الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دوائر ذات شهيق متصل

فرج بيرقدار
(Faraj Bayrakdar)

2006 / 6 / 15
الادب والفن


فصل من مخطوط: خيانات اللغة والصمت

آخ يا تدمر..
في أواخر عام / 1978/ التقينا للمرة الأولى. كنا يومها بضعة أصدقاء، يجمعنا الشعر، والحنين إلى ما لا نعرف، ومقدار ليس قليلاً من البراءة والمستقبل.
في ذلك المدرَّج المشرف على أمومة التاريخ.. عمَّرنا سهرتنا،
وكان القمر زنوبياً إلى حد الفتنة.
وها نحن الآن، بعد حوالي عشر سنوات، نلتقي ثانيةً.. لكن هذه المرَّة بدون الشعر، بدون ذلك القمر الزنوبي الفاتن، وربما بدون المستقبل.
تدمر هذه المرَّة.. تاريخٌ رمليّ وجغرافيا متحرِّكة.. دم يطغى، ويتدافع دوائر دوائر..
دوائر فاجرة ذات شهيق متَّّصل، تبتلع في طريقها الآثار والنخيل، النَّاس والمدن، وحتى الزمن والأسماء.
تدمر هذه المرة زمن آخر، زمن يسير على أربع، مغمض العينين، يعوي حيناً، ويموء حيناً، وتتقطَّع أنفاسه حين يبدأ تنفُّس المهاجع في الباحات.
لا أدري إذا كانت كل الباحات مثل باحتنا.. غير أن الوهوهات، والعواءات المقلوبة المتناهية إلينا من الجوار، كان لها نفس الملامح.. مطعونة بنفس الإيقاعات.
أجل.. التنفُّس في الباحة قطع أنفاس حقيقي، وفي بعض الأحيان قطع أنفاس نهائي.
ليس في هذا مجاز لغوي أو مفارقة شعرية.
لقد حدث ذلك في باحتنا أربع مرَّات على الأقل خلال عام واحد، أربع مرَّات أكيدة، شاهدناها من ثقوب الباب، وفي أحيان أخرى كنا نشعر بكثافة الموت، وهي تدق الأبواب، ولكن شبح الشرطي القريب من "الشرّاقة" الفاغرة في السقف، كان يحول دون اقترابنا من ثقوب القلق والفضول والمعرفة.
حين تنقطع أنفاس أحد السجناء بشكل نهائي، في فترة التنفس أو بعدها بقليل، كان يكتفي رئيس المهجع بدقّ الباب.
بالطبع لا داعي لأي تساؤلات حول سبب الدَّق.
ثمة أمور بديهية بالنسبة إلى السجناء، ولاسيما القدامى منهم، فالدق على الباب يعني في الغالب وجود حالة موت، ذلك أنه لا يمكن أن تسمع أي دق على الأبواب خارج هذه الحالة ومرادفاتها.
للحق كان الطبيب يأتي مع شرطيين أو ثلاثة، ومن وراء الباب يسأل صوتٌ ما عن سبب الموت، ويكون الجواب أي شيء سوى الحقيقة.. لأن إعلان الحقيقة، يمكن أن يكلِّف المهجع المعني ضحية جديدة في اليوم التالي.
مرة.. أعلن أحد السجناء في المهجع المقابل إضراباً مفتوحاً عن الطعام.
حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه..
تعبت الأحذية والقبضات والعصيّ.
أثناء التنفس.. أثناء توزيع الطعام.. وفي الليل عبر الشرّاقة الفاغرة في السقف.
أحياناً كانت أمواج الهستيريا الذئبية، تنعقد وتفور، وهي تمارس انتقاماً مجروحاً بالعنانة ومختوماً بالموت، لكن ما تلبث تلك الأمواج، أن تتكسَّر على سدّ الأجساد البشرية، التي تخرج من المهجع كقطيع مذعور، وتدخله كقطيع مذعور، وتصطفُّ أثناء التنفس كقطيع فقدَ إيمانه بالجدوى الإنذارية، التي يمثلها الرعب.
بين موجتين أحضر الشرطي فأراً ميتاً.
ربما كان ينوي إطعامه لذلك السجين المضرب عن الطعام ، ولكن حالة السجين على ما يبدو، لم تكن قابلة لغير الموت. لهذا كان الفأر من نصيب سجين آخر، كان هو الأقرب إلى الشرطي.
كنا حينها أكثر من عشرين عيناً، تتوامض متقاطعة، وهي تتزاحم على ثقوب الباب.
أدخل الشرطي فأره في فم السجين، وأمره أن يبتلعه ابتلاعاً بدون أي مضغ.
حاول السجين في البداية قليلاً قليلاً.. ولكن في منتصف الطريق، بدأت عضلات وجهه، تتقبَّض وترتجف.

لو أي شيء غير هذا الفأر الميت!
لو كان مسلوخاً على الأقل!

أدار السجين رأسه بحركة لولبية بطيئة، وهو يضغط على العنق.
كانت يداه.. كأنما تشدَّان شيئاً ما، ولكن بدون جدوى.
باعد قدميه.. أو تباعدتا وهو يوازن حركته، مخالفاً ما بين دفع عنقه إلى الأمام، ونتر يديه إلى الخلف.

أن يبتلع الفأرُ إنساناً.. يبدو لي أسهل من أن يبتلع الإنسانُ فأراً!

عاد السجين يمطّ عنقه، بينما كان جسده يتلوَّى وينحني، هابطاً إلى نقطةٍ تمكنّه من الانتفاض مجدَّداً، فيقمح برأسه على طلقاتٍ متتالية، ومع كل طلقة يخطف يديه إلى الخلف، ويستعيدهما بلجلجةٍ واضطراب، ليخبط بهما في أكثر من اتجاه، مثل غريق يبتلعه الهواء.
سكن للحظات، بدا فيها مستنـزَفاً إلى آخره..
ـ يا ابن الشرموطة إياك أن تمضغ.
يلكزه الشرطي في خاصرته.
ـ قلتُ لك أن تزلطه زلطاً إلى النهاية.
فجأة عاد السجين يحاول، وقد أطبقت كفّاه على عنقه، وراح يضغط حيناً، ويمسّد حيناً بحركات متشنجة ومتواترة.
بين كل حركة وأخرى، تنفلت يداه، وهما تلوبان على شيءٍ ما في الفراغ، ثم يعيد المحاولة، وتنفلت يداه..

أين يقع مفترق اللّه مع الإنسان؟
مفترق الأرض مع السماء؟
الحياة مع الموت..؟
أين؟!

ـ يا منيوك لا تحرِّك فكيك.. قلت لك زلطاً.
هزَّ السجين رأسه عدة مرات، كما لو انه يريد أن يرسل إلى الشرطي إشارات سريعة من الموافقة والاستعطاف، ثم تابع تحالفه مع جسده في أكثر من وضعية، تتيح له التحايل على قضائه الداهم.
إنه يحاول بأكثر من يديه ورأسه وقدميه..
يحاول بكل ما آتاه الله من قوة اليأس وإحساس الطريدة بالاستفراد..
لم يزل يحاول..
مرة.. اثنتان.. ثلاثاً.. أربع..
سقط على ركبتيه.
ـ إنهض يا كلب يا خرا.. قلت لك انهض.. ترفض الأمر العسكري؟! بسيطة.. إذا بقيت حياً نتحاسب.
نهض السجين. دار دورتين في المكان، وهو يدقُّ صدره بقبضتيه، ثم ما لبث أن بدأ ينتفض ويترنَّح، إلى أن بلغ أقصاه، وبدا واضحاً أن ضريبة إعلان عجزه، لن تكون أكثر سوءاً من الاختناق، فنـزل على ركبتيه، مردفاً رأسه إلى الخلف، وهو يشير بيديه مستغيثاً يطلب الماء.
كان الجزء الأخير من ذيل الفأر، لا يزال متدلياً عند زاوية الفم.

آخ يا تدمر آخ..
لم أكن أنوي الدخول في هذا الاستطراد المرهق.. ولست مقتنعاً الآن بالتراجع عنه، ولم يعد لدي القدرة على العودة إلى تفاصيل ما تعرّض له ذلك السجين، المضرِب عن الطعام، خلال أربعة أو خمسة الأيام اللاحقة.
أعتقد أن بإمكانكم مساعدتي، أو على الأقل تفهُّم وغفران عدم قدرتي، وربما عدم رغبتي في استكمال ما بدأت.
لقد حاولوا جاهدين أن يتفاهموا معه.
تعبتْ الأحذية والقبضات والعصيّ، ولكنه..
هل يكفي القول، إن ما تعرَّض له ذلك السجين منفرداً، يفوق ما تعرَّض له المهجع مجتمعاً؟
ومع ذلك فإن المسكين.. لم يمت!!
فقط أصبح مجنوناً.
أصبح.. مجنوناً.. فقط.

الساعة الآن الثالثة والنصف صباحاً، وقد مضى على انتقالي إلى هنا، أعني إلى سجن صيدنايا، أكثر من عامين، فما الذي أخذني الآن إلى تدمر؟
لعله الحديث الذي دار في أول السهرة، بيني وبين أخي، حول العام الذي زرته فيه، عندما كان يعمل مدرِّساً في تدمر.
كنا يومها بضعة أصدقاء، يجمعنا الشعر، والحنين إلى ما لا نعرف، ومقدار ليس قليلاً من البراءة وال..










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس