الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصائد لا تعارض صيرورة الشعر ولا تقف خارج سياقاته: -الفادن غناء فحسب- لحميد العقابي

كريم ناصر
(Karim Nasser)

2006 / 6 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أوّل ما تتصفّح المجموعة الشعرية المسمّاة (الفادن) تُصادفك شفافية اللغة المهندسة بوعي عالٍ، والمبنية جوهرياً على عناصر لا تخرج البتّة على بنية اللغة الشعرية.. وانطلاقاً من الجوّ العام للقصائد، يتّضح لنا أنَّ العقابي يحرص على إشاعة نوع أدبي مختلف لخلق تغريبة شعرية في سياق النص، كدلالة للبحث عن أشكال غير تقليدية، أو اجتراح صور متضمّنة وحداتٍ من التجلّي العاطفي، نجد شذراتٍ منه في بعض المقاطع1.
وبنفس الطريقة يؤسّس الشاعر لموضوعاته عوالمَ شعرية مختلفة السياقات والمفهومات، من دون أيّ ضغط فكري، أو أيديولوجي، أو نفسي مسلّط عليها من الخارج. إنها قصائد لا تعارض صيرورة الشعر، ولا تقف خارج سياقاته..
((النهرُ أغنيةُ المدينةِ، أمنياتُ الطفلِ
يتبعُ زورقَ الورق
ليبدأَ رحلةً أولى إلى المجهول،
مخبأُ عاشقينِ يمارسانِ الحبَّ،
نطفةُ خالقٍ شبق.
النهرُ معبدُ شاعرٍ يصغي إلى الماءِ الذي بدأَ الخليقةَ
فانتهتْ بالنفيِ والغرق)) النهر ص48
لكن مع ذلك تبقى المجموعة بنظرنا دوماً، مادة تخضع للتحليل النقدي، والتشريح على ضوء المعطيات النقدية المعاصرة، وذلك لتقويم النص وإعادة إنتاجه على مبدأ الموازنة بين الدال والمدلول، وبين التقنية اللغوية وتقنية الإيقاع..

إنه لمن الضروري جدّاً، أن ننبّه إلى أنَّ لغة الكتاب لا تفرض نوعاً من القوانين الصارمة على القارئ، بوصفه متلقٍ أو ذوّاقاً للشعر، إلاّ في إطار القراءة التي لا تتطلّب الكثير من الصعوبات. ولتقريب الأمر من ذهن القارئ اللبيب، نقسّم الكتاب إلى أربع فئات مختلفة الاتجاهات والرؤية:
التخيّل الإيروتيكي بين الافتراض والحقيقة
تغليب الجملة الموسيقية على المتن الشعري
الواقعية في التصوير الشعري يلغي الإحساس الجمالي بالدلالة
الإنزياحات اللغوية تجسيد للتجلّي الأدبي

التخيّل الإيروتيكي بين الافتراض والحقيقة:
لا يمكننا البتّة القول إنَّ معظم الشعر المكتوب إستعاري، أو افتراضي يخضع لآلية شعرية معينة، وإنه لمن الصعب بمكان القول أيضاً، إنَّ هناك شعراً خيالياً بحتاً، أو شعراً واقعياً بحتاً، أو شعراً افتراضياً بحتاً، كما سبق أن قلنا. هناك في الواقع نمطُ شعرٍ يصوغ غالباً مفرداته بدقّة معهودة من صميم الواقع وكينونته المعقّدة، ويأخذ مادته الحيّة منه، كتجلٍّ لتمثّلات ملموسة، مستعارة من الواقعي لا المجازي، ومن غير الواقعي لا الخيالي، لرسم ملامح النص الشعري، والارتقاء به على (المستوى العاطفي) الذي نتخذه نموذجاً لهذه الفئة، ولكون الثيمات الأساسية يغلب عليها الطابع الغرامي (= الإيروتيكي) كما توحي إلى ذلك النصوص الآتية: (طفولة، تسبيح، تردّد، ديك الجنّ، إصغاء، الضلّيل، سيرة، الجسد، واقعية، سراب مالح، الراقص، قصيدة مضادّة الخ). والقصائد أعلاه إمّا أن تكون مركبة من مقاطع/كلمات صغيرة عابرة، وإمّا أن تكون محتوية صوراً مثيرة فيزيائياً، دون أن تلغي وظيفة الشعر كمدلول وكفن، لكنَّ الشاعر في الأغلب الأعم يشتغل على النص الجنسي، ليس بوصفه مادة لفعل (الأورجازم) لحظة النشوة، وإنما بوصفه ثيمة رئيسة متضمّنة لقطاتٍ من التجلّي الإيروتيكي، أو من التخيّل الإيروتيكي، كما الحال في: (ديك الجن) و (الراقص). ويكفي أن نعلم أنَّ الشاعر لا يخفي تعلقه بالمرأة المؤلّفة هاجسه الشعري الأول الذي لا يتوقف عند حدٍّ معين، كونها العنصر الأهم المبثوث في النص، أنظر (إصغاء) ص24 على سبيل المثال.. إنه يبدو واضحاً من الثيمة إنّ هناك فهماً واحداً لنموذج شعري تخيّلي فرض سطوته على مهيمنات النص، حتى لو غابت الجملة الإيروتيكية من السياق، إلاّ وهو سطوة المرأة التي شغلت مساحاتٍ واسعةً من نص الشاعر.. فهو يحاول جاهداً إظهارها بقوة، وإذا ما تعذّر ذلك فيطلقها في مخيّلته مصغياً إلى ضحكتها وهي قادمة.
وبهذا يحتلّ هذا الصنف الشعريّ مساحة كبيرة من تفكير الشاعر، انطلاقاً من قناعاته التامة بأهمية الجنس للتواصل الإنساني، وتأثيره على إحساسنا الجمالي المتمثل بالإنزياحات التي تخترق اللغة بين الافتراض والحقيقة، أو بين الواقع والخيال أو المزج بينهما..
يُفرغُ أغلب النقاد المعنى الدلالي من (الظواهر العاطفية) والرومانتيكية من دون الأخذ بعين الاعتبار أنَّ العملية الجنسية وظيفة معرفية. الشاعر هنا لا ينتج في رأينا صوراً ميكانيكية/ مجانية مجرّدة من الدلالة، لإدراكه أنّ الفعل الجنسي في أغلب الحالات تعبير عن وعي ثقافي، قبل أن يكون تعبيراً عن عواطف معينة، كما أنَّ لغة ((المعجم العاطفي))2 تتيح مجالاً واسعاً لإنتاج نمط من الشعر الدلالي، أكثر مما تنتج شعراً ذاتياً.
((تستوي النارُ على عرشِ الجسد
كإلهٍ مُستبِد
حاول العاشقُ أن يُطفئها
برضابِ القبلات
حاول الصوفيُّ أن يُطفئها
بترابِ الصلوات
حاول الشاعرُ أن يدلقَ نهراً فغرق
بيدَ أن النارَ تزدادُ أُواراً
أحرقت كلَّ الجسد
فتوارى)) الجسد ص44

تغليب الجملة الموسيقية على المتن الشعري:
من المعلوم أنَّ الشاعر يحاول قدر الإمكان التمسك بالوزن والقافية، معتمداً على نظام عروضي، نفهم منه أنه توافقي مرتبط بجوهر الخطاب الشعري نفسه، وليس نظاماً نمطياً صارماً، كما الحال في القصيدة العمودية ذات الطبيعة الموسيقية العالية..
والحقيقة أنَّ النظام العروضي الموضوع أصلاً من الخارج، يفرض دائماً (نمطاً زخرفياً) من شأنه أن يحدّد النص تركيباً وبناءً، ويروّضه في إطار القافية والجناس والوزن والإيقاع.. وتبعاً لذلك نلاحظ الشاعر لا يتردّد مطلقاً في الرجوع إلى نظام الشعر العروضي، حتى لو أخضع نصه إلى ضرورات عروضية شكلية، ولكن هل من الرجاحة الالتزام بمثل هذا المبدأ لنظم الشعر الحديث؟ فنحن نعلم أنَّ الإيقاع يمكن أن يغدو شاذّاً، إذا تعارض مع التراكيب اللغوية، ويكفينا أن نعرف أيضاً أنَّ نفي المدلول لأجل إثبات الدال (= السمات العروضية) لا يؤكد إلاّ خطل التوزيع غير المتكافئ، بين الإيقاع والدلالة، والفونيمات (الأشكال الصوتية) المتماثلة، والنبر، والتناغم، والمعنى الخ.. هذا إذا ما اعتبرنا أنَّ الوزن يفرض غالباً أسلوباً تصويرياً واقعياً، لا يخدم العملية الشعرية..
إنَّ ما يشفع لشاعرنا العقابي هو: قيامه بالتوزيع العادل نسبياً للعناصر الوظيفية، خالقاً في الوقت ذاته لغة شعرية متوازنة الجمال، ولكن مع ذلك لا ننفي، تصميم الشاعر على الرجوع الدائم إلى الشعر الموزون وانحيازه التام له، مما أدّى إلى تخلخل أغلب الأنساق الشعرية التي تتطلّب تقنيات حداثية، لا تقنيات الإيقاع، مثال ذلك: (وطن، الحانة، مكابرة) الخ.

الواقعية في التصوير الشعري يلغي الإحساس الجمالي بالدلالة:
إنَّ ما نسمّيه الواقعية في لغة الشعر، لا يناقض مبدأ التأويل الشعري فقط، وإنّما يتعارض معه أيضاً في إنتاج المعاني الدلالية، والواقع أنَّ جوهر الفن الحقيقي، لا يتحقّق بفعل ميكانزم اللغة النمطية التي لا تعبّر عن حقيقة الشعر المعياري الخالص. فإنّ الفعل الشعري يكون قائماً دائماً على التأويل، وجوهر الفن على الصور البلاغية مثلما يذكر لنا ذلك (جان كوهن). أمّا إذا اعتبرنا أنَّ الواقعية فن معياري، فنكون بذلك قد جنينا على الشعر، ولتأكيد ذلك يبقى ضرورياً أن نذكر أسباب تداعيها في نقطتين متباينتين.. أولهما: تغليب النموذج الذاتي/ المباشر على الموضوعات التي تُعنى بالفن الدلالي.
وثانيهما: تفضيل الإيقاع وتجسيده في الصورة الشعرية، تماشياً مع حفظ النمط، كما بيّنا ذلك قبل قليل3. إنَّ الشعر الواقعي ـ المفرط في الوضوح ـ يسعى إلى نفي المعنى الدلالي، ونفي الانزياح اللغوي الذي يؤدي بالتالي إلى نفي الشعرية.
لم تنجو المجموعة الشعرية (الفادن) من جوّ الواقعية الذي يغلّف معظم نصوص هذه الفئة، وإذا ما نجح الشاعر في ترميم المستوى الصوتي، بوضع سياقات له في كلّ موضع، غير أنّه استعصى عليه وضع بدائل لغوية استعارة/ مجاز/ انزياح تحّقق نوعاً من الموازنة بين الدال والمدلول (الصوت والمعنى) ولكن هذا لا يعني في النتيجة أن ننكر أنَّ القصائد المذكورة شكلاً وبنية وتجسيدات، لا تشهد تقنيناً صارماً في السمات اللغوية التي مبدؤها الأساس الاختلاف، لا التقليد بمستوياته الضيّقة
وإذا ما تعمّقنا في البحث، سنكتشف حتماً مقاطعَ شعرية في هذه الفئة، تتجاوز أُطر التعابير النمطية، مما ندعوه بالشعر الواقعي.. إنَّ العقابي يعرف مسبقاً بأنَّ الشاعر خالق للنص وليس كاتباً له، على وفق مقتضيات مفهومية وواقعية.. كما أنَّ الشاعر الحقيقي لا يخضع قطعاً لأية ضرورة شاذّة، إذا كان الاختلاف شغله الشاغل.. لنأخذ هذا المقطع من قصيدة (عبور) على سبيل المثال:
((تلك منائرُ الكرخِ المضيئةُ
طعمُ دجلةَ في فمي
ـ ههْ ..أين؟
تلك كنائسُ المنفى
وذاك النجمُ نجمُ القطبِ
إنّا نعبرُ البلطيقَ
نورستي وداعاً للعراق)) عبور ص82

الإنزياحات اللغوية تجسيد للتجلّي الأدبي:
مع ما أنَّ الشاعر يشتغل في أغلب الحالات على النص الشعري، بمستوييه (الصوتي والدلالي)4 جاعلاً من الإيقاع مقياساً للشعر، غير أنه لا يني يفرد في بعض المواقع، مساحة لقصائد غير معنية بالإيقاع، هذا إذا لم ننس أنَّ العقابي كتب شعراً من صنف قصيدة النثر التي تُسمّى منهجياً بالقصيدة الدلالية المعتمدة على تقنيات تعارض البنى التقليدية بطريقة أو بأخرى5.
مهما يكن فإنَّ ما نعرفه عن الشاعر، مواظبته الدائمة على خرق اللغة بما نسمّيه الضربة الشعرية6 وتحييد النمط، سعياً منه لإيجاد لغة شعرية متكاملة الملامح رؤية وتجسيداً.. وإذا ما عدنا إلى دراسة هذه الفئة، علينا في الأول الحديث عن السمات الشعرية الممثّلة بالإنزياحات اللغوية، لإثبات أنَّ الشاعر لم يترك سمة إلاّ واستقى منها قيمتها الدلالية، على اعتبار أنَّ كلّ شكل أدبي لا يعدو دلالياً، إذا لم يجسّد انزياحه الصوتي واللغوي والجمالي.



هوامش
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مثل: (خطأ صحيح، طفولة، نموذج، مكابرة، مشهد أخير، قصيدة مضادّة، الفادن) مسافة الغناء ص96
(2) المصطلح مقتبس من كتاب بنية اللغة الشعرية لـ (جان كوهن)
(3) أنظر القصائد: (غناء، الناي، الغجري، عودة، سيرة، مقبرة، بصيرة، المنبت، جحيم، بخفّيْ حنين، إلى وحدي، المعنى، أغنية الختام، رحيل).
(4) يسمّي (جان كوهن) هذا الصنف بالشعر الكامل.
(5) أنظر إلى المجموعات الشعرية (واقف بين يدي، تضاريس الداخل، حديقة جورج).
(6) مثل: ((انفرطت إذن معارفكَ
مثل حبّاتِ الرمّان على سطح الزئبق)) مسافة الغناء ص96
((فلم يعدِ الزغبُ زغباً
غير أنَّ للقرادِ الذي في دمي
رائحة تثيرُ شهوةً القرش)) نفس النص ص97








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-