الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السجدة (5)

بولات جان

2020 / 4 / 18
الادب والفن


اليوم

كانت السيارة تتهادى على الطريق وكإنها سفينة صغيرة تشق عباب بحرٍ هائجٍ، تعلو وتهبط على الطريق الوعرة وتنزلق على الوحل والبرك الضحلة لماء المطر... كنا في السيارة، لكن عقلي كان بعيداً، بعيداً جداً.
"الحياة كُتب يا جاويش، كُتب كثيرة"... ويمسد بيديه النحيلتين على رأسي ومن ثم يلف سيجارة تبغ تبدو تماماً كـ شواشي الذرة صفراء وناعمة، وينفث دخانها في الهواء "الحياة كُتب يا جاويش..." ويعود إلى لعبة الداما مع صحبه من كهول القرية المجتمعين طوال أيام الصيف تحت شجرة التوت العظيمة. شجرة جد جدي، لا يعرف أحد عمرها بالتحديد، ولكنها كانت أقدم من كل كهول وعجائز القرية. يُخرج من جيب صدريته الداكنة قطعة (سكر فولاذية) بيضاء، كنتُ دائماً أخطأُ بينها وبين (الشبة الصخرية)، ويناولني أياها بكل كرم "خذ يا جاويش إنها من دياربكر، كلها يا بُنّيِ...". بعد سنوات طويلة، لا أدري من أين جاءت تلك الذكرى التي تعود إلى الطفولة المنسية، ومقولته الدائمة "الحياة كُتب".
في الصباح الباكر من هذا اليوم دبتّ الحركة في المهاجع، وكانت المجموعات الثلاث تنتظر دورها للتوجه صوب الحدود، وكانت كل مجموعة تبتهل كي تستحوذ على شرف المجموعة الاولى التي ستنطلق... أقترب إبراهيم وهو يلاقي صعوبة في التنفس وحبات العرق تنضح من مقدمة رأسه الصلعاء وقال: "أنا سيءُ الحظ، ولا أعتقد بأن نكون المجموعة الأولى...". إبراهيم كان من ضمن مجموعتنا، بالاضافة إلى كاجين وجيندا. كل الوقائع فيما بعد ستثبت صحة كلام إبراهيم كونه "سيء الحظ"، بل يمكن القول بإنه "سيء الحظ جداً".
ذهبتْ المجموعة الأولى إلى تلقي التوجيهات -الخاصة جداً- في غرفة القيادة وبعدها نودي على الجميع كي يحضروا مراسم توديعهم. ولم تمضِ ساعة حتى كان دورنا في التوجه صوب غرفة القيادة وتلقي التوجيهات الضرورية. كان لنا طلب أخير "لا نريد أن نودع أو يودعنا أحد...". فقط لنخرج من هنا ونتوجه إلى الحدود. لا أتذكر من قالها؛ ولكني أتذكر المقولة: "الثوار لا يودعون بعضهم".
كانت السيارة تشق طريقها الترابي الوعر، والسائق لا يكف عن الكلام وينفث دخان سيجارته ويستمع إلى تلك الأغاني الهابطة لمطربين مغمورين يقلدون الاغاني التركية السوقية ويكتفون فقط بترجمة كلماتها إلى الكردية. كان إبراهيم ذو الحظ السيء، جالساً إلى جوار السائق وبالتالي كان مجبراً لمجاراته والاستماع إلى لغوه وثرثرته، بينما كان يكتفي بهز رأسه دون اكتراث.
"من فضلك، هل يمكنك التقليل من التدخين، قتلتنا بدخانك كاكا." وبدلاً من أطفاء السيجارة عمد إلى إنزال زجاج النافذة فهبت موجة هواء باردة مصحوبة برذاذ المطر إلى داخل السيارة، وتسببت لنا بالسعال والكحة نتيجة البرد ورائحة الدخان. "كاكا، أطفأ تلك السيجارة، وأغلق النافذة، وغيّر هذه الأغنية... أليست لديك أغاني أصيلة؟". " هل تحبون تحسين طه؟ تحسين طه حياة والله."، "ليكن تحسين طه, فليس هنالك أجمل من صوته."
قبل الغروب وصلنا إلى مكان الموعد المحدد للقاء بالدليل الذي سيعبر بنا الحدود. جاء الدليل وطلب منا أن نترجل بسرعة ونبتعد عن الطريق. هرولنا مبتعدين عن الطريق ونحنُ نحمل حقائبنا الثقيلة وكل العتاد الذي معنا، وتنحينا جانباً وتوارينا خلف تلّة صغيرة وتوقفنا لكي يخبرنا الدليل الكهل بتفاصيل الرحلة والامور التي يجب أن ننتبه لها. "حظكم سيء اليوم، فاض النهر وغمرت مياه الفيضان مئات الأمتار على أطراف النهر..." حينما نطق الدليل الكهل القصير بتلك الجملة حتى أشار إبراهيم ذو الحظ السيء إلى نفسه قائلاً "هذا حظي أنا... حظي السيء". لم يفهم الدليل مقصد إبراهيم ذو الحظ السيء ولم تعجبه تلك الجملة التي اعترضت كلامه فتابع قائلاً "كان من الأفضل أن لا تأتوا اليوم، لا أعرف لماذا أتيتم؟! فالنهر قد فاض والسيول خطيرة ولا يمكن الغوص في ذلك الوحل والطين ولو لعدة خطوات...". "أليس هنالك طريق آخر؟" كنتُ أعرف بإن هؤلاء (الأدلاء) لديهم الكثير من الطرق الاحتياط ويحبون دائماً أن يتظاهروا بسوء الطريق وبإن عملهم مهم وبإنهم سيخاطرون لأجل "خاطرنا". قال "هنالك طريق آخر، لكنه بعيد جداً والمسافة طويلة، وعلينا قطع أكثر من ثمانية ساعات بسرعة، ثم إن حملكم ثقيل والأرض طينية جداً وسوف تمطر وووو". مجرد الإخفاق بالعبور في هذه الليلة كان فأل شر بالنسبة إلينا. كان إبراهيم ذو الحظ السيء مطرق الرأس يفكر وهو يحفر بعودٍ رفيع التراب أمامه. "ما رأيكم، هل توافقون بأن نسلك الطريق الطويل؟" فقال إبراهيم "وهل لدينا خيار آخر؟ علينا أن نعبر الحدود هذه الليلة". وكان رأي شاهان أيضاً من نفس رأي إبراهيم ذو الحظ السيء. "علينا أن نعبر الليلة... لذا خذنا في اي طريق تراه مناسباً". " كما تشاؤون، أنتم تتحملون المسؤولية... لا استراحة في الطريق، ويجب أن نصل إلى القرية قبل الفجر... لنذهب"
كنا نسير خلف الدليل الكهل القصير والسريع، الذي كان يتدحرج بسرعة أمامنا ونحن لا نفك نظرنا عنه، نتبعه كما ظله، لا نصدر صوتاً، لا نتكلم إلا همساً وفقط للضرورة القصوى، نمتثل لكل إشاراته وأوامره "توقفوا، أنحنوا، أسرعوا...". كنا نسير وكان الحمل يزداد ثقلاً والطين كان يزداد التصاقاً بأحذيتنا، وكانت قطرات الندى تبلل جواربنا وملابسنا وتتسرب إلى داخل أحذيتنا. كلما مرّت الدقائق والساعات كان حملنا يزداد ثقلاً ونستشعر العطش والجوع، والعرق يتسبب من ظهورنا من تحت الحقيبة الخاكية الثقيلة. فبالإضافة إلى حقيبتي، كانت هنالك حقيبة أخرى أحملها، حقيبة مليئة بذخيرة الرشاش، 500 رصاصة مع زنجيرها بالتمام والكمال. وإلى جانب بندقيتي الروسية وأربعة مخازن في الجعبة التي حول خاصرتي، كانت هنالك 150 رصاصة بندقية احتياط في الحقيبة، كذلك كنتُ أحمل رشاشاً ثقيلاً من نوع (PKM) على كتفي وهي تأكل من لحم الترقوة وتحز فيها كما السكين. ولكي يزداد في اللحن وتراً، بدأت الغيوم بفتح أبواب السماوات علينا، لم يكن مطراً، بل كان شلالاً مدراراً يفرغ علينا الماء بالدلو دون توقف. أرض طينية موحلة ورخوة تنغرس فيها أقدامنا المتعبة، وحقول محروثة تبطئ من الحركة وترهق المرء، وفوق كل ذلك المطر الذي لا يتوقف لحظة واحدة... ناهيك عن الحمل الثقيل والرشاش الذي يحز في الكتف والمعدة الخاوية والظمأ... والمسيرة تطول فتطول.
كنا نتحاشى المرور من القرى، فنبتعد عنها، ونتحاشى الطرق ونبتعد عنها، ونتحاشى المخافر ونقاط التفتيش ونبتعد عنها فيطول طريقنا ويطول ونحنُ نسير خلف الدليل الكهل وهو يتدحرج أمامنا ونحنُ نبتعه كظله تماماً. لم أكن قانطاً، ولا منزعجاً من طول الطريق والوحل والجوع وهذا الحمل الثقيل ولا من المطر... فمن الذي ينزعج مما تجود علينا به السماء من مطر؟ روح الملائكة ورسالة السماوات إلى الأرض. كل شيء يهون وكل الصعاب تسهل طالما كنا نتوجه إلى أرضنا، إلى بلدنا، مدننا وقرانا وثورتنا المندلعة للتو... لا شكوى.

كان ذلك قبل 14 عاماً بالتمام والكمال. نعم 14 عاماً، حينها كنا أكثر من ثلاثين شاباً، كنا نعبر نفس هذا الحدود، لكن لا أتذكر من أين بالضبط، ما أعرفه كان هو نفس الحدود الذي يقسّم وطننا بين الدول. حينها أيضاً ولسخرية الأقدار كان المطر يهطل، وكنا نسير بسرعة، ولم نكن نحمل الكثير، سوى آمالنا وفضولنا في اكتشاف المجهول وتوقنا لخوض الحرب وتحرير كردستان وإزالة الحدود. كنا مجموعة من كل المدن والمناطق. حينما عبرنا ساتر الحدود، أقترب مني بنكين ولات وهو يهمس في اذني "لقد عبرنا الحدود... هل تظن بإننا قد نعود يوماً؟" حاولتُ أن أكتشف شاهداً أو إشارة تشهد على تلك اللحظة، فقد كنا قد عبرنا الحدود ودخلنا إلى أرض الوطن، كانت لحظة خاصة في حياتنا، كانت شاعرية. تطلعتُ إلى السماء لعل وعس أرى القمر، لم يكن هنالك قمر، ماعدا بعض النجوم الخجولة كانت ظاهرة في الأفق الشرقي من خلف الغيوم الماطرة. قلتُ لبنكين ولات "لا أعرف. لا أعتقد بأننا قد نعود، على الأقل أنا لن أعود. لا نعرف كم سنعيش". أبتسم بنكين ولات وقال "أنا يكفيني ستة أشهر وبعدها لا يهم".
تذكرتُ بنكين ولات وباز و دوغان وحمزة وبلنك واسكندر وروني وغيفارا... حينها، عبرنا الحدود ومن ثم لحق بنا الكثيرون وسبقنا آخرون غيرهم، ربما كانوا ألف شخص في عدة أشهر من الذين عبروا الحدود مثلنا تماماً. ماذا حصل لهؤلاء الألف شخص؟ منهم من عاد بعد عدة أشهر نادماً، ومنهم من انتظر لسنوات حتى يعود نادماً، والكثيرين منهم انتشروا في جبال الله ووديانه، يكدون ويحاربون ويصعدون الجبال الشامخة... انتشروا كما النجوم، كل سنة فقدنا بعضهم، رحلوا خلف الغيوم على التوالي... كلما مرّت السنون كبرنا وفقدنا الكثير من رفاقنا وأسناننا وشعرنا، وغابت براءة الطفولة وسذاجتها من وجوهنا... اليوم، وبعد 14 عاماً من تلك الشهور العصيبة كم بقي من أؤلئك الألف قلبٍ نابض؟ كما لو أننا عبرنا من دولاب الفلك (جرخا فلكى)، أرتقى الكثير وسقط الكثير، ولم يبقى منهم سوى خمسين قلباً لا زال ينبض ويتكتف البندقية ويقطع جبال الله من أقصاها إلى أقصاه.
كلما كنا نتوقف في محطة، حتى كان بنكين ولات يطلق العنان للغناء بصوته الجهوري القوي، أغانيه الحماسية ونحنُ نصفق له ونشاركه الغناء بشكلٍ عشوائي، ونتقصد تغيير بعض الكلمات فنضحك ونسخر من أصواتنا النشاذ، ولكن بنكين ولات لم يكن يبالي بنا وكان يستمر في الغناء وكأنه على خشبة مسرح يغني للآلاف من الحضور. الليلة، وبعد 14 عاماً على اجتيازنا لهذه الحدود تذكرتُ بنكين ولات، تذكرتُ تلك النجوم الخجولة من خلف الغيوم، وتلك الكلمات التي كانت تقرع في دماغي "هل ستتحرر كردستان ونعود يوماً ما؟". وجعلتُ من تلك النجوم شاهداً على تساؤلاتي تلك. قبل 14 عاماً كنا ثلاثين شاباً يافعاً مندفعاً نجتاز الحدود ونتوجه إلى "الوطن"، لا نولي على شيء؛ واليوم نحنُ اربعة أشخاص نتوجه عكسياً لنجتاز الحدود ونعود إلى "الوطن".
كان الدليل الكهل القصير قد تباطئ في مسيرته، ويبدو بإن التعب قد أعياه بالرغم من أنه لا يحمل أي شيء سوى بندقيته، بينما كان باقي المجموعة متأخر عنا بمسافة تتسع مراراً. وكانت حفلة المطر والوحل والطين مستمرة، وأضواء القرى البعيدة وأصوات الكلاب وأضواء السيارات المسرعة من بعيد تشير كلها إلى مدى الظلم الذي نعيشه. الظلم الذي يدفعنا للابتعاد عن الطرق، والقرى والمدن والبشر، والالتفاف لكيلومترات عدة حول نقطة تفتيش تافهة على أطراف القرى. لكن شوقنا إلى الوطن، روحنا التوّاقة للوصول إلى الثورة وعمل شيء مفيد للشعب كانت تحركنا وقوة دافعة لنا كي نسير دون توقف صوب الحدود البعيدة.
قبل أن نخرج ظهيرة اليوم، قال لي وهو يداعب شعره وحاجبه وأرنبة أنفه " لا نريدك أن تُعتقل. كن متيقظاً. قد نلتقي قريباً." قبل أن نخرج، أخبرتُ شاهوز وجوان وشيرين وجودي بضرورة الحفاظ على الدفتر، وطلبتُ منهم إرسال النسخة الالكترونية في أول فرصة. في الطريق، وفي غمرة الذكريات التي كانت تغزو عقليّ، لم أتذكر الدفتر إلا بعد أن تذكرتُ قول جديّ وهو يلعب الداما تحت تلك الشجرة العملاقة "الحياة كُتب يا ولدي، الحياة كُتب". كنتُ أظن بإن الحياة عبارة عن كتاب واحد وبصفحات كثيرة؛ لكن وأنا أسير نحو الحدود في تلك الليلة الماطرة تذكرتُ قول جدي وتذكرتُ الدفتر الذي تركتُه خلفي، وأدركتُ صوابية قول جدي "الحياة كُتب". وقلتُ في نفسي "قبل 14 عاماً أغلقتُ كتاب حياتي السابقة وبدأت بكتابٍ جديد، فهل ينتهي هذا الكتاب الليلة وبالتالي عليّ فتحُ كتابٍ جديد؟ كتاب حياة جديد؟". في تلك الأثناء كنتُ قد أصبحتُ بمحاذاة الدليل الكهل والقصير وكان يبدو عليه التعب وهو يتنفس بصعوبة، وكان البقية قد تأخروا عنا، قلتُ له: "كيف هو الحدود؟ هل هنالك ألغام أو أسلاك شائكة أو خنادق؟" لا أعرف لماذا في تلك اللحظة كنتُ أتصور بإن هذا الحدود سيكون مشابهاً لحدود آذربيجان الذي قطعناه ذات مرّة! فقال الدليل "لا ألغام، لا أسلاك شائكة ولا شيء؛ عبارة عن ساتر ترابي ومخافر حدودية متباعدة ليس إلا". "وهل هنالك كمائن أو دوريات؟". "لا أعتقد بإن هنالك مجنون سيخرج بدورية في هذا المطر والبرد... على كل حال يجب أن نكون متيقظين وحذرين منهم". أطمئن قلبي لهذا الحدود الذي ليس فيه ألغام ولا أسلاك شائكة ولا خنادق عكس حدود آذربيجان الذي عبرناه ذات مرة وكدنا نلقى حتفنا.
"أرجو أن تخبرني حينما نعبر الساتر... حينما تطأ أقدامنا على تراب الوطن". فقال الدليل الكهل وهو يسير ببطأ ويمسح ماء المطر والعرق الناضح من جينه الأصلع بطرف من شوطتكه "بالتأكيد... سوف ترى الساتر، هو غير مرتفع ولكنه واضح". "كم بقي من وقت لنصل إلى الحدود؟" "ساعة تقريباً". تمعنتُ في شاشة ساعتي، كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. بعد ساعة سوف نصل إلى تراب الوطن. تمنيتُ لو كان بنكين ولات معنا الآن؛ كنتُ سأقترب منه وأقول له "ها يا بنكين! هل تتذكر قبل 14 عاماً، في تلك الليلة حينما طرحتْ عليّ سؤالاً؟ ها نحنُ نعود يا بنكين".
كنتُ استعجل الخطوات وأسابق الزمن كي نصل بسرعة إلى الحدود ونجتاز الساتر الذي يفصلنا عن الوطن، ومن ثم نسير ساعتين للوصول إلى أحدى القرى التي ينتظرنا فيها دليل آخر وطريق آخر وكتاب آخر. تنتظرنا ثورة، وشعب ثائر، شعب كريم ولكنه مضطهد، لم يبخل بشيء طوال عقود، ساهم في كل ثورات ومعارك أخوته، وانتشر أبنائه وبناته كما النجوم في كل الأصقاع، شعب يتأمل ان يتحرر أخوته خلف الحدود ومن ثم يتفرغوا لتحريره أيضاً. كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، وكنا قد تركنا القرى خلفنا ولم نعد نرى أضواء السيارات ولا نسمع نباح الكلاب. كنا نتجه صوب شعلة نار كبيرة، حمراء ووضاءة تجعل الناظر إليها يشعر بالدفء بالرغم من المسافة التي تفصل بيننا، وكانت تدفعك للتوجه صوبها ولهيبها الأحمر القاني يتراقص تحت المطر والرياح.
انتهت الأرض المحروثة، وكانت هنالك عدة خطوات على أرض بور منبسطة، وثم تلتها مرتفع ترابي يمتد طويلاً، كان ساتراً قد فقد الكثير من الارتفاع وقست أرضه وانبسط سطحه، وتغير لونه صوب الأبيض الباهت، وسريعاً هبطنا وكإن هنالك من يدفعنا دفعاً من وراءنا بسبب الجاذبية وكذلك الحمل الثقل الرابض على ظهورنا. "هل عبرنا الحدود؟". كان الدليل يسعل وهو منحني على سطح الساتر ينتظر الآخرين كي يعبروا، قال وهو يتنفس الصعداء "يمكننا التوقف قليلاً... نعم لقد اجتزنا الحدود". كان الأمر هيناً، أو هكذا بدا لي لحظتها. خطوتُ عدة خطوات، كانت الخطوات الاولى لثورة جديدة وحرب جديدة وحياة جديدة... كانت الخطوات الأولى التي وطأناها على تراب الوطن بعد 14 عاماً. الأرض المقدسة، التراب.
في تلك اللحظة، أدركتُ بما يجب القيام به. أ كنتُ قد خططتُ لذلك أم إنها جاءت وليدة اللحظة؟ لا أتذكر بالضبط. تحت ذلك الحمل الثقيل، تحت شلال المطر الغزير، على أرض موحلة وطينية وقد تشربت حتى الارتواء بماء المطر، ركعتُ على ركبتيّ فغاصتا في الأرض الرخوة، و مددتُ الرشاش الثقيل جانباً، ومن ثم انحنيت حتى لامستْ جبهتي الأرض الباردة. فسجدتُ سجدتي الأولى لتراب الوطن وارضها المقدسة. كانت سجدة طويلة. أدركتُ بإن 14 عاماً قد مرّت بلمح البصر، وكأن كتابٌ قد أنهيتُ قراءة الصفحة الأخيرة منه للتو، بابٍ قد أنفتح للتو لأدخله وأبدء بكتابٍ جديد. السجدة كانت سجدة التراب والأرض، سجدة الشوق والحنين، سجدة العناق والعشق. كانت السجدة للوطن، إنها أرض روجافا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما