الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الأرغن الذائع الصيت

بديع الآلوسي

2020 / 4 / 21
الادب والفن


في الصباحات الغارقة بالعزلة ، اخرج الى باحة الكنيسة المعفرة بالبركة ، هنالك اجلس فوق الصخرة متأملا ً ورود شجرة التفاح ، مراجعا ً ما تخبئ لنا الايام ، وما سيؤول اليه مجد الأرغن الذي كنا نصغي له باندهاش يشبه السحر ، انغامه المرافقة للتراتيل كانت تدغدغ طفولتنا بالبراءة والفرح . ولطالما افتخرنا بذلك ، كوننا نملك أفضل آلة موسيقية في مقاطعة اللورين .
في ذلك الوقت العامر بالمسرات ، كانت روح الموسيقى المنبعثة من الارغن تمتزج بدماء وذكريات الفلاحين . اما اليوم فما عادت كنيستنا مكانا ً مثاليا ً لتلك المتع الروحية ، حيث توقف الارغن عن العزف قبل عشر سنوات ، وبمرور ذلك الزمن القاحل ما عاد بإمكاننا القول ان باستطاعة الموسيقى ان ترفعنا لمرتبة اعلى ..
الجدب يلتهم كل شيء ، باستثناء ذلك اللقاء الذي حررني من الرتابة ، واعاد لروحي زهوا ً لم اكن اتوقعه ، لكن اكثر ما يدهشني الآن هو اني ومنذ ان غادر سيمون لم يهدئ لي بال .. كونه ذكرني بتلك الايام التي قضيناها معا في مرحلة الشباب ، يومها كانت ضحكته المجللة تملأنا بالغبطة ، كان يدور حول نفسه ويرقص ويصفق ، وهو يصغي الى صوتي الشجي المردد لتلك الأغنية الشعبية :
في طرقات الرب ، تلعب الفتيات ذات الصدور النافرة ،
في تلك الدروب الموحشة ، قد تصادفهن ويضحكن لك
إذا احبك الرب ، سترى بريقا ً معدنيا ً يشع من عيونهن ..
اليوم وانا اذكرهُ بالأغنية ، حملت الريح كلماتي بعيدا ً ، اما مزحته فقد استقرت كمخرز في قلبي : يا ايها العزيز ان هذه الاغنية ما عادت تناسب خصلات شعرك البيضاء .
لا اعرف لماذا في هذا الصباح ، لا يمكنني تجاهل ما حدث لنا في بداية شباط قبل سنتين ، حين وفد الى قريتنا كمنقذ .
يا له من نهار مكفهر ، كان الثلج يتساقط ويملأ الطرقات ويغطي ازهار القرنفل وشجرة اللوز . توقعت انه سوف لا يأتي بسبب تلك الاجواء العاصفة ، ، لكنه حضر بالموعد المحدد ، معتمرا ً قبعة قطنية حمراء . مما جعلنا جميعا نتفق على ان سيمون رجلا ً محترما ً بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، بدأ حياته كراهب وفي نفس الوقت كان يشتغل مصلحا ً لآلة الأرغن ، وبعد الحرب الأخيرة اصبح عضوا فاعلا ً في الحزب الشيوعي ، كثيرا ً من الفلاحين لا يروق لهم هذا الخلط الغريب ، ويرون في هذا التلون تناقضا ً ، وهذا ما جعلهم ان يصفونه بطائر النطاط ، اما هو فلم يبال بذلك وكان يكتفي بان يهز رأسه ويبتسم .. آه يا له من رجل جسور وعطوف هذا السيمون .
حين استقبلته ، كان وجهه شاحبا ً ، لكن الابتسامة ترتسم على شفتيه . حمل لي معه كرات من الخبر وقطعة متوسطة من الجبن ، وقنينة خمر قرمزية ، لم اكن بحاجة لكل تلك الهدايا التي تكلف بحملها بقدر رغبتي بلقائه والمسامرة معه .. وحال وصوله اخبرني بانه اتى مشيا ً على الأقدام ، معتقدا ً ان من الحماقة الاعتماد على الدراجة الهوائية في هكذا اجواء تخيف حتى الدببة .
ما ان استراح حتى بدأنا نتشاور في أمر الأرغن ذائع الصيت ، والذي لأجله كان يتوافد الزوار من كل صوب وحدب للتمتع برنينه العذب وموسيقاه المميزة .
اصطحبت سيمون الى باحة الكنيسة ، وبقفزات متتالية صعد الدرج الخشبي ، وقبل ان يفتح حقيبته ، القى نظره متفحصة ، وما ان رأى التراب يغطي الارغن حتى صرخ : يا الهي ، لماذا كل هذا الإهمال ؟
اني اثق ثقة مطلقة بالرب يسوع ، لكني اليوم وضعت كل ثقتي بالنطاط ، وراودني هاجس لا يخيب من انه الشخص الوحيد في هذا العالم من سيتكفل بمعالجة المشكلة واعادة الأرغن الى سابق عهده .
اخرج بعض اللوازم الضرورية من حقيبته الجلدية ، ودون تريث باشر في عمله ، صار كمن يصارع وحشا ً ، معتمدا ً على قواه وخبرته الذاتية ، وظن ان التغريد ببعض القصائد الثورية سيسهم بإنعاش روحه وتخطي العقبات ، انتابه حماس غريب ، دق بمطرقته الصغيرة الذهبية على بعض المفاتيح ، حاول ان يرتب نوته موسيقية ، لكن بلا جدوى ، كل محاولاته باءت بالفشل ولم تثمر إلا عن رنينٍ لا يوحي باي ايقاع هارموني .
كنت اردد بين الفينة والاخرى : هل من أمل يا سيمون ؟
ولأن الكنيسة كانت باردة ورطبة ، لذا كان بين الحين والاخر يفرك يديه بقوة ، غير مبال بالبرد ، حتى انه تحرر من معطفه المطري ، وصار كالسنجاب يقفز وهو يصعد وينزل من السلم الخشبي ، لكن اكثر ما حيرني في كل تصرفاته ، عندما ذهب وفتح النافذة القريبة من الارغن ، فتسلل الضوء وهبت ريح باردة ، عندها احسست ان الرب يسوع يرانا ويبارك جهودنا .
واصل سيمون عمله لكنه توقف فجأة ً ونظر في ساعته اليدوية وطرح ذلك السؤال غير التوقع  : هل تعرف ماذا كانوا يطلقون على الأرغن في القرون الوسطى ؟
كان النطاط يراهن على تحسن نغمة الصوت بوضعه الزيت على المفاتيح والازار الصدئة . اما عني فقد خجلت من نفسي لأني لم اعرف الجواب ، قلت له وأنا مطأطأ الرأس : ماذا يسمونه ؟
كانت اصابعه تتراقص فوق جسد الأرغن ، طريقته بملامسة الاسطوانات اوحت لي كمن يداعب جسد انثوي ملتهب بالإثارة . لم افهم لماذا كان مصرا ً ان اجلب له حبلا ً ، بعدها ربط الاسطوانات المعدنية الكبيرة والصغيرة على نحو محكم . ما ان انجز هذه المهمة حتى رفع رأسه ، وقال بكلمات واثقة : يا صديقي العزيز يسمونه ملك الآلات الموسيقية .
بعدها بدقائق اخرج ثلاث بطاريات جافة والقمها مصباحه اليدوي ، وتمدد تحت الصندوق الذي يشبه كورة الحدادين ، والذي كان الصبيان يملؤونه بالهواء ، حينما نهض كان الغبار قد غطى فروة رأسه . كتمت ضحكتي فمن المخجل في تلك اللحظة ان اقول له يا ايها النطاط الجميل ان الأرغن حولك الى جرذ قذر .
خيم الصمت ، كان هو يبحث عن بعض البراغي الصغيرة التي سقطت على الارض ، بينما كنت انا اجمع كرات صغيرة ملوثه بالزيت ، بدا التعب واضحا عليه ، كان بحاجة الى من يبارك مبادرته واصراره ، حاول تجاوز الفشل الشبيه بالخيبة الهائلة ، ولكي نتخط محنتنا ، قال لي وهو يصر على اسنانه : رتل وصل ، علنا نتمكن من انجاز المهمة .
فجأة ً تعكر مزاجه اثر جرح اصاب يده اليمنى ، احتقن وجهه بالغضب ، ضرب كملاكم الاسطوانات عدة مرات ، وهو يصرخ : يا إلهي ، كم عنيد هذا الأرغن .
كتمت انفاسي ولم ابتسم حتى عاد مزاجه الى طبيعته ، فقلت له مشجعا ً  : اني على قناعة من انك مررت في حياتك بصعوبات تفوق اضعاف المرات حكاية هذا الأرغن العتيق .
وبينما كنا نقف متقابلين ننظر من خلال النافذة الى الباحة قال لي كلاما ً غريبا ً لم اسمع به من قبل : يمكنك ان تسمع أرغن الرب في السماوات ، ان صوته يتردد في كل مكان .
على الرغم من انه بدا اكثر نشاطا ً في النصف الساعة الاخيرة ، لكني أحسسته كمن يريد انقاذ جسد ميت ، لكنه ظل حتى تلك اللحظة يعتقد ان إمكانية انتشاله امرا ً محتملا ً . ارتدى قبعته مخفيا ً شعره الاشقر الطويل ، فبدت ملامحه قريبة جدا ً من مهرجي المدن الكبيرة الذين يعتاشون على التسول . وما ان رأيته يكابد في فك لوحة المفاتيح ، قلت له مستفسرا ً : لماذا انت مُصرٌ على اعادة الحياة له ؟
وضع سيمون المطرقة الذهبية وكذلك المصباح في حقيبته ، وظل يتأمل الأرغن المتأكل ، وسقطت دمعة كحبة اللؤلؤ من محجر عينيه . حينها فقط شعرت ان الشيطان قد انتصر على الرب ، كل هذا دفعني الى القول في خلدي : اي خراقة هذه !
اعتاد النطاط ان لا يجيب بسرعة ، لكني اعرف انه لا يُهمل الاسئلة مهما صغر شأنها ، كان جوابه مثار اهتمامي : ستطاردنا اللعنات ، لان شذرات من روح المسيح تسكن في هذه الكنيسة ، وان كلام المخلص يصدح من خلال هذا الأرغن .
في الساعة الرابعة عصرا ًطالنا اليأس ، وانا اغلق النافذة سمعت سيمون يتكلم مع نفسه كمريض مصاب بالحمى : كم هو مؤلم ان نترك الأحلام الجميلة تتعرض للتلف .
شعرت بضرورة مواساته ، ربما لذلك ذكرته بأننا نستطيع ان نتكلم مع الموتى لكن ليس بمقدورنا ان نحييهم .
لم اجد ما أكافئ به النطاط ، اخرجت القنينة ونحن نحتسي النبيذ القرمزي ، صرنا نتلذذ بمراقبة العالم الفسيح والمذهل من خلال النافذة ، ما اذكره اننا تحدثنا عن مستقبل الكنيسة ، التي تصَدع َ حائطها الشمالي ، وعن الحاجة إلى من ينقذ سقفها المعرض للتداعي في اي لحظة .
ما اذكره أيضا ً ، ان الثلج توقف عن الهطول ، وحين حلت ساعة الفراق .. شكرت سيمون الذي قضى معي خمس ساعات من المسامرة ، بخطى متثاقلة وصلنا الى مفترق الشارع ، اوصاني كأي نطاط عاشق للحياة بان اهتم بصحتي .. لم نتحدث طويلا ً ، وعدني بالرجوع بأقرب فرصة ، لكنه لم يعد ابدا ً ......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا