الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية رجل صار رماداً - قصة

أحمد اسماعيل اسماعيل

2006 / 6 / 13
الادب والفن


هاأنا أقرص نفسي. ما إن عدت إلى الدار حتى رحت أعاقب نفسي بالقرص، والقرص عادة غير مستحبة لدي، أكرهها منذ نعومة أظفاري ولكن ماذا أفعل..؟ فالمشهد الذي رأيته لتوي كان فظيعاً ومهولاً، وأنا، وللتأكد من أنني لست في حلم أو كابوس، رحت أعاقب نفسي بالقرص، وأقسم بأن أي واحد منكم لو شاهد ما شاهدت لفعل ما فعلت، وربما عض نفسه، لاشك بأنكم تودون معرفة الحكاية، لا بأس، فأنا أيضاً أود روايتها لكم، وإذا لم أروها لكم أنتم.. فلمن سأرويها؟؟
شاهدته بأم عيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود، رأيت ابن الصوفي قبل لحظات يتداعى أمام بصري جزءاً جزءاً، يتفتت. ويتحول إلى شيء ناعم أشبه بالرماد، افترسني الفزع وأنا أحملق فيه وأتساءل (يا الله.. هو لم يقرب النار. ولا أثر لها هنا. فكيف يحترق الرجل.. ثم لماذا لا يلتفتون ناحيته..ألا يرونه؟؟!) عندما سمعنا عباس الأعرج يصيح مستغيثاً (يا ناس. يا أهل النخوة، البيت يحترق، الحقونا). كنا ساعتها في بيت الصوفي، متحلقين كعادتنا ككل ليلة حول ابنه المهندس، العائد منذ أشهر بعد أن أنهى دراسته في المدينة الكبيرة، فاغرين أفواهنا. نصيخ السمع إلى حديثه اليومي عن الإمبريالية- والانتهازية. والقيم الحضارية.. وكلمات كثيرة يسمعها زقاقنا للمرة الأولى، جاء بها ابن الصوفي من الكتب والمدينة التي درس فيها. ونحن، وإذ كنا لا نفقه أغلب ما كان يقوله، فإن واحدنا كان يتمتم وهو يودعه آخر كل سهرة (الله يخليه.. مسقف.. ثورجي.. سيفيد أهل الزقاق. سنباهي به الدنيا).
ما إن سمعنا صوت عباس الأعرج يتردد في الزقاق مستغيثاً، حتى انطلقنا جميعاً خارج منزله، وفي الزقاق، لم تبتلعنا العتمة ككل مساء، الوحل فقط، وألسنة النيران التي شقت رداء زقاقنا الأسود وهي تتلوى، سمرت أقدامنا للحظات، ثم اندفعنا بعدها نحو البيت المحترق، أحطنا به. كانت النيران تفح بغضب وهي تمضغ قش السقف بشراهة، وتلتهم أشياء البيت البسيطة، تلوكها وتلفظها فحماً ورماداً. هجمنا عليها، حاربناها بضراوة، وهبت الريح بقوة لحظتئذ، ولم يخطر ببال ابنة الكلب أن تهب بمثل تلك القوة، إلا في هذه اللحظة.. وربما هبت لنجدتنا؟ أو لثأر لها مع النار؟؟ فجنت هذه وثارت، وفحت، ومدت ألسنتها هنا وهناك. وبالكاد، وبعد أن أتت على أغلب البيت، هدأت قليلاً، وانكمشت، وأخمد الرجال آخر لهب متمرد منها.
بكت امرأة بحرقة، وعلا نشيج رجل، فهدأ الجميع. وكانت الجلبة والتمتمات والأنفاس اللاهثة قد استحالت إلى ما يشبه الصخب والضجة. والتففنا حول عباس وزوجه، وقد عرفنا بأنهما مصدر الصوت. وكان أطفالهما قد التصقوا بهما، يرتجفون ويبكون، ربت البعض منا على كتف عباس، وواساه البعض الآخر بكلمات الإيمان، حينئذ بحثت عيناي عن الأستاذ؛ ابن الصوفي. قلت لابد أن يتقدم الآن ويواسيهما هو أيضاً، وسيجد حلاً لمصيبة العائلة المنكوبة، ويقنع الجميع به، فهو يعرف كيف يحكي وهم يحترمونه ولن يرفضوا له طلباً، الآن وقته. لابد أن يشق الجمع ويتقدم..
طال انتظاري ولم يقع بصري عليه، ولم أسمع له صوتاً، دهشت تماماً. ولم أسأل أحداً عنه، فلا شك أن الآخرين أيضاً انتظروا خروجه مثلي وبحثوا عنه في هذه اللحظة. ولابد أن الدهش قد نالهم مثلما نالني أنا.
في طريق العودة إلى الدور، وبعد أن انفض الجمع عن المكان، وكان الصبح قد بدأ يتنفس ويصبغ رؤوس البيوت الطينية بلونه الوردي، لمحته واقفاً أمام باب داره كصنم. بدا لعيني عن بعد كشبح. وعلى الرغم من أن بعض عربات الدفع المشدودة إلى الأبواب قد حجبت بعضه فقد عرفته، وأنا خير من يعرفه، وخير من يحفظ حركاته وسكناته دون أهل الزقاق جميعاً.
واقتربنا نحوه فلم يتحرك، ظل في مكانه على وقفته تلك. وسار الجميع وكأني بهم لا يرونه، وكان أحدهم إذا التقاه عن بعد يهرع إليه، يشد على يده بحرارة، يرفع الصوت له بالسلام.. ينثر في إثره طاقات من الدعوات، وصاروا على بعد خطوتين منه أو كادوا، ولم يأت بحركة، ولم يحد أحد من أهل الزقاق عن خط سيره. تباطأت أنا، وعندما وجدت بأنه قد أصبح على مرمى خطوة منا وأن الأقدام ستطأه لا محالة، سمرت قدمي بالأرض وصرخت فيهم منبهاً (يا جماعة، انتبهوا، ستطؤون ابن الصوفي. هاهو أمامكم). فلم يلتفت أحد ناحيتي، ولم تجد صرختي أذناً صاغية.. وربما لم أصرخ بالأساس، فلقد أحسست وقتها بلساني قد تخشب في فمي وأنا أجد الرجل يحترق، يتداعى أمامي، ينهار كبيت عباس الأعرج قطعة قطعة، يتفتت ويتحول إلى شيء ناعم أشبه بالرماد. تجمدت نظراتي على المنظر، وصارت روحي مرعى لقطعان الفزع والعجب.
أحسست بأن قدميّ قد تسمرتا فعلاً بالأرض، ولم تعودا تقويان على حملي.
تلفتُّ حوالي أجيل البصر في الوجوه، فلم ألحظ تعبيراً ذا معنى يرتسم عليها، كان الجميع يسيرون عاديين ومنهكين، وثيابهم ووجوههم قد تعفرت بالوحل والسخام، وكان البعض منهم يثرثر عن النار، والريح التي هبت فجأة، ومصير عائلة عباس الأعرج.
دعكت عيني بقوة، دققت قدمي بالأرض لأتأكد من حقيقة ما أرى، فانغرز الألم كمسمار صدئ في باطن قدمي وامتد سريعاً إلى أعلى، وعلا بعض غبار، وتسللت إلى أنفي رائحة غريبة.
نظرت إلى حيث يقف ابن الصوفي فلم أجده. جلت ببصري فيما حولي فلم يقع بصري على أحد، ذعرت.. وظننت بأنني في حلم، أو أني قد خرجت لتوي من الفراش، ولازلت نائماً أهيم على وجهي على عادة من يسير وهو نائم. تحسست جسدي فوجدته ملطخاً بالوحل والسخام، فاعترتني قشعريرة الخوف، ورحت أتلفت يميناً وشمالاً، ووجدت، وأنا أتلفت كالتائه وحدي في الزقاق، أعمدة رفيعة من الدخان تتصاعد من بيت محترق، وعربات دفع مشدودة بالسلاسل إلى أبواب خشبية واطئة، وبرك مياه منتشرة على طول الزقاق.. وكومة رماد مبعثر أمامي، وآثار أحذية موحلة عليها.. فسرت كالمأخوذ، وشعرت أول ما سرت، وأنا أطأ الرماد إياه، بأن شيئاً ما تحت قدميّ يئن وهو ينسحق، ويتفتت، ويذرى في الهواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عوام في بحر الكلام -الأغاني المظلومة في مسيرة الشاعر إسماعيل


.. عوام في بحر الكلام - قصة حياة الشاعر الكبير إسماعيل الحبروك




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: الأسطورة الخالدة الأغ


.. عوام في بحر الكلام - ما قاله الكاتب الصحفي منير مطاوع عن الش




.. عوام في بحر الكلام - المناصب التي وصل لها الشاعر إسماعيل الح