الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكاميرا والموت

سمر يزبك

2006 / 6 / 15
الادب والفن


الكاميرا تتحدث:
يابا..يابا
كلمات مبحوحة، نازفة من حنجرة الصبية الصغيرة، وهي تدور كنجم ضائع في الكون من جثة إلى أخرى، وسط الرمل المتموج بالأوساخ، رمل الفقراء، وبحرهم، وموتهم أيضاً. الكفن الجديد للفلسطينين الذين تصالحوا مع الموت وعانقوه كرفيق دائم، ولم يعد بالنسبة إليهم معضلة وخوفاً وجودياً يحثهم على السعادة باستمرار، رغماً عن القصف والرصاص، لقد تحول إلى جزء أساسي من سلوكهم اليومي والإجتماعي، وصارت مظاهره من عزاء وعويل وندب وأردية سوداء، يوميات متلاحقة، وربما لم يكن هناك شعب أدمن الموت، كما فعلوا، فيما يشبه المقاربة غير البعيدة للهنود الحمر، وإباداتهم الجماعية، من حرق وذبح على أيدي اليانكي، لتنشأ فيما بعد أسطورة الحلم الأميريكي الذي ما يزال يرقد على عظام الهنود الحمر واستغاثات موتاهم، الفرق أن الصورة التلفزيونية لم تكن غزت العالم الجديد، عندما وطأ كريستوف كولومبوس بقدميه العالم الجديد، لتجعلنا نشهد تلك المذابح على أرض الواقع، وليس كما صورتهاالأفلام فقط، ونصبح كمشاهدين، مدمنين ومتصالحين من نوع قاتل مع الموت.
الصغيرة سليلة الهنود الحمر، تنتقل وسط محيط غائب عن مخيلة البشرية، يبح صوتهاوتصيح: يابا..يابا
الكاميرا تلاحقها مثل ظلها.
الكاميرا لا ترتجف أبداً، يد المصور لا ترتجف، تلاحق حشرجات الطفلة، نرى نحن أمام الشاشة، صورة فنية عالية، متكاملة الأبعاد، من جثة إلى أخرى، رمل وبحر، سماء واسعة ومفتوحة على الموت. تصيح الصبية، تعفر الرمل بيديها، ويتناثر شعرها.
الكاميرا تلاحقها، وكأنها صيد ثمين، لا ترتجف العدسة أيضاً، أو حتى تشوبها شائبة، تحدق بثبات. أتساءل ما الذي كان يفكر فيه حامل الكاميرا، وهو يجوس بعينيه المكان؟ ويبحث لنا عن أكثر المشاهد عذاباً، المشاهد الراسخة في الذاكرة، حيث تتوقف دقات الساعة، ويثبت الزمن، ويتحول من متحرك صاعد إلى ثبات مطلق، ربما هي فضيلة الكاميرا التي تحقق نوعاً من احساسنا، أننا نملك الزمن، نحن البشر، سلالة الفناء. الكاميرا التي تثبت الزمن، وتجعل من المجزرة الإسرائيلية التي أودت بحياة عائلة هدى غالية، وهم يتنزهون للمرة الأخيرة على شاطئ البحر، حدثاً لايتزعزع، لا يهرم، ولا يغادر لوحة البقاء، لكنه مثل لوحات غويا، ينهشنا كوحش، نحن وكل ما استطعنا الحفاظ عليه من مشاعر إنسانية عبر التاريخ الدموي للبشر، ترى ما الذي تفعله الصورة التلفزيونية غير أن تخلد بقاءنا الممهور بالدماء، ما الذي صارت إليه صورة محمد الدرة؟ غير رجع الريح، وما الذي جاء بعد مجزرة قانا، وصور الأطفال القتلى، وصراخ الفجيعة؟ ما الذي آلت إليه دماء العراقيين والرؤس المقطوعة في صناديق الموز؟ مالذي تبقى عدا عن الاتجار بعذابات هؤلاء البشر، غير اعتيادنا على القتل، وتعودنا العنف اليومي، وتحول أكبر معضلة وجودية لاحقت الكائن البشري خلال تاريخه الطويل إلى أمر مألوف، الموت؛ ذلك المخيف الجبار، العادي الأن مع الكاميرا؛ مروضته الأكثر شراسة، والشبيه الأن بشرب كأس من الماء المثلج! وما الذي تطلبه منّا الكاميرا، وهي تبحث عن موطن التوحش فينا، إنها تستفز الموت في دواخلنا، ورغبتنا وفضولنا لنشعر كم نحن أحياء برؤية الموتى! نحن نتواطأ معها وهي تحث أبشع ما فينا على المتابعة.
تصرخ الطفلة الصبية، ويتفرج العالم، كما في ألوان الفرجة السابقة، واللاحقة أيضا في عملية إبادة الشعب الفلسطيني، وفي لقطة أخرى لكاميرا هدى غالية، تجلس على كرسي أمام عشرات العدسات الفضولية، قرب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ويتحول الموت والحشرجات وصرخات :يابا ..يابا..إلى لعبة فضول سياسي، تسخر من أرواح العائلة التي ما تزال تحوم كسرب فراشات احترقت بالنار، وتنتقل مع هدى على شاطئ من رمل وفقر.
ما زلت أتساءل ؟ هل ما شاهدناه لوحة تشكيلية ضمن فيلم ما؟ أم هي لعبة من ألعاب تلفزيون الواقع؟ حتى ينساها الجميع صباح اليوم التالي ويتابعون حياتهم، وينتظرون صوراً جديدة لمشاهد القتل، التي تذكرني بالعبيد الذين كانت تهرق دماؤهم مع الوحوش المفترسة في عهد الإغريق، والناس تصفق وتصفق لمشاهد الموت، وصراخ القتلى بين الأنياب. الفرق الأن، أن الكاميرا هي من تحدد الرؤيا، والعين التي كانت أيام الإغريق تجول بحرية، وذاتية عالية، صارت الأن متلقي فقط، يتشكل وفق منظومة كاميرا كبيرة وهائلة، ترسم خارطة العالم الجديد كما تريد، وتحدد ما يريد البصر، وما لا يريد، وما يجب أن يقف عنده الخيال، وما يجب أن يستمر، أعيننا كاميرات صغيرة، لما يرسمه التلفزيون، ولا نملك حتى أن نتعاطف مع الكائن البشري عندما يموت، فقد صرنا نحن والموت وعزيزتنا الكاميرا: أصدقاء!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب