الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون

حامد تركي هيكل

2020 / 4 / 24
الادب والفن


كنت في العاشرة من العمر، حين حلَّ رمضان مرةً أخرى. قبل المغرب بلحظات كانت أمي تكلفني بحمل صينية تحتوي على غضارة تشريب، وطاسة شوربة، وأحيانا صحنا من الهريس أو صحنا من المحلبي لأتوجه بها الى بيت قاسم، في تلك الساعة من رمضان تخلو الطرقات من المارّة. فالجميع داخل بيوتهم. فقيرة كانت أم غنية ، بسيطة أم متعددة الألوان والأطباق، لا تفقد مائدة الأفطارأهميتها وجاذبيتها الاستثنائية لذا ينتظرها الجميع بشوق. حتى الأطفال يتركون اللعب في الطرقات ويتحلّقون منتظرين مائدة الأفطار حين يقرع أبو خضيّر صفيحته معلنا موعد الأفطار. لم يكن في القرية مسجدا ، ولم أكن أعلم كيف يتسنى لأبي خضيّر معرفة موعد الأفطار، ولكنني كنت أعتقد أن لدى أبي خضيّر قدرات استثنائية لا يملكها غيره، فمن يربّي ثعابين في بستانه ويطعمها بيض الدجاج ، لا يصعب عليه معرفة موعد الأفطار. يوميا كنت أسير ساعة المغرب حاملا الصينية الى باب قاسم الذي هو عبارة عن صفيحة معدنية صدئة مربوطة بأسلاك الى جذع نخلة، ذلك الباب الذي يتوسط خصّاً من القصب وسعف النخيل اليابس. أطرق الباب، يفتحه طالّا بقامته الطويلة، ووجهه الأسطوري الخالي من التعابير، وعضلاته الكبيرة، كنت أظنه بطلا من أبطال القصص الخرافية، أو بحارا غريبا قذفته مياه المد، أو أنه أحد المقاتلين الأشداء الذين تخلّفوا عن جيوشهم الزاحفة بعناد الى مكان قصيّ. كنت أراه أنسانا مختلفا يخفي خلف صمته وهمهاته غير المفهومة غالبا اسرارا عجيبة.
رائحة التشريب ، وأبخرة الشوربة الحارة التي تتصاعد من الأطباق لازلت أشمّها حتى هذه الساعة بعد أكثر من قرن من الزمان. وسعادتي في تلك اللحظات لازلت أحسّها. كنت أنتظر رمضان سنة بعد أخرى لأسباب كثيرة، ومن بينها هذه اللحظات الجميلة.
الغبار المالح يتسسل الى قدميّ فيختلط مع العرق المتصبب منهما، فيصير طينا لزجا زلقا بين باطن قدميَّ والنعال البلاستيكي، فتصير خطواتي صعبة، ويبدأ قلقي على سلامة الأطباق يزداد. تختلُّ مشيتي وأتباطأ، ثم أنزع النعال لانطلق حافي القدمين بخفّة وثبات صوب ذلك الباب غير قلق على نعالي الذي أتركه وراءي، فلا أحد في تلك الساعة خارج بيته يمكن أن يسرق نعالي الذي سأعود اليه بعد تسليم الصينية سالمة.
قاسم هذا رجل فقير، لديه بنت معاقة، فأطرافها الأربعة التوت جميعها عدة مرات وكأن قوة خارقة قد برمتها فبرزت الى خارج جسمها نحو الخلف، كفّا يديها لا فائدة منهما، وأصابعها لا تستطيع مسك الأشياء. قدماها ملتويتان هما أيضا، فلا تستطيع تثبيتهما على الأرض للوقوف والمشي، بل هي تزحف بحركة لا تشببها حركة كائن. ووجهها أنقلبت معالمه رأسا على عقب. فعيناها سحبت بقوة الى الأسفل، وأنفها شُدّ الى الأعلى، وفمها حرَّكتْه قوةٌ عجيبة عن مكانه المعتاد فصار الى جهة من وجهها. ومع هذا كله فانني كنت أرى في ذلك الوجه المشوَّه ابتسامةً وفرحا عندما كنت أقدّم صينية الأفطار لقاسم.
لا أعلم هل يتناول قاسم أفطاره الدسم والمختلف عما كانت تعدّه زوجته منفردا، أم أنه يشارك أفراد عائلته به. وكم كنت أتمنى أن تعطيني أمي صينية أكبر تحتوي أطباقا عدّة تكفي لأربعة أشخاص بدل هذه الوجبة التي تكفي بالكاد شخصا واحدا. كنت أخشى لو أنني بُحتُ بهذه الافكار لأمي لضحكت عليَّ، أولنفذت ما أطلب، ولكنها ستكلف من هو أكبر مني حمل الصينية الكبيرة بدلا عني، وسأحرم من هذه السعادة.
يقول الناس أن قاسم كان قد جنَّ لأنه أقسم بالقرآن زورا، فعاقبه الله بأن سلب عقله، وولدت له هذه المسخ. ولكنني سمعته يقول غير مرة أنه قد رأى الله وكلمّه. وسمعته غير مرة يدخل بحوارمبهم ظننته مع الله حينها. وعندما كنت في العاشرة لم يكن بمقدوري أن اتأكد من شيء. كان كلُّ الأطفال يخافون من قاسم المجنون الغامض، ولكنني كنت لا أخافه، بل كنت متأكدا أنه يحبني بشكل خاص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي