الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطوية الفاشلة وكورونا: هل تخسر مصر معركتها؟

نايل شامة

2020 / 4 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


فيما تواجه دول العالم قاطبة معضلات وتحديات التعامل مع جائحة فيروس كورونا، من المهم التذكير أن الدول الأكثر عرضة للتداعيات السلبية لانتشار الفيروس ليست بالضرورة هي الأقرب جغرافياً لموطنه الأول، ولا الأكثر سكاناً، ولا تلك الأفقر اقتصادياً (على أهمية ذلك الشديدة)، بل ربما الأكثر نزوعاً إلى النسخة الفاشلة من الاستبداد. فالسلطوية الفاشلة في التحليل الأخير مثلها مثل شجرة الزقوم، نبعها مسموم وثمارها فاسدة، ويظهر تأثيرها الفاسد أكثر ما يظهر في أوقات الأزمات. سببان رئيسيان يدعوان إلى الاعتقاد في ذلك، وكلاهما ينطبق تمام الانطباق على الحالة المصرية.
السبب الأول هو أنه في هذه الدول يخضع عادة كل ما هو تقني وفني، كالاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة والإعلام والعمارة والفن والرياضة، لمعطيات السياسة ومقتضياتها. ذلك ديدن الأنظمة السلطوية: الولاء أهم من التخصص، وأهل الثقة أقرب من أهل الخبرة، ومصلحة النظام قبل المصلحة العامة. وبالتالي، فلا شئ في أي مجال يقاس بمنطقه الداخلي المستقل، بمناقبه ومثالبه في حد ذاتها، بل يتمنطق كل شئ بمنطق من خارجه، يرتهن له ويُفرض عليه من علٍ ويسيره إلى حيث يشاء. هذا المنطق هو المصلحة السياسية للنظام القابض على السلطة كالقابض على الجمر كي يتمكن وسط الأنواء من الحياة ومن بسط سلطانه وإعادة إنتاج نفسه.
وبما أننا بصدد مناقشة موضوع يتصل بقطاع الصحة في مصر، فلا مناص من العودة لمثال كاشف من عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك رصده بدقة باحث الاقتصاد السياسي الراحل سامر سليمان في كتابه المعنون "النظام القوي والدولة الضعيفة". ففي أوائل التسعينات، تزامنت ثلاث أحداث مهمة في تاريخ مصر هي تدشين برنامج الإصلاح الاقتصادي (في عام 1991م)، والزلزال الكبير الذي ضرب البلاد (1992م)، وتصاعد المواجهة مع جماعات العنف الأصولية (بدءاً من 1992م). اقتضى الحدثان الأولان إيلاء أهمية كبيرة لقطاعي الصحة والتعليم. فانهيار المدارس في الزلزال، ومتطلبات أصحاب الأعمال من المصريين والمستثمرين الأجانب في عهد الإصلاح الاقتصادي الجديد تطلبت بناء فرد مؤهل تعليمياً ولائق جسدياً لدخول سوق العمل والمنافسة. لكن الحدث الثالث، أي الصراع مع الجماعات الإسلامية والرغبة في قطع دابرها، أعاق كل ذلك، وأخضع منطق الاقتصاد والخدمات لحسابات السيطرة السياسية.
ويكشف سليمان كيف أن الخطط الجاهزة لتطوير قطاعات الصحة والتعليم نُحيت جانباً. ذلك أن فلسفة الحكم - "السلطوي" طبعاً - دفعت مبارك إلى تقسيم وزارات الدولة إلى قسمين: قسم يلعب دوراً مباشراً في الدفاع عن النظام وتعزيز شرعيته مادياً وأيديولوجياً، ويضم وزارات الدفاع والداخلية والخارجية والإعلام والأوقاف، وقسم آخر يضم الوزارات والهيئات التي – لحظها العاثر - لا تلعب مثل هذا الدور. وعليه، صار القسم الأول يتقاضى أكبر الأجور ويحصل على أفضل الخدمات، فيما رزح الآخرون تحت وطأة أجور هزيلة وتضخم لا يرحم. للسيطرة السلطوية إذن كلفتها التي يتحملها الوطن والمواطن. وكان من آثار ذلك أن صار المجتمع المصري هو الذي ينفق بشكل غير مباشر على قطاعات التعليم والصحة والخدمات الأخرى من خلال أشكال مختلفة، كالدروس الخصوصية وشراء المرضى لمستلزماتهم الطبية في المشافي العامة وتفشي الرشوة، أو البقشيش، في أروقة وحجرات الجهات الحكومية.
ثم استطالت السنون، واحتل السيسي موقع مبارك، لكن الزمن المغبر توقف في ردهات السلطة. فالصراع مع الإسلاميين (والمعارضة بشكل عام) ظل متأججاً، فاستمر أسلوب إخضاع كل شئ في الإدارة لمنطق السلطة وأمنها وتحالفاتها وشرعيتها. ومن هنا استمر من ناحية تجاهل القطاعات الخدمية، وكأنهم غرباء متطفلون على مائدة الحكومة، ومن ناحية أخرى تواصل الإغداق بسخاء على غيرها من قطاعات تعين النظام في معاركه الوجودية. يفصح ذلك التوجه عن نفسه من خلال أمثلة لا حصر لها: في إنفاق مليارات الدولارات لشراء العتاد العسكري (ضماناً لولاء المؤسسات الأمنية)، وفي تنفيذ حزمة من المشروعات "القومية" (دعماً لشرعية الرئيس)، وفي إخضاع قطاع الإعلام الخاص للسيطرة التامة (حتى لا ينافس أحد الرواية الرسمية). كما يتجلى على مستوى التفاصيل الصغيرة الدالة في التفاوت الكبير بين "بدل العدوى" الزهيد الذي يتقاضاه الأطباء في مقابل ما يتقاضاه غيرهم ممن يدعمون بشكل مباشر أمن وشرعية النظام، وفي تقنين ما يسمى، بلا أي مواربة، "بدل الولاء"، والإسم كافٍ لبيان من يحظون به.
في كل هذه الأمور، وغيرها الكثير، غاب المنطق التقني المتخصص، الذي لا غنى عنه لإدارة عامة تتمتع بالحد الأدنى من الفعالية والكفاءة. وكما تؤكد جيوش من المتخصصين والخبراء، لم تكن مصر بحاجة لكل هذه المشتريات العسكرية في مرحلة السلم، وفيما الاقتصاد يترنح والعملة تُستَنزف، ولا كانت ثمة حاجة لإجراء توسعات في قناة السويس (على الأقل في الوقت الراهن)، ولا إلى بناء عاصمة جديدة تتكلف ما يربو على التريليون جنيه فيما تشتكي القاهرة والمدن والمراكز الأخرى العشوائية والإهمال. وبالطبع، كان من الحكمة توجيه كل هذه الأموال لتدعيم الصحة والتعليم وسائر القطاعات الخدمية التي طفح بها الكيل وبلغ السيل الزبى ووصلت الشدة منتهاها.
وحتى في أوج الأزمة الراهنة، أي التعامل مع مشكلة الانتشار السريع للفيروس، فرض منطق السلطة نفسه على الكثير من تحركات الحكومة المصرية. من أمثلة ذلك قرار إرسال معدات طبية هائلة (تضم مليون كمامة واقية) لإيطاليا فيما تعاني المستشفيات المصرية من نقص هذه المعدات، وذلك تسديداً فيما يبدو لفواتير قديمة متعلقة بملف الباحث الإيطالي جوليو ريجيني (الذي قتل غيلة في القاهرة منذ عدة سنوات). ومنها أيضاً التأخر في قرار غلق المساجد، بل والضغط على شيخ الأزهر للعدول عن قرار مبكر اتخذه بغلق الجامع الأزهر، مخافة استغلال مناهضي النظام من الإسلاميين لذلك في التعريض بالنظام والمزايدة عليه. ومنها كذلك هيمنة الأساليب الدعائية المعتادة والتصريحات الخائبة على التعامل الإعلامي، مثل التعقيم الكثيف لأسفلت شوارع رئيسية في العاصمة المصرية رغم انتفاء الحاجة لذلك.
ولذلك يقف اليوم في أتون الأزمة قطاع الصحة وحيداً قاحلاً هزيلاً، بعد أن تم حرمانه مما يستحق لحساب من لا يستحق، ويعجز قطاع الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية عن مد يد العون له بعد أن أنهكته الضربات الأمنية الخشنة في السنوات الأخيرة حتى صار قاعاً صفصفاً.
السبب الثاني يتعلق بكون الأنظمة السلطوية هشة بطبيعتها، نظراً لافتقادها للشرعية السياسية ولغياب الإجماع بين شعوبها حول القواعد الأساسية للممارسة السياسية. ثم أن هشاشتها تتعمق بشدة في أوقات الأزمات. لماذا؟ لأن الأزمة بالتعريف وضع طارئ سريع التطور يخلخل التوازن القائم في المجتمع، بل وقد يزلزله إن اشتد أوارها. فصل الخطاب إذن، وبعكس الرأسمالية التي تمثل "الأزمة" بالنسبة لها آلية من آليات تجاوز اختلالاتها وإعادة إنتاج نفسها، فإن الأزمات كعب أخيليس السلطوية ورأس حربة خصومها. الضربة بألف والهزيمة بقطع رقبة.
وبعيداً عن العموميات، فلنركز في هذا السياق على التباين الشديد بين الوضع في دولة ديكتاتورية حتى الثمالة مثل مصر ودولة ديمقراطيتها راسخة مثل إيطاليا. ففي إيطاليا، وهي دولة منكوبة بالفيروس القاتل، قد يرتفع صوت المعترضين على أداء الحكومة، انتقاداً واتهاماً بالتقصير والفشل، لكن هذا الصوت لن يمتد إلى النيل من شرعية بقاء الحكومة، ذلك أنها حكومة ديمقراطية جاءت عبر إرادة الشعب في انتخابات حرة ونزيهة. أما في بلد كمصر، يمتلئ ثوب شرعية نظامها بالثقوب، ويعتمد حكامها على أدوات القهر للبقاء، فإن الفشل في التعامل مع أزمة طاحنة يفتح الأبواب على مصراعيها للتشكيك في شرعية "بقاء" النظام، أو على الأقل رموزه الكبار، في مواقعهم. الأزمة هنا أزمة وجود، وليست فقط خلاف حول سياسات أو قرارات.
الأنكى أنه كطاووس أحرق ريشه، بدد النظام الحالي في مصر كل أسانيد شرعيته في السنوات الأخيرة، فما عاد بقادر على مقتضيات الطيران ولا إدعاءات الزهو. لم يحدث هذا فقط بقتل الديمقراطية والزج بالآلاف في غياهب السجون، ولا حتى بضعف الأداء الاقتصادي والخدمي، بل أيضاً بالتنازل عن أرض قطع بمصريتها فرمان الوجدان وحكم القضاء، وبالعجز عن طمأنة مخاوف الشعب من التأثير المحتمل لبناء سد النهضة في أثيوبيا على مائه وحياته. وبالفعل، كشفت مظاهرات سبتمبر الماضي، التي ساهم في إشعال جذوتها من المنفى المقاول محمد علي، مدى هشاشة الوضع القائم، وكيف أن قشة صغيرة يمكن أن تقصم ظهر البعير. ذلك أن الحمل قد اشتد على الكاهل الواهن، وتراكمت الفواتير التي تبحث عمن يسددها، ويكون كبش فدائها.
والواقع أن انفتاح الأبواب على مصراعيها أمام آفاق التغيير لن يقتصر على احتمالات اندلاع المظاهرات وأفعال الاحتجاج (وبعضها بدأ يطل برأسه بالفعل بأشكال مختلفة وهو مرشح للتصاعد ما دامت الأزمة مستعرة)، بل قد يشمل محاولات للوثوب على السلطة من أعلى إن تفاقمت الأوضاع واستشرت الخسائر وتصاعدت الانتقادات. يدعم ذلك الاحتمال ما تكرر كثيراً في السنوات الأخيرة من صراعات خفية بين الأجهزة الأمنية المختلفة، وما يثار حول وجود "بؤر" أو شلل داخل هذه الأجهزة النافذة لا تدعم كل توجهات وقرارات القيادة السياسية.
إذن لا مرية في أن تصاعد أنين المرضى ومواكب الموتى (وهو أمر ندعو الله ألا يحدث أبداً) لن يمر على الأرجح مرور الكرام. وما بين مطرقة الغاضبين من أسفل وسندان الانتهازيين من أعلى، قد تتعرض مصر لتأرجحات من العسير التنبؤ بمداها ومآلاتها.
تعلمنا الحياة أن لكل شئ تداعيات، حتى أوهنها أو أصغرها. وفي العلوم الطبيعية، تشير "نظرية الفوضى" التي صاغها عالم الأرصاد إدوارد لورينز كيف أن حركة جناح فراشة أو ذبابة في أقصى الكرة الأرضي كفيل، عبر سلسلة من التفاعلات الرياضية والفيزيائية المركبة المتعاقبة، بالتسبب في حدوث زلزال أو أعاصير مدمرة في أقصاها الآخر. فإذا كانت رقرقة جناح فراشة بوسعها إطلاق كل تلك الطاقات، فما البال بإعصار مخيف هب على الكوكب، فزعزع أوتاد اقتصاداته ومجتمعاته وأقض مضاجع أهله؟ وماذا عساه أن بفعل، إن اشتدت قوته، في مصر حيث يوجد نظام استبدادي وبنى مهترئة ونار مضطرمة تحت الرماد؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي وبن سلمان: -إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة هي ال


.. هل تستعد إسرائيل لمواجهة غير متوقعة في جنوب لبنان؟




.. الجيش الإسرائيلي يصدر أمر إخلاء لمبنى بالضاحية الجنوبية


.. صور مباشرة للغارات الإسرائيلية على النبطية جنوب لبنان




.. وسط ترقب للرد الإسرائيلي على إيران.. شركات طيران عالمية تعلق