريته التي تتجلى في الرواية، وربما ان قراءة واحدة لهذا العمل المتعب لا تكفي، فربما يحتاج القارئ الى قراءة ثانية ايضًا للإحاطة بهذا النص و الغور في اعماقه اكثر و اكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس


.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم




.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب


.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي




.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت