الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشراع و العاصفة لحنا مينا بين زوربا و الشيخ و البحر

صباح هرمز الشاني

2020 / 4 / 27
الادب والفن


ثمة قفزة في المستوى بين هذه الرواية وبين باكورة رواية حنا مينا الموسومة (مصابيح الزرق)، بالرغم من أن الرواية التي نحن بصددها، تعد الرواية الثانية ضمن الروايات الصادرة له والبالغ عددها أثنتي وعشرين رواية، والفارق الزمني بين كتابتهما لا يتعدى على عامين فقط. ويقر مينا بنفسه في هذا التفاوت في المستوى بينهما في كتابه: (كيف حملت القلم)، وهو يقول: (كتبت المصابيح، وأنا عاقل، وكتبت الشراع والعاصفة وأنا مجنون). ص131. أو كما يقول في الصفحة نفسها: (وإذا كنت في المصابيح. . .) قد كتبت حيا بعينه هو حي القلعة، فقد كتبت في: (الشراع. . .) المدينة والبحر والنفس الإنسانية، لذلك صرت وجودا، أصغر من البطل الذي أعطيته وجودي، وصار الطروسي خالقي بعد ان كنت خالقه.
وبمنآى عن تحليلات المؤلف وتفسيراته لشخوص وأحداث ومستوى روايته هذه، وإنطلاقا من نظرية التلقي، فإن أهمية هذه الرواية وقوتها تبرز في الصراع القائم بين كل الأشياء التي تحتويها، سواء كانت حية أو غير حية. ميتة أو غير ميتة، مع إنها تخلو مما هو غير حي، ذلك أن كل الأشياء فيها حية، بما فيها الرياح والأمواج والبحر، لذلك فالصراع فيها لا يقتصر بين الكائنات الحية فقط كالبشر، وإنما حتى بين الكائنات غير الحية بعضها مع البعض ومع البشر، بين الطروسي وأبي رشيد، بين أبي رشيد ونديم مظهر، بين الطروسي وأبو برو، والبحر والعواصف، بين الكتلة الوطنية والكتلة الشعبية، بين الطروسي والبحر، بين الكتلتين والصيادين، بين أبي حميد ورجال الأمن، بين الصيادين أنفسهم، الطبيعة مع نفسها ومع الصيادين والبحارة. والشعب السوري مع الإنتداب البريطاني والفرنسي، وبين المدينة والبحر، والمدرس كامل وهتلر، بعكس (أبو حميد) المنجذب لألمانيا، معبرا عن هذا الصراع بلغة شاعرية موظفا إياها من خلال شخصيات شعبية مستقاة عن واقع المجتمع العربي (السوري)، وأحداث واقعية وغير غريبة مستمدة عن الواقع ذاته. وبإضفاء مسحة من صفات البطولة الأسطورية على شخصية الطروسي، وضخ الأحداث بشيء من الغرابة، جعل من الرواية، أن ينكب المتلقي على تلاوتها بشغف لما تفيض بثلاثة من أهم العوامل الدافعة لمتابعتها للنهاية وهي: (التوتر والإثارة والتشويق). وبالتعويل على إلتعرض لمختلف الأساليب السردية المتبعة في الرواية الحديثة، أتخذت من أسلوب الميتا سردي، نهجا لها، إبتداء، من أسلوب سرد الأحداث بشكل غير منتظم، وبتداخلها مع بعضها البعض، مرورا بالسرد الموضوعي والسرد الذاتي، وإنتهاء بالسرد الذي يمتزج فيه صوت الراوي العليم مع صوت الشخصية، بالإضافة الى إستخدام السرد البوليفوني (الأصوات المتعددة).
وصراع الطروسي مع البحر، يوحي للوهلة الأولى بأنه يتناقض مع شخصيته، أو هكذا يبدو، أو يقرأ، ذلك أنه من جهة يعجز أن ينآى عن البحر، لا بل يحبه بلوغا حد العشق، ومن جهة أخرى يخشاه ويسعى الإنتقام منه. ولكنه مع هذا يدخل في مغامرات مجنونة معه. وها هو في بداية الرواية على شواطيء اللاذقية، ينسلخ عن الزمان والمكان يحلق في ماضيه، مناجيا نأيه عن داره، وهذا النأي عن الدار هو إشارة واضحة الى حنينه الى البحر الذي كان في يوم ما رئيسا يقود فيه المركب الذي يقل البضائع من مدينة اللاذقية الى المدن السورية الأخرى التي تدر له مبلغا من المال، إلآ أن غرق مركبه في إحدى رحلاته البحرية، أدى لعدم قدرته على شراء مركب آخر الى فتح مقهى بالقرب من شاطيء البحر، بالرغم من أنه لم يخلق لهذه المهنة، ولكن ليكون قريبا من البحر.
يذكرني مقهى الطروسي على شاطيء البحر، وهو لم يخلق لمهنة القهوجي ويمارسها بالرغم عنه، بمجيء المعلم مع زوربا في رواية زوربا لكازانزاكي الى جزيرة كريت لا من أجل الكسب المادي من خلال بناء منجم للفحم، بل لكي يعتبرهما أهالي القرية مقاولين جديين ولا يستقبلهما برشقات البندور. وبقدر ما تبدو هنا العبثية في شخصية المعلم في رواية زوربا ، بالقدر ذاته تنعكس هذه العبثية في شخصية الطروسي الناجمة عن حبه للبحر وإنتقامه منه في آن . ولكن هذه العبثية وهذا التناقض سرعان ما يمحوان أمام أنظارنا لو أطلعنا على حقيقة شخصية الطروسي من حيث إنتمائها الطبقي الى البورجوازية الصغيرة، هذه الطبقة التي بطبيعتها غالبا ما تميل نحو القوى الوطنية وتتعاون معها، كون هذه الطبقة بفكرها وتوجهاتها أقرب الى هذه القوى، قياسا بالكتل الأخرى التي غالبا ما تقف الى جانب المحتل كالكتلتين الوطنية والشعبية المتمثلتين بأبي رشيد ونديم نظمي. أقول لو أطلعنا على حقيقة شخصية الطروسي من حيث بنائها القائم على الرمز، وليس على البناء الجاهز والمطبخي، نبلغ سر عجز الطروسي التخلي عن البحر، وهو العودة اليه بالقوة نفسها التي تركه فيه، وما هذه العودة إلآ إشارة واضحة الى عودته الى أحضان القوى الوطنية، ودحرا للكتلتين من طرف وإنتقاما من البحر من طرف آخر.
ولكن هذا التحول في شخصيته لا يظهر بشكل واضح في مطلع الرواية، بل بالعكس يشي بتعاطفه مع ألمانيا، مع أنه يحب الأستاذ كامل اليساري ويبدي إعجابه بآرائه، ما يمنح إنطباعا أن رغبته في العودة الى البحر هو بهدف الحنين الى الماضي، والعودة الى سابق عهده ميسورا كما كان. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح: ترى ما الذي غير شخصية الطروسي إذن؟ هل تغيرت من تلقاء نفسها، أم كان شخص ما وراء هذا التغير؟ وبعبارة أخرى هل كان موقف الطروسي سيتغير من إنجذابه لألمانيا الى روسيا بدون وجود الأستاذ كامل في الرواية؟
العلاقة بين الطروسي والأستاذ كامل قريبة الى حد كبير في علاقة زوربا بالمعلم. مثلما المعلم واقع تحت تأثيرات زوربا الذي لم يدخل المدرسة وله شتى أنواع التجربة، أو كما يقول له المعلم: ( أجل يا زوربا فأنت لا تخطيء. أنت كالأسد)، كذلك فإن الأستاذ كامل واقع تحت تأثيرات الطروسي، لأنه يفلح في كل مغامرة يخوضها، وبالدرجة نفسها زوربا والطروسي يتبادلان التأثيرات مع معلميهما. ولكن التأثيرات المتبادلة بين الأستاذ كامل والطروسي أكثر وضوحا ووقعا على أحداث الرواية. ذلك بالرغم من أن الطروسي ليس بالرجل الذي يصطنعه الآخرون، إلآ أنه كان يروقه أن يستمع الى آراء الأستاذ كامل لأنها تتسم بمعلومات جديدة، لم يسبق له أن سمعها من شخص آخر قبله. وهنا تكمن نقطة التحول في شخصية الطروسي، في تقبله لكل ما هو جديد، ذلك لأن الجديد يتسم بالمغامرة، وإذا كان هو من هذا النمط، النمط المحب للمغامرة، فمن الطبيعي أن ينجذب اليه. بينما (أبو محمد) الرافض لحب المغامرة، خشي في نهاية الرواية النزول الى البحر، عندما دعاه الطروسي للعمل معه كون هذه التجربة جديدة عليه، على أبي محمد، بعكس الطروسي.
كامل: ما الذي جاء بك الى الإجتماع؟
الطروسي: الذي جاء بك أنت.
كامل: أقصد أنك مشغول بالسفر ولا تطيق الإجتماعات.
الطروسي: نعم لا أطيقها. . أحب العمل أكثر من الكلام، ولكني تغيرت عاشر القوم اربعين يوما تصبح منهم وفيهم) ونحن عاشرناكم سنوات. . خطيئتي في رقبتكم.
كامل: في رقبة الذين حببوك بهتلر.
الطروسي: بل في رقبة الذين كرهوني به.
ولعل هذا الحوار الدائر بين الطروسي وكامل، يشي بما لايقبل الشك، أنحياز السارد الضمني الى القوى الوطنية، وذلك عبر تأثير الأستاذ كامل على الطروسي ليس بالتخلي عن تعاطفه مع هتلر فحسب، بل بالإنتماء الى القوى الوطنية أيضا. وثمة حوارات أخرى في الرواية تدل على هذا الإنحياز الى الجهة التي ينتمي اليها السارد، كما جاء في العبارة التالية: (لا تصدقوا الدعايات الأنكليزية. . الروس أشرف من لحية أبيهم).
وإذا كان السارد الضمني قد أنحاز بإتجاه إسقاط فكره على شخصية من شخصياته الروائية، فإنه أي السارد الضمني في نهاية الرواية، يتدخل بمصير (أبو محمد) أيضا، عندما يحيل نديم مظهر مسألة الإعتناء بمعيشة (أبو محمد) على لسان الأستاذ كامل الى إصلاح المجتمع: (وفكر نديم مظهر: هل يعتني حقا بأبي محمد؟ إنه واثق من مساعدته له، إنما لا يمكن أن يعيش الإنسان على المساعدات، ولا بد له من عمل، فماذا بوسع هذا العجوز أن يعمل؟ وهو، ماذا في وسعه أن يفعل لأجله؟ . . . صدق الأستاذ كامل. . القضية ليست قضية فرد بل مجتمع، ينبغي إصلاح المجتمع).
وهنا يطرح سؤال آخر نفسه بالإلحاح ذاته: ترى هل أن حنا مينا عندما كتب هذه الرواية كان تحت تأثير الفكر الماركسي اللينيني؟
يرد مينا على هذا السؤال في كتابه: (كيف حملت القلم). . .
-الماركسية اللينينية كانت لي قبل كل شيء طاقة حياة جسدية ونفسية.
وفي مكان آخر من الكتاب يقول: (لم أتعلم الفكر الإشتراكي بل عشته، أكلته مع الجوع والعري والخبز اليابس والخبز مع الماء ومع الشاي ومع قطعة بندورة أو حبة عنب. .).
وإن دلت هاتان الإجابتان على شيء، فإنما تدلان على نقل فكر المؤلف الى شخصياته، أو هكذا تبدوان، لتتحول الرواية الى رواية عقائدية، بيد أن هذا لا يعني أن كل من يحمل الفكر الماركسي بوسعه أن يكتب رواية بمستوى رواية الشراع والعاصفة. أو كما يقول هو في الكتاب نفسه: (لو كان كل من عاش على البحر أو فيه أعطانا (الشراع والعاصفة) لكانت عندنا روايات عن البحر بعدد الأمواج. المسألة إذا في التجربة، مع الموهبة، مع الممارسة، وكل إنسان له رؤية للحياة، لكن كل إنسان لا يملك العناصر الكافية لصياغة عالم فني. . ).
ولكن الإشكالية هنا هي إشكالية فنية، وهي إسقاط فكر المؤلف على شخصياته، ليحول دون أن تأخذ مجراها الطبيعي ضمن تصاعد وتيرة أحداث الرواية. غير أن مينا ينفي هذا التدخل في توجهات ومصير شخصياته وهو يقول بهذا الصدد: (من أخطر الأشياء على الصدق التأريخي في المنظور، وعلى الصدق الفني في الإبداع، أن نسقط أفكارنا أو رغباتنا الشخصية على أبطالنا، إننا بذلك نخون الإبداع مرتين، الأولى بإفتقارنا الى الحس التاريخي، والثانية بإنعدام الصدق الفني عندنا. . . . ولم أشأ أن أقحم أو أسقط أفكاري تعسفا، خدمة للايديولوجيا التي أحمل.).
وإذا كانت شخصية الطروسي الشخصية المحورية في الرواية، فإن البحر بوصفه العدو اللدود الأول له، والعاشق الولهان الأول له في آن، فلا مناص للسارد أزاء هذين القطبين المتنافرين، إلآ أن يسعى لإتخاذ البحر موقع يوازي الموقع الذي يحتله الطروسي في الرواية، حتى وإن كان بدرجة أقل. ذلك أن البحر هنا ليس مجرد مادة تنساب فيه المياه، وإنما كائن حي كأي شخصية في الرواية، لا بل أن تأثيره على أحداثها يفوق تأثير أي شخصية في الرواية، ما عدا شخصية الطروسي. وهو مثل صراع العجوز مع السمكة في الشيخ والبحر لهمنغواي، الرامز هذا الصراع مع السمكة الى المرأة، كذلك فإن صراع الطروسي مع البحر، وعشقه له، يرمز الى الشيء نفسه الى المرأة، بوصفها ملكة البحر التي تعادي الإنسان من جهة، وتنجذب اليه من جهة أخرى، مثلها مثل الطروسي الذي يحب البحر ويدخل في صراع معه في الوقت نقسه. وذلك من خلال التعبير عن هذه القطبين المتنافرين في ثلاثة أقوى مشاهد الرواية، وهي مشهد صراع ملكة البحر مع الإنسان أولا، ومشهد تبادل العشق بينهما ثانيا، وإنسلاخها عن ذيلها في تحولها الى المرأة من أجل الشاب الذي أحبته ثالثا. متجسدا الأول في الأسطورة التي قرأها للطروسي أحد البحارين، متذكرا إياها لعدم أنصياع الصيادين لنصيحته بألآ يبحروا كون اليوم (فرتونة). والثاني في قول خليل العريان متحدثا عن الطروسي: (ربما أحبته جنية البحر وهي التي تحميه):
ورغب أن يأخذ رأي ابي محمد فسأله:
من أدراك يا أبو محمد أن الطروسي لم تعشقه جنية البحر؟
تفرس فيه أبو محمد مدهوشا وقال:
ممكن!؟
ممكن ونصف، ياما عشقت جنية البحر وياما جننت الرجال وقتلتهم!
والثالث في أسطورة خروج عروس البحر الى البر بعد أن سحرها جمال الأمير الذي رأته، بالرغم من تحذيرها من أنها لا تستطيع أن تصبح من سكان الأرض حتى تتخلص من ذيلها، وأنها بعد أن تشرب السائل الذي يزيل ذيلها ستفقد النطق، إلآ أنها لا تنصاع لكل هذه المحاذير، وتصر على الخروج الى البر من أجل الشاب الأمير الذي عشقته. ولأن يوم زواج الأمير سيكون يوم مفارقتها الحياة، فما كان عليها إلآ أن تغمد الخنجر في قلب الأمير لتتحول ثانية الى سمكة، غير أنها بدلا من ذلك ألقت الخنجر في البحر لتستحيل الى زبد.
أي أن السارد لبلوغ هذا الرمز السحري المضحي بهيئة إمرأة، عمد الى سرد ثلاث قصص مستقاة، أثنتان منها عن الأسطورة، وواحدة من أحتمالية حدوثها على أرض الواقع، ليبلغ سر عشق الطروسي للبحر وخشيته منه في آن. موظفا هذا الرمز من خلال التزاوج بين الواقع والخيال.
تتكرر جملة: (البحر مثل شباط غدار) خمس مرات في الرواية، على لسان أبو محمد، لأبراز مديات تجربة الطروسي الطويلة مع البحر، والوصول الى أبعاد ومعالم شخصيته في سبر أسرار البحر وخفاياه، وبيان شجاعته في خوض المعارك مع الذين يسعون الى التجاوز على قوت رزقه أو قوت رزق الصيادين الذين يصطادون السمك في البحر، والتفوق عليهم، كما في إصطدامه مع أبن برو مثلا. وتجسيد شخصيته لما تتجاوز الشخصية الأعتيادية وصولا الى الشخصية الزورباوية الأقرب الى الخيال، منه الى الواقع.
تأتي في المرة الأولى لتشاؤم أبو محمد من شهر شباط، وهو يقول: (شمس شباط مثل المخباط). ويهرب من حرها أو يضع على رأسه خرقة لإتقاء الزكام. وفي المرة الثانية والثالثة، وهو يحذر في الثانية من (غلينة) شباط ، وفي الثالثة بالرغم من أن الطقس حلو، ردا عل (الجانودي) ولكن لم يأتمن بشباط لأنه من وجهة نظره (غدار). وفي المرة الرابعة من أبي محمد أيضا، للتأكيد على صواب رأي الطروسي من أن فرتونة ستحدث، ولكن الصيادين لم يعيروا أذنا صاغية لنصيحته، وهو يقول: (أما قلت لكم أن شباط غدار؟ الطروسي يعرف أكثر منكم. من الصباح قال أن فرتونة ستحدث، فلما حذرتكم صحتم ( المسلم هو الله) خذوا إذن!).
تكشف هذه الرواية في تناصها مع رواية (زوربا) لكازانزاكي، ورواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي. في الأولى من خلال التعويل في كلا الروايتين على طبيعة العلاقة المتشابهة بين الصديقين، في كون الأستاذ كامل ظلا لشخصية الطروسي في الشراع والعاصفة، والمعلم ظلا لشخصية زوربا في رواية زوربا. وفي الثانية بالإعتماد على الشيء نفسه بين العجوز والغلام في كون الغلام ظلا للعجوز. وهنا تكمن المفارقة، في الحيلة الفنية التي يلعبها مينا، بجعل المتعلم ظلا لغير المتعلم، سعيا لتقديم التجربة على التعليم، أو أفضلية نجاح الأول على الثانية. وهذه الأفضلية لم تأت عن فراغ، بقدر ما هي الأخرى مقرونة بفكره الماركسي، بإعتبار كلا البطلين الطروسي وزوربا، يتعاملان مع الآلة، الأول مع المركب والثاني مع المنجم. أما العجوز في الشيخ والبحر فبالإستناد الى التجربة الطويلة.
وإذا كانت رواية الشراع والعاصفة، تفيض بعدد كبير من الشخصيات، ورواية زوربا بعدد أقل، فإن رواية الشيخ والبحر فيها شخصيتان فقط، وهما شخصيتا العجوز والغلام، ولا يظهر الغلام الذي يؤدي الدور نفسه للمعلم والأستاذ، بوصفهما ظلا للطروسي وزوربا، إلآ في بداية الرواية ونهايتها. ولا تكشف الشراع والعاصفة في تناصها مع رواية الشيخ والبحر في دور الظل الذي يؤديه الأستاذ للطروسي، أو في هذ الجانب فقط، وإنما تتناص معها في جوانب عديدة أخرى. إذ كلاهما الطروسي والعجوز يتحليان بقوة العزيمة، ويعشقان البحر، ويصارعان معه. العجوز من أجل الحصول على السمكة الكبيرة، والطروسي من أجل إنقاذ الصيادين والمراكب من الغرق. مخاطبا العجوز السمكة، بأن له صبرا كصبرها، وفي حبه لها بهذه العبارة: (أيتها السمكة إني أحبك كثيرا ولكني سأصرعك حتى الموت قبل أن ينتهي هذا اليوم. ومعبرا الطروسي عن صبر العجوز ذاته، عندما أوشك أن يغرق المركب الذي يقوده، بحثا عن الرحموني ورفاقه الصيادين، مخاطبا نفسه: ( لن أتراجع). أما عشق العجوز للبحر، تفيض به الرواية، على سبيل المثال لا الحصر: (إن المدينة لا تجتذبه، أو أنها تفعل ولكن جاذبية البحر أقوى، كما في هذه الجملة أيضا: (إن عدت الى البحر فسأعود رئيسا أنا أهوى البحر لا الإنتفاع في الميناء). ولعل جملة :(لا الإنتفاع من الميناء)، تصب في تذكير السارد الضمني للمتلقي بأن الطروسي لا يعود الى البحر من أجل مصلحته الخاصة، وإنما من أجل المصلحة العامة.
ومثلما زوربا إذا أجبر على شيء، سينتهي كل شيء، لأنه يعتد بحريته، كذلك فإن الطروسي يتحلى بالإعتداد ذاته، ذلك لأنه ليس الرجل الذي يقبل أن يصطنعه الآخرون. وكذلك إذا رآى زوربا بحرا أو شجرة أو إمرأة حتى لو كانت عجوز، فاللعنة إذا لم تحترق كل المبالغ والأرقام عنده. شأنه شأن الطروسي الذي لا تستطيع إمرأة واحدة أن تضبطه، بدليل أن البحار، وهذا ما يأتي على لسان السروطي له في كل مرفأ إمرأة وخمارة. كما أن كليهما عنيدان وكافران ويشربان ويخافان الدين والبحر مدرستهما لأنه يعلم الإنسان. وفي كلتا الروايتين إمرأتان، بسبب الإعتداء الذي لحق بهما في موطنهما الأصلي، جاءت (أم حسن) حيث يسكن الطروسي على شاطيء البحر، و(السيدة هورتس) حيث يقيم زوربا. ويفترق البطلان في إيفاء عهدهما الزواج بالمرأتين، فإذا كان الطروسي قد وفى لعهده بالزواج من المرأة التي أحبها، فإن زوربا لعدم زواجه بالسيدة هيرتس أدى الى وفاتها. كما أن الطروسي يحمي ويدافع عن أم حسن من الشخص الذي رآه يحوم حول منزلها، كذلك زوربا يدافع عن الأرملة التي يحض المعلم على ربط علاقة معها، يدافع عنها أثناء رجمها سكان القرية بالحجارة. بالإضافة الى إشتراكهما بالسنة نفسها في الحياة، التي تتلخص أصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب: (لقد جاهد الطروسي في أول عمره جهادا شاقا وعمل في البحر والميناء وفي الصيد وأشترى (فلوكة)، ثم باعها وأشترى (شختورة)، وبدل وغير. . . وكان يدخر بعض المال فإذا حلت ضائقة أو أنقطع في مرفأ بدد ما أدخر وأستدان وكان مع ذلك قانعا ما دامت المنصورة ملكه). أما زوربا فقد: ( كان عامل مناجم ويعرف شيئا اوأثنين عن المعادن، ويعرف كيف يكتشف العروق والأنفاق، وكان رئيسا للعمال . . . ولكن الشيطان تدخل لمجرد شعوره أنه أحب ذلك، أنطلق فجأة وأمسك برب العمل الذي كان قد جاء لتفتيش المكان وأشبعه ضربا.).
وبقدر ما يشي بعدم وقوف الحظ بجانب الطروسي الى تجاوزه القدرة الى السيطرة على ما هو أكبر من طاقته في تبديد ما أدخره، بالقدر ذاته يشي عدم إلتفات زوربا الى نتائج حماقاته في طرده من عمله الى عبثيته. ولا تقل عبثية الطروسي عن عبثية زوربا، لا بضرب أبن برو، وإنما بعد وقوع الحادثة، في تصريحه بأن شجاره مع أبن برو، جاء بفعل دفاعه عن البحارة، وقد بلغ شدة غيظه أن شتم أبي رشيد نفسه. (الى هنا قد تبدو المسألة طبيعية)، إلآ أنه أن يضيف قائلا: ( لكنه كان قد شتمه وأنتهى الأمر)، ما يعني أنه برغم ندمه على شتمه لن يتراجع عنه. وهنا في هذا الجانب الذي يدل على العبثية، تلتقي شخصية الأثنين، زوربا مع الطروسي، والطروسي مع زوربا.
ولكي نقترب أكثر الى التناص القائم في شخصية الطروسي مع شخصية زوربا، لا بد أن نطلع الى الأعتراف الذي يدلي به زوربا الى المعلم، بهدف مقارنة معالم وأبعاد شخصيته بمعالم وأبعاد شخصية الطروسي: ( أعترف بأنني كلما تقدمت في السن، أصبحت أكثر طيشا! لا تقل لي أن التقدم في السن يحمل الرجل الى الإتزان! ولا أن الموت عندما يأتي الى أحدهم، فإن هذا يمد عنقه ويقول للموت: أقطع عنقي أرجوك لكي أذهب الى السماء! فكلما عشت أكثر، صرت ثائرا أكثر، لن أستسلم، أريد أن أفتح العالم.).
والطروسي مثل زوربا كلما تطورت أحداث الرواية، أصبح أكثر مغامرة، قد تبلغ أحيانا حد الطيش، كما في مغامرته مثلا في نزوله الى البحر في سعي منه لإنقاذ الرحموني وجماعته، بعد أن ضاعت به ومن معه من الصيادين سبل النجاة في البحر. كما أصبح ثائرا أكثر مثل زوربا أيضا، وتجلو سمات زيادة ثائرته هذه في تحوله من الإنجذاب لألمانيا الى الإنجذاب الى روسيا، ومن ثم الإنتماء الى القوى الوطنية. وكذلك في عدم إستسلامه لضغوطات أبي رشيد ونديم نظمي من جهة، وصراعه مع البحر من جهة أخرى في محاولة منه للعودة الى البحر، مستلما دفة القيادة، ليقابل ومركبته تمخر عباب البحر، رغبة زوربا في فتح العالم.
أما مع الشيخ والبحر كرواية زوربا، تفيض معها بالتناص. وعلى النحو التالي:
- في عشقه للبحر (العجوز) في الشيخ والبحر، مماثلا لعشق الطروسي.
- مثلما تتكرر في الشراع والعاصفة على لسان الرحموني والسروطي جملة: (لو كان معي أحد من البحارة)، أو مايشبه جملة: (لماذا جعلتهم يتركوني وحدي). تتكرر جملة: (ليت الغلام كان معي) في الشيخ والبحر خمس مرات. وكلا الجملتين يعطيان المعنى نفسه.
- (إن لي صبرا كصبر هذه السمكة)، في الشيخ والبحر، تقابل هذه الجملة في الشراع والعاصفة صبر الطروسي الطويل الى أن عاد البحر رئيسا.
- في الشيخ والبحر: ( أيتها السمكة سأظل معك حتى أموت وهي الأخرى معي ستظل، ومثلها: ( أيتها السمكة أني أحبك كثيرا ولكني سأصرعك حتى الموت. يقابل هاتين الجملتين في الشراع والعاصفة، صراع الطروسي مع البحر وبقائه معه عبر العودة اليه، وحبه للبحر وصرعه من خلال إنقاذ الرحموني من الموت.
- (ولكن الرجال لم يخلقوا للهزيمة، قد يتحطم الرجل دون أن ينهزم)، يقابلها في الشراع والعاصفة:( البحر لا يخيف الرجال. ولكن الرجال أقوى من الجبال.
- ( الآن غلبتني القروش إنني أعجز من أخدعها بالهراوة. . لقد تعبت أيها العجوز. ولكن ما الذي هزمك؟ وأجاب : لا شيء أنا ذهبت بعيدا . أنها لم تهزمك. مقابل هاتين الجملتين اللتين تأتيان عى لسان الطروسي بالتعويل على المونولوج: ( أنتصرنا على البحر فأين ملكته؟! و:(كلا أنت الأقوى). قاصدا البحر.
تنقسم الرواية الى ثلاثة أقسام. يتكون القسم الأول من مئة وسبع عشرة صفحة، موزعة على عشرين وحدة رقمية، ويتكون القسم الثاني من مئة وثمان وثلاثين صفحة موزعة على خمسة عشر . أما القسم الثالث فيتكون من مئة وخمس وثمانين صفحة، موزعة على أربعة عشر. وهي بذلك تبلغ مجموع صفحاتها ما عدا المقدمة المكتوبة بقلم سعيد حورانية البالغ عددها ست صفحات، ثلثمئة وأربعين صفحة.
بالرغم من أن الرواية، تبدأ بكلا الوصفين الداخلي والخارجي في آن للعين والقلب، مولدا نوعا من الإلتباس لدى المتلقي، بين أن يكون هذا السرد، أسلوبا من أساليب السرد الموضوعي، أو من السرد الذاتي، حيث يختلط فيه صوت السارد مع صوت الشخصية، بالرغم من ذلك، فإن السرد الموضوعي، والحوار الداخلي (المونولوج) لهما الغلبة في الرواية على الأساليب السردية الأخرى. ويبدأ هذا الإلتباس من السطور الأولى للرواية الى منتصف الصفحة الأولى حيث يبدأ بالسرد الموضوعي من جملة: ( وقد وجد على شاطيء اللاذقية) الى نهاية الرقم الأول. والرقم الثاني من القسم الأول يبدأ وينتهي بالسرد الموضوعي. والرقم الثالث كذلك، إلآ أنه بعد صفحتين من بدايته، تحديدا من جملة: وكان يقول، إذا سافر الإنسان الى: ( لن أتدخل فيما يجري خارجه. يتحول السرد الى السرد المختلط بين صوت الشخصية وصوت السارد. وثمة جمل أخرى من هذا النمط في الرواية على سبيل المثال:
لقد حزر أن رئيس أن رئيس الميناء جاء لغرض معين. .
أو كما في هذه الجملة، بالإستعانة في سرد الشخص الثالث:
ويذكر قولهم (كانت لنا أيام وكان لنا ريس) يقولونها وينفخون متحسرين بغير طائل.
أما بالنسبة للحوار الدااخلي والوصف الخارجي، تفيض بها الرواية.
في الحوار الداخلي: (كيف نعمل مع الطروسي ؟ إن أبا أمين لم ينقل اليه كل شيء، ولم يكن هو بحاجة الى ذلك ليفهم ص40،41.
أو كما في هذه الجملة: (إذا فقدته فقدت حياتي. سأنتحر بألقاء نفسي في البحر).ص114.
والوصف الخارجي:
كان طويلا عريض الألواح، ذا إنحناءة عند الكتفين.
أو هذه الجملة: (الساحة شبه مستديرة، تقوم المقاهي على الأرصفة الثلاثة المحيطة بها).
بالإضافة الى كل هذه الأساليب السردية، يعمد السارد الى إستخدام أسلوب رواية داخل رواية لمرتين في الصفحة (194و231). في الأولى على هذا النحو:
(وتنهد كمن يستعد لرواية واقعة بعيدة ومؤثرة).
والثانية: (وعندما بدأ الحكاية أخيرا طلب زبون فنجات قهوة).
أما في أسلوب الأصوات المتعددة، فإن السارد أكسب الحرية لكل شخصياته أن تعبر عن رأيها، سيما الشخصيات الأربع: الاستاذ كامل، وأبو حميد، وخليل العريان، وأبو محمد. الأول من خلال أواصر الصداقة التي تربطه بالطروسي، وإرتباطه باليسار، وإنجذابه الى روسيا، ضد ألمانيا. والثاني عبر إنجذابه الى ألمانيا حتى لو كان هتلر على خطأ، متمسكا بهذا الرأي الى نهاية الرواية، والطريف في شخصية أبي حميد أنه سمح لأحد بائعي الخضار أن يبيع سلعته أمام محله الذي يمارس فيه مهنة الحدادة مقابل أن يؤيد آرائه التي يدلي بها عن ألمانيا وهتلر. كما أن توقه لنشر أسمه على صفحات الجرائد ضمن الأسماء الذين تلقي الحكومة القبض عليهم، وعدم تحقيق رغبته هذه، هي الأخرى تتحلى بالطرافة.
ولا تخلو شخصية خليل العريان بقدر او آخر من الطرافة، بقسمه بروح أبنه (بطرس) بما يلفت النظر، ويثير الضحك، وإبتياع المشروب بالمبلغ الزهيد الذي يكسبه من صيد السمك، وسرده للحكايات بشكل مبالغ وغير مقنع لسامعيها، ما يؤدي الى مقاطعته والتعليق عليها وإستفزازه. أما أبو محمد من خلال إعجابه بحكمة وشجاعة الطروسي والترويج لهما، والعمل نادلا في مقهاه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث