الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل العشرون/ 2

دلور ميقري

2020 / 4 / 24
الادب والفن


زوجُ خالدو، " عليكي " ـ مثلما كان يُنادى مذ انطبعت سحنةُ والده في ذاكرته لآخر مرة وكان في الرابعة من العُمر ـ أثبتَ أنه خيرُ وريثٍ لهذا الأخير؛ لقاطع الطريق الأسطورة، والأشهر في تاريخ الشام. لما رُزقَ عليكي بأول طفل، وكانت بنتاً كما علمنا، لم يكن قد بلغ بعدُ سنَّ العشرين. لكن مظهره الخشن، غير الخالي من الطرافة في آنٍ معاً، كان يوحي بالرجولة. إنه ربعُ القامة، متينُ البنيان، وقسماتُ وجهه كبيرة. حينما كان يستعرّ غضباً، يبدو الحَولُ واضحاً في عينيه الضيقتين، اللتين ورثهما عن أبيه فيما ورثَ. كان يُدرك من همسات الأقارب، أن ابنة عمه ستكون من حصته. لذلك أراد قبل اقترانه بها جمعَ مبلغٍ من المال، تنفيذاً لنصيحة الأم: " يجب أن تُزفَّ بحفل كبير، وأن تُثقل يدي عروسك بالذهب "، قالت له. منذئذٍ بقيَ في حيرةٍ، كون غاراته الفردية على بساتين الحارة تؤمّن خبزَ يومه، حَسْب. كما أن تشكيل عصابة بغيَة السلب والنهب، على غرار أبيه الراحل، لم تكن فكرة حكيمة: الزمنُ تغيّرَ، وآخرُ العصابات في الغوطة وريف الشام تمت إبادة أفرادها بنار الطرفين الخصمين، الفرنسيين والثوار، وكل مَن أسرَ منهم كان جزاءه الإعدام في محكمة عسكرية أو ميدانية.
" عليك التطوّع في جيش الفرنساويين، على غرار ما فعله فَدو وجمّو "، خاطبته عيشو بنبرتها الصارمة عقبَ خطبته لابنتها. لقد ذكّرته بشقيقيها، وكان كل منهما قد فضّل حياةَ العسكرية من أجل الحصول على راتب ثابت وجيد. تحت وطأة نظرات حماة المستقبل، رد عليكي بالقول: " ستشتعل الحرب من جديد، لأن هتلر يهدد الفرنساويين والانكليز طوال الوقت. الأفضل أن أنضم لسلك الدرك، أسوةً بالعديد من أبناء الحارة ". أثنت عيشو على قراره، ثم أضافت: " تكلّم مع ديبو ابن شقيقي، ليتدبّر لك وساطة مع رؤسائه ".
من سخريات القدر، أنّ مَن تعهّدَ تأمين الوظيفة لخطيب ابنتها خالدو، سيقوم لاحقاً بارتكاب جريمة فظيعة، كانت ضحيتها ابنتها الأخرى، البكر.

***
في إبّان تقدم عليكي للانتساب إلى سلك الدرك، التقى مع الشاب " شمّو "، المقيمة أسرته أيضاً على جانب الجادة، ليسَ بعيداً عن منزله. دور أقارب زميله، وهم فرع صغير من عشيرة آله رشي، كانت تقع هناك أيضاً. والدةُ الشاب، جمعتها مهنةُ الخياطة مع السيدة ريما؛ ومن ثم صارتا صديقتين حميمتين. كان يكبرُ صهرَ عيشو بنحو خمس سنين، يميل للمرح مثل معظم الأشخاص البدينين. إلا في موقفٍ، جدَّ على أثر الطلب من المنتسبين الجدد لسلك الدرك الوقوفَ في الطابور لأجل الفحص الطبّي. إذ التفتَ إليه أحدهم، وكان شركسياً مثلما نمّت هيئته ولهجته، ليقول له: " الفحص يتم بطريقة مشينة، تجلبُ العارَ ". ثم أوضح قصده، بأن الطبيبَ يضعُ إصبعه في ثقب المؤخرة، بغيَة تمييز الأشخاص المثليين.
هتفَ شمّو بنبرة استنكار: " لن أدعهم يفعلون هكذا معي، وسأُريهم ممَن يَسندني ما لا يعجبهم أبداً! ". كان يقصدُ أحدَ أقاربه، وهوَ ضابطٌ لامعٌ يُدعى " محمود شوكت "، توسّطَ في حقيقة الحال للعديد من أبناء الحارة. ما لم يُدركه المنتسبُ الجديد، ولا زميله الشركسيّ، أن الأوامر والتعليمات العسكرية يجب أن تنفذ مهما يكن الأمر. المفوّض على الدورة، وكان كرديّ الأصل من مدينة حماة، ضغط على ابن جلدته كي يُنهي الفحص الطبيّ. فقال له شمّو: " سأفعل ذلك، لو أن زميليَ الممتنعَ سبقني إلى الطبيب! ". لكن أياماً عدة مضت، دونَ أن يتزحزح الزميلُ الشركسيّ عن موقفه. في الأثناء، كان المتمردان يسمعان التعليقات اللاذعة من زملاء الدورة. إلى أن علّقَ أحدهم بالقول، أن لا خشيَةَ على بكارة المؤخرة من إصبع الطبيب. فما أكمل جملته، إلا ولكمة شديدة نالته من شمّو. ما تسبب ذلك بالهرج والجلبة في المهجع، لحين حضور المفوّض. هذا الأخير، أمرَ على الأثر بحبس شمّو ثلاثة أيام في سجنٍ تابع للوحدة. لما أنهى عقوبته، ذهبَ إلى المهجع وكان الوقتُ مساءً. ثمة، ما أن رآه زميله الشركسيّ، حتى ارتمى على السرير ورفع الغطاء إلى قمة رأسه. غبَّ سماعه نهنهة بكاء الشاب، أدرك شمّو أنه لا مناص من القبول بالفحص الطبيّ.

***
في شتاء عام 1934، وكان انقضى شهرٌ على عودة عيشو إلى مقر إقامتها في حوران، فوجئت ذات ليلة بأحدهم يطرقُ بابَ المسكن. وإذا هوَ صهرُها عليكي، وكان في قيافة الفرسان الأنيقة. بعدما ارتاح قليلاً، نقّل عينيه بين الأم وابنتها قبل أن يوضح ملابساتِ زيارته: " أكثر المنتسبين الجدد للدرك، أشغلوا القيادةَ بالالتماسات لأجل بقائهم في الشام. لذلك حظيَ طلبي بالنقل إلى حوران بالموافقة الفورية، وقطعتي تقعُ بالقرب من قلعة بصرى الرومانية ". لاحَ من طريقة كلامه وملامحه، أنه نادمٌ على اختياره. بقيَ يُلقي نظراتٍ ممتعضة على الكوخ، المشكّل بالأساس من حجرة نوم واحدة. لعله قارنه عندئذٍ بدار والديه في الشام، الفسيحة والمتعددة الحجرات. هذا ما أفضى به لامرأته، لما انفرد معها عقبَ خروج حماته إلى منزل الجيران. انتهى للقول: " لسنا مجبرين على مرافقة أمك حيثما قادها تفكيرها الغريب، بينما منزلنا في دمشق يتسعُ لعشيرة ".
ما لم يعرفه الفارسُ المحبط، أنّ القرويين يعيشون هنا مثل أسرة واحدة. فلما آبَ إلى الكوخ بعد أيام قليلة، فإنه بوغتَ هذه المرة بوجود حجرة نوم جديدة. عيشو، كانت قد أوعزت لبعض الرجال من جيرانها برفع جدار من الطوب في منتصف الكوخ، ثم جاءت بنجار ليهندسَ باباً للحجرة الجديدة ينفتح على زاوية أعدّت كمطبخ. مع مرور الوقت، هدأ بالُ عليكي وما عاد يشكو من السأم والوحشة. لكن طبعه اللئيم، المائل للانطواء والبَرِم بصحبة الناس، أقلقَ حماته الكريمة والمحبة للعشرة. على ذلك، عجبت فيما تلا من أشهر لخروجه كل ليلةٍ من ليالي مبيته في المنزل، طالما أنه بطبعه المعلوم. إلى أن صادفَ وجودها مرةً في المطبخ، وكانت العتمة الدامسة خارجاً تزفرُ حرارةَ النهار الزائل. سمعت عليكي يتكلم مع امرأته وكما لو أنه ذاهبٌ إلى سوق الهال، طالباً منها ذكرَ ما تحتاجه من خضار.
" ولكن أيّ سوقٍ هنا، في هذا الكفر الصغير، النائي بنفسه عن البلدة؛ بله وفي مثل هذه الساعة من الليل! "، خاطبت عيشو داخلها فيما الهواجسُ تتناهبها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل