الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحصين المجتمع من الاستلاب الفكري ودوره في مكافحة التطرف

محمد محي محمد الجنابي
باحث واكاديمي في الشؤون السياسية والاجتماعية

(Mohammed Muhi Aljanabi)

2020 / 4 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


الإستلاب الفكري: يقصد به عن حالة معرفية تحقر الذات ومعارفها وعلومها، ومن ثم تمجد علوم وثقافة الأخر، وتسعى للاندماج والذوبان فيها، على حساب المجتمع ومصالحه ومستقبله، وتكمن هذه الظاهرة بصورة الانبهار والدهشة بكل ما هو أجنبي مع زرع بذور الشعور باليأس وعدم الثقة بالنفس، واشاعة كل ما هو غريب وشاذ عن واقع المجتمعات وزعزعة القيم النبيلة فيها بُغية تهيئة الظروف المناسبة لتتقبل المفاهيم والمبادئ الوافدة والتي تتقاطع مع الهوية الفكرية لهذه المجتمعات. وتسعى الجماعات التي تقف وراء نشر الإستلاب الى:
1_ فرض ثقافة القطب الأوحد وطرائق تفكيره على حساب الثقافة الوطنية عبر وسائل الاتصال والتواصل المختلفة.
2_ تعزيز الفجوة بين المثقف ومجتمعه عبر توهين والغاء الرابطة الروحية بينهما.
3_ نشر الأفكار الهدامة عبر انسلاخ الشعوب عن جذورها التأريخية والحضارية.
ان الشعور بالدونية إزاء الفكر الأقوى، يمثل أخطر الأسباب التي تدفع العقل الجمعي الأدنى على الاستسلام، فمجرد إصابة الشخصية بهذا النوع من الشعور، يجعله مستسلما للآخر بنحو كلّي، ويقع في أسره التام، وتبقى الهوية الفكرية الخاصة في حالة ضمور وانطفاء وعجز شبه تام على مواجهة الفكر الدخيل، ولعل أخطر ما في الشعور بالدونية، حين يتحول الى نمط جماعي، يصيب المجتمع كله، هنا يصير العقل الجمعي مشلولا بنحو تام، وبالتالي تندثر كل أسباب وعناصر المواجهة.
لذلك فان خروج الانسان من دوامة الإستلاب الفكري والهزيمة الإغترابية تقع على عاتق المجتمع والدولة التي يعيش في كنفها عبر عملية تنمية الوعي الفكري الناضج لديه، لكونه يشكل إحدى الرهانات الأساس الرابحة في عالم يموج بالعديد من التيارات الفكرية والثقافية المختلفة في أهدافها والمتباينة في توجهاتها ومواقفها، لذا فإن ترسيخ الوعي الفكري السليم يشكل اليوم إحدى المهمات الرئيسة في إعادة تأهيل المجتمع العراقي في مرحلة ما بعد النزاع، كما وتُعد في الوقت ذاته إحدى الركائز الأساس التي تتكأ عليها الرسالة الحضارية اليوم للشعوب التي تريد أن تبني لنفسها حصناً منيعاً ضد الأمواج الأيديولوجية الغريبة عن واقع مجتمعاتها وتراثها الثقافي.
ومن اجل تحصين المجتمع من الأيديولوجية الغريبة وصولاً للتحصين الكامل من الإستلاب الفكري ولاسّيما المجتمع العراقي، لابد من العمل على جوانب عدة ومنها:
1_ الحفاظ على أصالة الموروث الفكري والثقافي للامة وصيانة منابعها من أي دنس يلوثها بما يكفل إعادة تحقيق شخصيتها عبر التعمق في معرفة قيم ومضامين الذات الحضارية، والتواصل المستمر مع مبادئها وانجازاتها الحضارية ومفاهيمها الإنسانية.
2_ التواصل المستمر مع الثقافات الإنسانية المتنوعة وخلق منظومة ثقافية حوارية تواصلية، تعتني بعملية الانصات والحوار، وتنبذ كل خيارات الاقصاء والعنف في التعامل بين الثقافات الإنسانية، فبمقدار تواصلنا المعرفي وحوارنا الثقافي مع الآخرين نتجاوز خطر الإستلاب، لان التجارب علمتنا أن الانطواء يفضي إلى الإستلاب، بينما العقل التواصلي والثقافة الحوارية، هي التي تتمكن من استيعاب كل عناصر الحيوية والفعالية لدى الثقافات الإنسانية المختلفة.
3_ تجديد الفكر الحضاري والثقافي للمجتمع، على أنًّ يتحول التطلع إلى التقدم والتطور إلى مشروع عمل ولا يتم الاكتفاء بالأقوال أو التمنيات وعمل وكفاح متواصل نحو خلق وقائع وحقائق التقدم في المحيط الاجتماعي، فلا خروج من خطر الإستلاب الفكري إلا بنهوض المجتمع وفعاليته وحيويته وعمله المتواصل لإنجاز طموحاته وتطلعاته الحضارية.
إنًّ تحصين المجتمعات بشكل عام والمجتمع العراقي بشكل خاص من أيديولوجيات الاختراق الفكري سيعمل على حماية قيمه وعاداته وأخلاقياته من موجات ثقافية وفكرية ضارة له، فتحصين الجبهة الداخلية للمجتمع كلما كانت قوية ومتراصة البناء، كلما كانت مسالة اختراقه من الموجات المعادية لها امراً صعباً، وتلك بلا ادنى شك تحتاج العمل على توصيات عدة وأهما:
1_ تحسين جودة التعليم: يُعد التعليم المحرك الأساس في تطور البلاد وبناءً الحضارة، وإنًّ التشتت والتشرذم والصراعات وعلى رأسها التطرف الإرهاب، تتحمله جزء من تكوينه الأخطاء في التربية والتعليم وتدني جودتهما، إذ لا خلاص من الأزمات دون تربية الفرد بروح التسامح والمحبة، ولا حرية دون التعليم الصحيح، فهما في أي مجتمع يجب ان يكونا متوازيان، وهي مرحلة تبداً بغلة التعليم التي تعزز الشعور بالانتماء إلى هوية وثقافة مشتركة مع ضمان التعليم بلغة الاقليات في حال كان المجتمع متعدد وتنوع، وكذلك للمعلم دوراً اساس عبر تمسكه بأخلاقيات مهنته والنهوض بأعباء مسؤولياتِه والابتعاد عن اشكال التعنيف للطلبة كافة، كما ان للمناهج الدراسية أدواراً ملحوظة في تحصين المجتمع من الاستلاب الفكري عبر تضمينها مواد الفلسفة وعلم الاجتماع وتأريخ الأديان المقارن والعديد من المناهج الانسانية التي من شأنها إزالة التعصب وزرع روح التسامح وتعليم الطلبة التأريخ المشرق والمشترك لحضارتهم بغية التمسك بها.
2_ ترسيخ مبادئ حقوق الانسان: إنًّ تطبيق قواعد العدالة الإجتماعية وقيم المساواة بين جميع شرائح المجتمع وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الطائفة والمذهب، كفيل بترسيخ التضامن الإجتماعي فالناس متى ما شعروا بأن حقوقهم محفوظة وجوانبهم من المظالم مأمونة وأن الجميع سواسية القانون دون تمايز بينهم، عندئذٍ يشعر الجميع أنًّ قيم العدالة قد ترسخت أقدامها، وهذا بحد ذاته يؤدي الى كسب قلوبهم وربطهم بالدولة، فيزداد حرصهم على أمنها واستعدادهم للذود عنها، وتُعد هذه من الدعامات الرئيسة لتحصين المجتمع من الاستلاب وتمثل عاملاً ايجابياً في مكافحة التطرف والانعزالية.
3_ تعزيز مبدأ الديموقراطية: لابد من تعزيز وتجذير قواعد الديمقراطية في المجتمع، وصولاُ الى تأسيس دولة القانون والمواطنة بإبعادها كافة، عبر تحقيق المساواة في منح الفرص للجميع للوصول للسلطة، وتولي المناصب الحكومية على أساس الكفاءة والمشاركة في إدارة الدولة وصنع القرارات المشتركة، ويفضي ذلك بشعور الجميع أنهم شركاء حقيقيون، وهذا من شأنه تعزيز التماسك الاجتماعي والابتعاد عن النظر بتطرف للدولة والمجتمع ومن ثم تعزيز التماسك والثقة بين الافراد من جهة وبين الافراد و المجتمع من جهة اخرى.
4_ بناء اجهزة اعلامية فاعلة: لابد من بناء ماكنة إعلامية متقدمة على المستويات جميعها من أجل الثبات أمام التيارات الجارفة للأفكار والثقافات التي تبث سمومها في جسد الامة محاولةً شل حركتها من المواجهة الداخلية، وذلك من خلال مواكبة التطور التقني والتكنولوجي الذي طرأ على الاعلام بأنواعه المختلفة، الإستعانة بخبراء مختصين سواء على صعيد الاعلام المقروء كالصحافة ووسائل التواصل الإلكتروني أم على صعيد البرامج والمواد المتلفزة.
5_ تبني منهج الإعتدال والوسطية: إنًّ أحوج ما يكون اليه مجتمعنا في واقعنا المعاصر هو تبني المنهج الوسطي والمعتدل البعيد عن مظاهر الغلو والتطرف كلها، الذي يقيها من الوقوع في الانحرافات الفكرية والعقدية والسلوكية التي فيها العديد من الافراط والتفريط، فالعمل وفق مبدأ الوسطية يمثل قمة التوازن في النظرة الى شؤون الحياة المختلفة وهو السبيل الأمثل في الحفاظ على اللحمة الوطنية من أن يصيبها أي شرخ يهدد أمنها وإستقرارها، ومن أجل التشخيص السليم والدقيق لظاهرة التطرف والتشدد الديني منه والفكري لدى الجماعات الراديكالية (المتشددة)، لا بد من معرفة الأسباب التي تُكمن وراء بروز تلك الظاهرة لديها والتي تتُمثل بعدم معرفتها الشاملة للأحكام الشرعية ومقاصد الشريعة والسيرة النبوية الشريفة، ناهيك عن القصور في إدراكها وفهمها للمصطلحات الرئيسة كالتكفير والابتداع واهمال الرأي الاخر والركون الى الجدل العقيم بالأمور الفرعية في الدين ، إنُّ معرفة أسباب وخصائص هذه الظاهرة المقيتة يساعد في إيجاد المعالجات السليمة والمناسبة والحد من مظاهرها الضارة تجاه المجتمع والقضاء عليها، عبر الإعتماد على أليات ووسائل فاعلة تتكفل النجاح لهذه المهمة ومنها، نشر فكر الاعتدال والوسطية الذي يمثل إحدى الرهانات في كسب الصراع مع هذه الجماعات التي زرعت الخوف والهلع ولاسّيما في المناطق التي إحتلتها ومناطق تواجدها، فالتطرف والتشدد ليس له دين أو وطن، وأنما هو جرثومة تصاب بها المجتمعات الإنسانية كافة.
5_ إعادة الـتأهيل النفسي: لقد تركت فضائع الحروب والنزاعات أثاراً مدمرةً على حياة أفراد المجتمع العراقي بشكل عام وعلى النساء والأطفال بشكل خاص، لأنهم افتقروا الى الرعاية الصحية السليمة، نتيجة تداعي الهياكل الصحية الأساس التي تدمرت هي الأخرى، بسبب الحروب والإرهاب، كما تعرض العديد من الأطباء المختصون بالصحة النفسية الى القتل الممنهج والتهجير، ناهيك عن قلة الوعي والنقص في الملاكات والمستلزمات في ظل حالة الفوضى وفقدان الأمن الأمر الذي جعل هذا القطاع قطاعاً مهملاً .
وفي مقابل ذلك، نجحت الجماعات الارهابية والتنظيمات المسلحة في ظل غياب المعالجات الحكومية المناسبة من إستثمار هذا الإهمال وتحويل العديد من دور العبادة بل وحتى السجون الى مراكز تأهيل نفسي سلبي للألاف من المراهقين والاطفال والنساء والارامل المصابين باضطرابات نفسية وما يسمى (إضطرابات ما بعد الصدمة) والفاقدين الأمل بالحياة والعديد من أيتام الإقتتال الطائفي، والذين يسهل تعبئتهم تحت غطاء ما يوفره الدين من أمل في حياة اخرى أكثر امناً وسعادة، ومن ثم تحويلهم الى مشاريع استشهادية وأدوات مجانية لتلك الجماعات .
لذلك بات من الضروري اعادة التأهيل النفسي لتلك المجتمعات المأزومة، ولاسّيما للنساء والأطفال والمراهقين منهم، ويتطلب ذلك:
1_ سياسات الأمد القصير (في أثناء النزاعات والحروب) :
أ_ توافر الاحتياجات الأساس والملحة للأطفال والمراهقين المتضررين كالغذاء والخدمات الصحية الأساس والخدمات التعليمية للنازحين والمهجرين منهم وعلى أساس العمر بعيداً عن الاجراءات الروتينية المعقدة.
ب_ إتخاذ إجراءات صارمة لمنع تجنيد الأطفال والمراهقين من قبل الجماعات الإرهابية والحركات المسلحة الأخرى.
ج_ ابراز محنة العراق وعدد القتلى والارامل واليتامى عبر استراتيجية إعلامية لتحشيد الرأي العام للضغط على المجتمع الدولي للنهوض بمسؤولياته الاخلاقية والقانونية تجاه العراق ومجتمعه وهو أمر تحتمه ضرورات ومستقبل الأمن والسلم الدوليين في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
2_ سياسات الأمد البعيد (المستدام):
أ_ العمل على تهيئة مراكز لإعادة التأهيل النفسي مع ما تتطلبه تلك المراكز من مستلزمات وكوادر بشرية مؤهلة، مع امكانية الاستعانة بالخبرات وبعض الكوادر الاجنبية لسد النقص الحاصل في الاخصائيين بهذا المجال الإفادة من التجارب الدولية في هذا المجال.
ب_ إعتماد سياسات تنموية قائمة على رعاية الطفولة والشباب والإستثمار في مستقبلهم على الأساس الرصين للأمن والتنمية وهو ما يتطلب إعتماد ميزانيات وخطط إستثمارية بعيدة المدى، تعتمد على تنشئة الاجيال للتعايش والتسامح بعيدة عن لوثة العنف والإرهاب، تبدأ من الحضانة والروضة مروراً بالبيت والمدرسة مع ضرورة الإهتمام بالنشاطات اللاصفية في المدارس كالتربية الفنية والرياضية.
ج_ العمل على أصدار تشريعات جديدة مثل قانون حماية الطفل وتعطي الأولوية لإعادة تأهيل ودمج ورعاية شرائح الاطفال المتضررين من النزاعات والحروب، مع ضرورة انشاء مركز وطني متخصص مدعوم بقاعدة بيانات يُعنى باليتامى والارامل لإعادة دمجهم في المجتمع.
د_ تشجيع الدراسات والبحوث التي تتناول المشكلات النفسية للنساء والمراهقين والاطفال، ولاسّيما المتضررين منهم من النزاعات في المناطق المحررة، وعلى مستوى الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نازح من غزة يدعو الدول العربية لاتخاذ موقف كالجامعات الأمريك


.. 3 مراحل خلال 10 سنوات.. خطة نتنياهو لما بعد حرب غزة




.. جامعة كاليفورنيا: بدء تطبيق إجراءات عقابية ضد مرتكبي أعمال ا


.. حملة بايدن تنتهج استراتيجية جديدة وتقلل من ظهوره العلني




.. إسرائيل تعلن مقتل أحد قادة لواء رفح بحركة الجهاد