الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية الهوية لدى الفكر اليساري

عزيز الهلالي

2006 / 6 / 15
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


يبدو أن اليسار من خلال مرجعياته السياسية منفتحا على المكونات الثقافية، كروافد تراثية تجسد العمق الحضاري للمجتمع. ولعل كونية المواثيق والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان شكلت فضاء خصبا للدفاع عن المكون الأمازيغي، لشرعنة حضوره كدلالة التميز الذي يحظى به الخطاب السياسي اليساري. لقد كان لليسار الجديد دور مهم في إعادة طرح المسألة الأمازيغية من منظور ديمقراطي تقدمي بحيث ثم التأكيد على احترام الحقوق الأمازيغية والثقافية للمكون الأمازيغي للشعب المغربي وتم تبني الطروحات الديمقراطية الثقافية الأمازيغية(1).
وأمام تراجع أداء اليسار داخل المشهد السياسي، بسبب عوائق تمس عدته النظرية وممارساته السياسية، تفاعلت عوامل أظهرت امتدادا قويا لتيارات إسلامية بشقيها: المساهمة في اللعبة السياسية والعاملة خارجها. والأكيد أنها تمكنت من إطلاق ديناميتها التعبوية، موظفة بذلك الإرث الديني حركت بموجبه المخيال المجتمعي. وتوسيع قاعدتها على هذا النحو، بات يقلق اليسار بشكل جدي.
وفي إطار المراجعة النقدية لليسار بمختلف مكوناته، ا لتقت مشاريع أوراقه المرجعية إبان مؤتمراته التي تشكل أعلى سلطة تنظيمية، حول نقطة أساسية: التنصيص على اعتبار المكون العربي الإسلامي والمكون الأمازيغي كهوية منفتحة على قيم العصر تجسد مبدأ التسامح والتعايش. هذه النقلة من أجل الحقوق الثقافية الأمازيغية التي تجسدها التشريعات والممارسات الثقافية والاجتماعية إلى اعتبار الإسلام عنصرا مساهما في تحديث المجتمع وتحريره من وصاية حراس التقليد والتخلف والجمود الفكري(2 ). يعد نقلة سيكولوجية في اتجاه تكسير الذعر الشديد la phobie الذي يستشعره اليسار من تهمة تسلل الميتافيزيقا داخل ثنايا خطابه السياسي.
وداخل هذا السياق، أي من تغييب المكون الديني إلى استحضاره بفعل إكراهات الخطاب السياسي الإسلامي، ترتسم ا لصورة التي تؤطر المشهد السياسي لليسار إزاء العلاقة السياسي والديني على الشكل التالي: يختفي المكون الديني أحيانا كقيمة لا معنى لها، ويظهر أحيانا أخرى تحت ذريعة الانفتاح. وبين هذا وذاك تتسلل قراءات سياسوية تختزل في ذاتها سلطة الحجز والوصاية للشأن الديني، سواء من جهة الجهاز الرسمي للدولة، أو من جهة جماعات إسلامية، الأمر الذي يفضح ازدواجية اليسار في التعامل مع الإشكالية الدينية. فهو يحرس المسافة بين السياسي والديني حفاظا على نقاء مرجعيته السياسية والإيديولوجيا، ثم تلتبس هذه المسافة في مخياله السياسي والثقافي. فأحداث 16 ماي التي هزت شعور وآلام الشعب المغربي أظهرت تيارا استئصاليا دا خل صفوف اليسار يغذيه الانفلات العقلاني والسياسي، فتصريحات قادته جاءت متشبعة بنفحة استعلائية تكشف توتر خطابه السياسي، إذ المطالبة باستئصال الفكر الأصولي بكل تلاوينه باعتباره المسؤول عن أحداث 16 ماي، يعكس إلى مدى انتفاء البعد التاريخي والديمقراطي في الفكر اليساري.
أحداث 16 ماي وغيرها من مظاهر الفكر الأصولي، كمسألة الحلال والحرام في الخطاب السياسي لدى "حزب العدالة والتنمية"، ومسألة الرؤيا في النسق الفكري لدى " جماعة العدل والإحسان"...تضع اليسار في مربع سلفي دفاعي محض، فهو من جهة يعمل على بلورة تأويل يقصي الدين عن الحقل السياسي(3)، ومن جهة أخرى، يدرج الدين في خطاباته السياسية وفق استراتيجية دفاعية تفرضها الضوابط التي تجعل من الارتباط بالقيم الدينية أمرا لا مناص منه(4 ).
أمام هذه المواقف الملتبسة لليسار إزاء الأمور الدينية التي تشكل قوام المجتمع وثقافته، هل يجوز التعامل مع إشكالية الفصل الديني عن السياسي بتكثيف سمك الخطاب الإيديولوجي أم بإنتاج قراءات حداثية متطورة ؟ ثم ما المقصود بالفصل أيعني ترسيم الحدود ضدا على قيم مترابطة ومتكاملة؟ ونحن إذ نتحدث عن الهوية الوطنية هل يجوز الفصل بين السياسي والأمازيغي؟
إن أطروحة الفصل تتلخص هشاشتها تحت الحجج التالية:
1- لا يمكن تمثل نشاط سياسي يحتضن جزء من الواقع ويفصل الجزء الآخر، نحن إذن أمام تقسيم استعماري: الواقع النافع والواقع الغير النافع. لعل التملص من النظر إلى الواقع، واقع الإسلام، لا يعبر عن الرغبة في مصادرة التاريخ، ولكن يمنع من أي فرصة واقعية لتحقيق الإصلاح(5 ). إذ لا يمكن تصور سياسة من خارج قيم المجتمع وتراثه، وأي سياسة تضع في إطار التسويق الإعلامي والمجتمعي ثقافة المجتمع وتاريخه الحضاري، تراكم في ذاتها أسباب موتها.
2- ميزان التوازنات على مستوى الخريطة السياسية يميل نحو تقوية المد الإسلامي عبر توظيفه للرأسمال الرمزي الديني في الاختراق والاستقطاب وكسب التعاطف.
فمن انتخابات 14 نونبر 1997 إلى أخرى 27 شتنبر 2002، قفز " حزب العدالة والتنمية" من 9 مقاعد إلى 41 مقعدا. أي بنسبة المرور من2.76 % إلى 12.61 % مع أن الترشيح لم يغط إلا نصف الدوائر المحلية تحت إكراهات السلطة. ونحن على أبواب 2007 يتحدث استطلاع للرأي أنجزه المعهد الجمهوري الدولي/ الأمريكي، عن إمكانية فوز " حزب العدالة والتنمية" على نسبة من الأصوات قد تصل إلى 47%. ثم هناك احتياطي كبير لم يلج بعد اللعبة السياسية، لكنه حاضر في عمق الشارع بأشكاله التضامنية وبصرامته التنظيمية وبخطابه الشعبوي/التقليداني، وهو مافتىء يرسل إشارات من خلال تنظيمه للأيام المفتوحة تعزز موقعه وحضوره.
البعد الديني يشكل المدخل الروحي والرمزي والفكري للأمة، والتعاطي العلمي والمنهجي معه كإشكالية حقيقية، ينتشله من واقع المفتت والسكولاستيكي والجامد والتكراري(6). وهذا الجهد النظري للتعامل مع الإسلام كبنية منفتحة على الحداثة والديمقراطية، ينقله من عتبة الفصل إلى عتبة التكامل. والتكاملية كمفهوم complémentarité يمكن استعارتها من نظرية العلوم الكوانطية، تخدم بشكل ملائم أبعاد الإشكالية. وموسيقيا أجد في مثال الاوركسترا أمرا يروقني جيدا، إذ بالرغم من اختلاف الآلات الموسيقية، فإن المعزوفات تتكامل في وحدة متناغمة ومنسجمة.
واعتقد أن حزب التيارات " حزب الاشتراكي الموحد" يجسد هذا التكامل ( الاختلاف في إطار الوحدة) من خلال التيارين:"الفعل الديمقراطي" و"حرية المبادرة الديمقراطية"، بالرغم من كونه مازال يتلمس عمق استنبات الفكرة في الأذهان والأعيان، لكون إرادة التعامل مع سيكولوجية تأسيس التيارات تستوجب المراهنة على عنصر الزمان والنضج السياسي في تصريف الاختلاف داخل الوحدة، والوحدة داخل الاختلاف. في مؤتمره المقبل والذي سينعقد أواخر دجنبر2006، تؤكد معطيات كثيرة حول إمكانية تأسيس "تيار أما زيغي"، والحزب بهذا المعنى يكون منسجما تاريخيا مع مبدأ طالما ناضل ودافع من أجله. بودي أتساءل هل يمكن انبثاق من رحم نفس الجسم "تيارا إسلاميا"، وهو أمر يضع الحزب في محك التعاطي مع إشكالية الهوية الثقافية، خصوصا وان مرجعية اليسارالإشتراكي الموحد قبل الوحدة الاندماجية، قد أقرت في مؤتمرها الأول ما يلي:
- تشجيع الاجتهاد والبحث في التراث والفكر الإسلامي، حتى يتمكن هذا الفكر من المساهمة الإيجابية والفعالة في عملية الانتقال الديمقراطي.
- جعل الإسلام عنصرا مساهما في تحديث المجتمع وتحريره من وصاية حراس التقليد والتخلف والجمود الفكري.

الإشكالية الدينية كما يهيكل حقلها الجهاز الرسمي، تلقى متابعة صامتة من قبل اليسار. فهل نفهم أن الدولة تقوم بدور الإنابة، يتماهى دورها مع دور الأحزاب اليسارية بخصوص الأمور الدينية؟ أليس الانتقال الديمقراطي في المفهوم اليساري يشمل كل المكونات المجتمعية، كيف يبقي إذن، المكون الديني من اختصاص الدولة تتنازع في شرعيته مع التيارات الإسلامية؟ هل يدفن اليسار رأسه في الدولة إزاء الإشكالية الدينية لمواجهات التيارات الإسلامية، مستفيدا من تقزيم دورها ومن تقليص رقعة مشاركتها في ا لدوائر الانتخابية؟، إذا كان الأمر كذلك، وللأسف فإن هذا هو الميل السائد، فتعامل اليسار مع المكون الإسلامي يزداد تعقيدا. المطلوب إذن، بلورة استراتيجية علمية واضحة المعالم داخل الجسم اليساري تقطع مع لغة الفصل والاختزال والديماغوجية السياسية من أجل التصالح مع الذات ومع الشارع المجتمعي والسياسي. وبالمنطق الحقوقي بناء معادلة متساوية بين المكونات الثقافية للارتقاء ببنية الحزب اليساري، إذ الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن يقوم إلا على أرضية اجتهادية وتحديثية وديمقراطية تمس كل مناحي الفكر والواقع، فقيم السياسة لا يمكن أن تصدر عن شيء آخر غير معتقدات المجتمع وإيمانه، وإلا أصبحت السياسية نفيا للهوية الوطنية(7).
وانتشال الفكر اليساري من عوائقه النظرية والشعاراتية مدخل إيجابي لهدم الثنائيات الميتافيزيقية: السياسي في مقابل الديني، و السياسي في مقابل الأمازيغي.. فالمكونات المجتمعية متكاملة ومترابطة من حيث المقاربة والتفاعل، لكونها تمثل ماهية المجتمع وعمقه الحضاري.

الهوامش:

1- منظمة" إلى الأمام" النشأة..التطور..الامتداد، منشورات الأفق الديمقراطي، ص139.
2- مشاريع وثائق المؤتمر الوطني الأول لليسار الاشتراكي الموحد.
3- الطوزي محمد، الملكية والإسلام السياسي في المغرب. ترجمة م حاتمي، خالد شكري، نشر الفنك، 1999. ص، 128.
4- المصدر نفسه، ص 128.
5- غليون برهان، نقد السياسة. الدولة والدين. المؤسسة العربية للدارسات والنشر، بيروت، 1993، ط2، ص15.
6- أركون محمد، الفكر الإسلامي، قراءة علمية. ترجمة هاشم صالح. مركز الإنماء القومي، بيروت، 1996. ط2، ص29.
7- غليون برهان. المصدر نفسه. ص395.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي


.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |




.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ


.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا




.. ما المطلوب لانتزاع قانون أسرة ديموقراطي في المغرب؟