الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلم ..

محمد نجيب وهيبي
(Ouhibi Med Najib)

2020 / 4 / 26
الادب والفن


حُلم
يكون احيانا عاملا في مقهى، وفي أخرى عامل بناء مياوم و مرّات في الأسواق دلّالا مُعاونا عِند تُجّار الملابس المستعملة أو الغلال الموسمية والخضر ، هكذا هي حاله منذ إثني عشرة سنة ، بعد ثلاث سنوات من تخرجه أستاذا للفلسفة ، عندما استوفى كل إجراءات المساعدة الركيكة التي تُقَدّمُها الدولة لخريجي الجامعة ومنها "السي ، في بي " ( عقد الأعداد للحياة المهنية ) .
هو في النصف الأول من عقده الرابع ، أكبر الأبناء لعائلة ذات دخل محدود ، كاغلب عوائل تونس ، والده المرحوم تزوّج ربة منزل بسيطة على حلم بسيط فكان هو و اختين واخ ، فأما الاخ وهو الثالث ترتيبا فقد انتهى كل إتّصال لهم به منذ عشر سنوات إثر إمتطائه لأمواج الأمل نحو الشمال بعد سنوات عِدّة من البؤس والضياع وإحتراف الوان عِدّة من الانحراف ، حتى الدولة كفّت عن إحتسابه ضمن الأحياء على ما يبدو ، وأما امهم فقد اقعدتها الاحزان و أوجاع الدنيا فغادرتها وهي لا تزال حية ، بعدما نسيت أن الإنسان يحلُم ...
كان هزيل البُنية ، متوسط الذكاء ، قليل العلاقات لا شيئ يُميّزُه البتّة غير طيبة قلب أسطورية ، حتى تكاد تحسِبُه درويشا ، الكل يُحِبُّهُ على هذا ، كل من عمل معهم دون إستثناء ، يصرف أكثر القليل الذي يُحصّلُه على أمّه وأخواته ، لم يستقِرّ في عمل ، صدّق أنّه لا زال يحلم و أن شهادته سَتُحَقِّق أمل والده يوما ..
كان يدّخِرُ القليل مما يجمعه لقاء أعماله المتنوعة و يقتطع معها بضع أسابيع من رحلة الشقاء ليسعى في الارض بحثا عن عمل لائق . يحمل أوراقه ويتجوّلُ بين الشركات والمصانع علّه يُصيب بقايا من عُمُرٍ يتسرّب من بين أصابعه مثل حبّات رمل نقية لشاطئ مهجور ، احبّ والده جِدٍّا وصَدّقه وجاراه في طيبته فهو الذي إقتطع من لحمه حتى يجدِلَ له شهادته الجامعية ، التي رقص بها على جبينه يوم أهداه إياها ...
وقف أمام باب شركة مُحترمة مُختصّة في الاحصاء والدراسات المجتمعية ، نفح الحارس عشر دنانير كاملة وإقتسم معه علبة سجائر . كان الحارس ستيني رَبّ اسرة ، مأزوم رغم إستقراره المهني فأكبر بناته الاربع لم تتجاوز الأحد عشر ربيعا ، فقد تزوّج مُضطرٍّا مُتأخّرٍا ، بسبب الفاقة قاتلة الأحلام المُبكِّرة .
شكر والده في سِرّهِ على حكمته في قبض احلامه على بساطتها باكرا .
بعد أن تبادلا أطراف الحديث ودَسّ الورقة النقدية ،عربون المودة ، في جيبه، قال له :
- تهدأ الحركة قليلا سأدخلك على أحد المدراء الشّبَّان هو من سِنّكَ وخدوم عموما قد يُنجِدُكَ في أي عمل ، هم يوظّفون الآن .
- يكثر خيرك بابا .
- الله يجيب الخير لأهل الخير .
كانت تلك عِبْرَةُ والده المُحبَّبة التي سَطّرت حياته الى جانب جملته المعتادة : "الزوّالي ياكلها مسارقة" ، وقد طبّقهما بحذافيرهما طيلة حياته الجامعية وما بعدها بوصفها احدى الطقوس العائلية التي تُقارب قُدُسيتها وصيته الاخيرة في أن يرعى امه واخوته قبل لقمته الخاصة ، لم يعقد أي صداقات تُذكر في الجامعة لم ينخرط في أي مجموعة نقابية أو سياسية أو حتى نادي أو مجموعات مجون ولهو ، مرّ بالجامعة وكأنه نسمة صيف عابرة دون ذكريات، ولا قِصّةُ حُبٍّ واحدة سوى تلك التي عاشها في خياله مع زميلة إكتشف صدفة بعد عشر سنوات أنها صارت نجمة سينمائية معروفة ، حتى أنه مع طول مُدَّة تجواله بين الأسواق و حضائر البناء نسي عنوان شهادته وما درس ..
ادخله الحارس قصد المكتب في آخر رواق الطابق الثاني مثلما وجّهه عون الاستقبال في الطابق الأرضي ، طرق الباب وانتظر .
- تفضّل ادخل
دخل شبه فاقد للامل كعادته فهي المرة الألف التي يُعيد فيها نفس الدور في نفس المشهد ، يؤديه فرحا كأنه واجب حتى لا تموت أحلامه دفعة واحدة
- مرحبا تفضّل خويا
- يزيد فضلك ، انا خريج جامعة وسمعت اللي انتم طالبين موظفين جيت انقدم في الملف .
رفع المدير راسه ، قليلا فالصوت ليس غريبا جدا " المفروض ترسل الطلب بالبريد الالكتروني و..." فجأة تغيّرَ صوته واكتسته البهجة
- مش انت فلان !!
باستغراب وصدمة
- نعم انا هو .
كانا زميلي دراسة وربما صديقه الوحيد أيام الجامعة ، رغم تخلّفه في الدراسة يرتقي من قسم إلى آخر على سنتين في الحد الأدنى ، جريئ العلاقات ومنفلتا ، الا انه ها هنا اليوم ، تحادثا عن كل شيئ ، تألّما لحاله ، ووعده أنه من الغد سيباشر معهم مُوَظّفٌ مُتَدَرِّبٌ لِسِتّة أشهر فقط تُختم بالانتداب النهائي مع الترسيم بدرجة شهادته في قسم دراسة سلوك المستهلك براتب شهري محترم جدا ، فقد كان قد أخبره أن صاحب الشركة عمه وحماه
ودّعه بحرارة وخرج يقفز زجلا مثل عصفور دوري يفرد جناحيه لأول مرة مُحَلّقا خارج عُشّه ، صدقت اخيرا يا أبي ، رحمك الله ، و عقد العزم بينه وبين نفسه أن اول أجرة كاملة ستكون صافية للكرسي المدولب من أجل امه ، أما الثانية والثالثة فسيكمل بهما جهاز الأخت التي طالت خطبتها ويُسهِّل عليها ومعها أمر زواجها ، عساه يُكفّرُ عن ذنبه في تسهيل هِجرة اخوه السرية التي قتلت والده كمدا ...
تذكّر أثناء كل هذا الحارس المسكين ، بوّابة الخير ، كان يجب أن يعطيه عشرين دينارا أخرى عند خروجه ، سيعطيه غدا ضعفها ، إنشغل بقصة الحارس وهو يعبر الطريق ، انتزعه من افكاره فجاة صدى صوت فرامل سيارة مسرعة تخلّله ازيز مزعج لانزلاق عجلاتها على الاسفلت ، رفع راسه فلم يتبين السيارة أو ربما فعل ، صوت صدمة مكتومة و صرخة الم صامتة كما كانت دوما وإلى الأبد تبعثرت معها بقية أحلام شاب اربعيني لم تكن يوما له .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية