الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرؤية

خليد البرنوصي

2020 / 4 / 17
الادب والفن


لم تكن تلك أول مرة أراه فيها، لكنها كانت المرة الاولى التي اعترتني رغبة عارمة لأنظر فيه. دون معرفة، إن حدث الأمر صدفة، أم هو فقط نزق الطفولة.
الى حدود الساعة مازلت أطرح ذات السؤال على نفسي: لماذا ترصدتها كل ذلك الوقت كي أراه؟ لماذا؟ وكيف تشكلت الفكرة في رأسي وملكتني كل الوقت وبحدة حتى تحقق الأمر؟
إنه ليس من السهولة استعادة ذلك اليوم المتعب والممتع مع تفاصيله الدقيقة تلك، والتي لم تدم سوى دقائق معدودة.

إنها لحظة فاصلة في التاريخ الشخصي لعبوري من مرحلة الى أخرى، فبقدر ما رويت وأعدْت سرد الوقائع لأقراني، بقدر ما كنت أحس أني أكبر مع كل حرف يخرج من فمي، وكم كان ذلك رائعا ! رائع حقا أن أكبر في عيون أقراني، وأنا أنتشي بما رأيت.
صحيح أنني استعيد اللحظة الان بهدوء وبرزانة متأنقة، لكن ذاكرتي تحفظ الى اليوم كل ذلك الخفقان، وكل المشاعر والهواجس التي جعلتني انتقل بفجائية من عمر إلى آخر، ومن رؤية الى أخرى، ومن مشاهد عابرة الى خيالات مشتعلة.

لماذا حدث كل ذلك يا ترى؟ سأكذب ان قلت لهذا الامر أو لذاك، إنها من الأشياء التي تحدث فجائية وبدون مقدمات، والأكثر أهمية أن ما حدث كان في غاية الفرح، وفي غاية التعب ايضا.
كأي طفل، كانت مشاهدتي له من قبل، عادية جدا، ولم تطرح لدي أي أسئلة مقلقة، فقد كان لي ما يغنيني عن سؤال ما ليس بيّنا وواضحا، وربما بدا لي كأي خط يرتسم هنا وهناك ولا يستحق مني اهتماما، لكن صباح ذاك اليوم ومع الإفاقة الأولى، وأنا بين الحلم واليقظة، اعترتني تلك الرغبة الجامحة، وغزى مخيلتي إلحاح شديد لكي أراه وأمعن النظر فيه.
ربما حضرت آنذاك أيضا فكرة أن ألمسه وأمسكه بيدي، أو أفعل به شيئا آخر، لكنها توارت سريعا بتلك السرعة نفسها التي تمكنت فيها أن ألقي نظرة عليه وأكتشفه أخيرا.
لا أذكر أني تناولت فطوري، لكن أذكر فقط، أني ما أن وطأت قدماي حقل الصبار خلف منزلها، حتى تسمرْت خلف جذع نبتة صبار كبيرة، وبدأت أراقب.

****

كنّا في سيارة قديمة تكاد تتفكك عند كل حفرة طريق، جالسين مكدسين؛ بجانبي في المقعد الخلفي موحند، لم يكف عن الحديث مُذ ركبنا، يفيض حيوية ونشاطا رغم تجاوزه السبعين بكثير. معنا أيضا علال وهو في نفس عمر موحند أو يزيد، وهناك إبنه البكر، وشبان آخرين.
السيارة متعبة، غبار كثيف يخنقنا بالرغم من أننا قصدنا السوق الاسبوعي فجرا. موحند كان كثيرا ما يلعن هذه الطريق المتربة ويتهكم على صاحب السيارة، وكان بحسه الفكاهي وسخريته اللاذعة ينسينا التعب والسيارة والأتربة.

ـ أتعلمون كم تعبنا من أجل شق هذه الطريق، وكم كان التعب أكبر في جمع المال لأجلها؟ قال موحند.
في سرعة ردٍّ، تدخل أحد الشباب ضاحكا:
ـ صحيح عيزي موحند، لولا المال لما فتحت هذه الطريق.
وأضاف:
ـ أصلا المال يشق الطريق حتى في البحر.
وضحكنا جميعا، فكلنا نتذكر ما قاله موحند لإبنه، فغير ما مرة حكى لنا ذلك.

كان ابنه الوحيد قد اختفى بغتة دون ان يدري أحد، فحدث ان هاتفه بعد أيام كثيرة من إسبانيا وراء البحر، فسأله أبوه لما لم يخبره، وكيف حدث ووصل الى هناك من غير جواز سفر؟
فأجابه ابنه بغرور:
ـ يا أبي، المال يفتح الطريق حتى في البحر.
ولم يكن أمام موحند وقد اغضبه هذا التصرف، ومقامرة ابنه بحياته في الهجرة السرية أن رد عليه بهدوء متصنع:
ـ نعم يا بني، نعم، المال قبل ذلك فتح لي الطريق في فرج أمك لتخرج أنت.. ولتتعبني بعدها في هذه الدنيا.
السيارة تهتز الآن أكثر. صارت وهي تعبر طرقا غير مستوية عبر المرتفعات، كجرار فقد إحدى عجلاته. وازدادت اهتزازاتها مع توالي قهقهات الشباب، حين رد موحند على الشاب بالطريقة التي توقعناها:
ـ نعم انه يفتح الطريق في البحر كما فتَحَهُ بين فخذي أمك، والآن سأخبرك بما لم تكن تعلمه، هو أنا من ساعد أباك على جمع مال مهر امك، ويلزمك الآن ان فتحت فمك، أن تشكرني فقط.

تعالت الأصوات واشتدت المحادثات. علال وحده من كان يغط في نوم عميق، وظل رأسه يتمايل مع ميلان السيارة.
فنبه موحند إبن علال:
ـ أبوك نائم، أيقضه قبل أن يطلق ضرطة ويفسد علينا برائحته ما تبقى هنا من هواء، المسكين شاخ قبلي.
لحظته تدخل شاب:
ــ لا ، لا ، عيزي علال لن يقوم بهذا.
ــ سيفعلها قلت لك.
ــ لا لن يفعل. تدخل الإبن مؤكدا.
ـ آه صحيح، لقد نسيت أنه لم ينم الليلة، كل ضراطه أخرجه وهو يضاجع زوجته الجديدة، أذكر الآن انكم زوجتموه فقط منذ أيام.

لم يدع موحند هذه المرة مجالا لرد أو لقهقة، بل استرسل في كلامه وهو يوجهه الى إبن علال.
ـ سيموت وهو عار بين رجليها، وأنتم من سيتحملون المسؤولية في النهاية. إنكم تعلمون كم يشتهيه، فلماذا زوجتموه امرأة في عمر ابنته؟ كان عليكم ان تختاروا له زوجة عجوزا حتى لا يغرق. انا.. زوجتي مثلا، شيؤها جاف، فلا أنا أغرق فيه ولا هو يغريني ويغرقني، وعندما أشتهيه، نقوم بذلك في هدوء وروية، وقطعا في غير أيام السوق.
ـ ألا تفعلها بعيدا متواريا مع ...؟
ـ مع من؟ أتمم، مع من؟ أتقصد ...؟ لا، لا، أنا لست من ذلك النوع الذي تتحدث عنه، لم افعلها ولن افعل. إنما ذلك الشيء لا تتمتع به إلا اذا كنت تحب صاحبته، أما ان تدفع المال، فهو كما لو انك تدفع لتشق طريقا مغبرة ورديئة مثل هذه لتختنق.
ـ وماذا لو احببت من جديد؟
ـ أترونني لا أحب؟ أيبدو لكم وكأنني ... بل إني أحب، وأحب زوجتي، أم تود أن تجرب؟ لا تحاول، حتى زوجتي لا تتحمله.
وضحكنا ملأ أشداقنا. كانت الطريق ملتوية، والسيارة ترتج مع سير عجلاتها على حفر كثيرة، لا تستطع ان تتحايل على واحدة وتتفاداها دون أن تسقط في الأخرى.
لم يكن قد بقي كثيرا لنصل السوق، عندما سأل شاب موحند:
ـ عيزي موحند، تراك شخت وعجزت، ماذا لو وجدت فتاة صغيرة؟
ـ إلى أن أجدها، ابتعد عن طريقي.
ـ لن تراني بعد الأن، لكن إحكي لنا كيف وجدته أول مرة.
ـ المرة الاولى تقصد؟ أمممم، لا، لا، هذه لا تحكى.. وليس هذا مكانه.
وبصوت خافت مال برأسه إلي وهمس:
ـ سأرويها لك في السوق.

****

بين أوراق الصبار والأعشاب، كنت أطل بحذر طفولي منتظرا خروجها. والديها كانا في حقل مجاور من الجهة الاخرى يحصدان الزرع، هي بلا شك ستخرج الى هذا المكان، لقد أعفيت من الأشغال وسمح لها بالنوم الى هذا الوقت، فحفل زفافها اقترب، ولا بد ما أن تستيقظ حتى تهرع هي بدورها كما نفعل الى هذا المخبأ الظليل المعد لقضاء حاجة أهل البيت.
كنت أنتظر وأراقب وأنا مليئ بالإثارة والرغبة. وبين الحين والآخر أجرب النظر من فتحات رفيعة، حاولت ان أوسعها بقدر ما لا يراني أحد أسفل سيقان الصبار. فمن هناك يمكن رؤية المشهد المشتهى، وكان الوقت يمر دون أن أميز، إن كان بطيئا او سريعا، لكن ساقاي هدهما التعب، أصابع قدماي متنملة، وما عدت أحس بهما.

لا أذكر متى لمحتها وهي تعبر من زاوية المنزل. لكني أذكر التخوف الذي اعتراني من أن تتوغل كثيرا إلى الداخل فلا أراها. فيكون كل الجهد والتعب ذهب سدى، لكنها اقتربت الى حيث حزرت ان تفعلها.
ـ وااااو ! يا للهفة !! انها هناك ! في ذلك المكان بالضبط.

****


في السوق، الصباح لا زال مبكرا، ثمة فلاحين فقراء يصلون تباعا على دوابهم حاملين ما فضل من زراعتهم ليبيعوه. تجار خضر جشعين يستميتون للحصول على محاصيل الفلاحين بأثمنة زهيدة، ويعيدوا بيعها. مررنا بحظيرة الانعام. وحده ثغاء الشياه وأصوات بقية الماعز والأبقار تعلو. لا زال الوقت مبكرا على التجار ليملؤوا السوق صراخا وضجيجا.
توجهنا الى ساحة المطاعم حيث وتدت خيام واسعة متسخة ومهترئة، وفضاءها أثث كيفما اتفق، بكراسي وطاولات متقادمة ومختلفة بعضها عن بعض.
مع مرور الوقت بدأ السوق يكتض بالناس، أغلبهم يزورنه على دوابهم من أرياف بعيدة لم تشق أراضيهم طرق سيارات بعد ولو بحفرها.
كنا قد اقتعدنا أمام طاولة تشرف على " الكوري" وهو المرفق المخصص كموقف للدواب، ففي معظم الاسواق بالريف الان، تقام المطاعم بجانبه في حين لم يكن لها من وجود سابقا، إنه حنين ما أو ولعا بالمشاهد الساخنة التي لا تكف الدواب عن رسمها. فتوسعت المطاعم والمقاهي على حسابه كلما تقلص دوره.

لما أنهى موحند طعامه من صحن البصارة، طلب براد شاي، فانطلق في حديث بدون توقف، سريعا في الانتقال من وقائع حاضره وغضبه، الى يوميات هجرته الى تلمسان وأحلامه. مع كأس الشاي الأولى استرخى على الكرسي وغاص بهدوء في طفولته.
كنت استمع اليه وكأنه يحكي حكاية من حكاياتي، ولم انتبه حتى قال بدوره بدهشة طفل في صحوته الجنسية الأولى:
ـ وااااو! يا للهفة!!!
انه رآه أيضا أخيرا وبنفس الطريقة تقريبا، ثم وصل وقت تفاصيل قصة علاقته الجنسية الاولى مع فتاة أخفته عن عناصر من الجيش الفرنسي كانت تلاحقه، مارست الحب معه في زريبة الدواب وسط منزلها.

****

بحذر نَقَلَتْ خُطاها بين قطع بنية صغيرة، ملتفتة يسارا ويمينا كما لو أنها تبحث عن شيء ما، تسمرت في مكاني، وقلبي يكاد ينط من صدري. أَقْعَيْتُ، ودفنت وجهي أَسْفل الصبار، بعين واحدة أَرْصُدُ مكانا واحدا.. وكان ذلك العالمَ كلهُ.
رَفَعَتْ يديها إلى الأعلى وسحبتهما الى الوراء، دافعة صدرها الى الامام، ثم ارختهما وبدت هادئة مسترخية، وقد زال منها حذرها، وحامت حول نفسها مجددا بثقة وهدوء.
انتابني شعور بالفشل والحسرة، حين فكرت في احتمال ان تنحني الى الجهة التي لا تناسب رؤيتي. رَفَعْتُ وجهي قليلا، ونظرت الى امكانية أن أغير مكاني الى فتحة اخرى لو حدث ذلك.
أعدت عيني الى الفتحة، وبدا لي عالم آخر، ذهول مطلق تملكني.

ليس من السهولة إعادة صياغة المشهد، ويبدو من المستحيل القبض على الدهشة الاولى، منتصبة القامة، فارهة، ترفع بيدها اليسرى فستانها المزركش بورود صفراء وحمراء، ساقين فارعين وفخذين بيضاوين مليئين، كم بدت طويلة وشامخة!
كانت يدها اليمنى على شيئها، وعندما رفعتها الى الاعلى قليلا، بقيتُ مشدوها ومصدوما، شَعْر؟ هل حقا ما اراه شَعْراً ؟ مرّرت يدها، فانهمرت على رأسي صورا مختلفة، راس طفل صغير، قنفذ، جنية، قلبي يتسارع، وانفاسي تتكاثف، أهذا ما يوجد هناك؟
لحظة ماقعدتْ، وفرجت ركبتيها، كان عالما آخر، زهرة وردية، شقائق نعمان متفتحة، ما يشبه شفتين حمراوين رطبين، وهي تبول بدا لي شيئها كنبع ماء وردي اللون.
تيقنت آنذاك، أن عضو المرأة وردي وبهي، وحوله شعر بني، وكان ذلك أهم اكتشاف سيرفعني بين أقراني.

لا أعرف لما جاءتني صور من بعيد...
كان هناك ما يشبه اجتماع عائلي أمام باب بيتنا، نساء ورجال كثر متحلقين، والكل يتابع عمي في حديث ما، وكنت بجانب أمي أمسك في فستانها أبحلق في الوجوه من أسفل.
أثار انتباهي ديك يركض خلف دجاجة وهي تصرخ وتقيق. فجأة قفز فوقها وأمسك بمنقاره أرنبة رأسها، ازداد صراخها، وبعدها صمتت، سقط صدرها على الأرض، فارتفعت مؤخرتها الى أعلى، بدت حمراء ناصعة.
صرخت بقوة:
ـ أمي.. أمي.. قتلها، لقد قتلها.
وأشرت اليها بأصبعي، الكل نظر اليها. لم افهم كيف عادوا الى حديثهم كما لو أن لا شيء حدث. ولم افهم لم كانت صفعة امي قوية ومؤلمة جدا، بعد ذهاب الجميع.

الأن وأنا انظر الى هذا الاحمرار البهي من فتحة الصبار، عرفت لماذا تلقيت تلك الصفعة من أمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟