الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (3)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 4 / 28
الادب والفن


سكون مشوب بصوت رياح باردة تهب على الساحل البحري بمحاذاة سلسلة أقفاص كبيرة لصيد الأسماك، وقطع من الأخشاب الطويلة والعريضة مُخَلّفة على الأرضية، مقابل البحر الذي كانت أمواجه لحظتها مَسْجية، لكنها في حالة مد وتسمع صوت أمواجه الخفيفة الهادئة تلطم حاجز من حجارة متراكمة على امتداد المكان، ظهر منزل صغير بُنِي من الحجارة والطين والأخشاب الصلبة أطل على ممر مؤدٍ للساحل وبدا وسط العتمة معزولاً عن الدنيا، ظهر عند الأفق خيط أحمر من الضوء تدفق عبر السماء وغطى المنزل من على بعد فبدا وكأنه رقعة مشتعلة بها النار، سرعان ما زال تأثير هذا الضوء مع بدء تسلل العتمة ليبزق لون المنزل الرمادي، وقد انْبعثَت منه رائحة قهوة تحترق عبق بها المكان، زال السكون لدى تصاعد صوت الرياح الطارئة مع بداية انتهاء فصل الصيف مما يمهد لعودة الغواصين من البحر بعد شهور الرحلة المضنية لتدب الحركة في المنزل الصغير بعودة رب الدار الغائب مع الآلاف من الغواصين، حين يبدأ يسود البرد ماء البحر فتوهن أجسام الغاصة، وساعتها يتساوى ليل سبتمبر بنهاره وهنا يبدأ الشتاء ويظهر التغيير في الطقس وتبدأ عودة الحياة الطبيعية لدى الزوجة الصغيرة جوري، تقبع في المنزل، تطبخ وتغسل وتضاجع الزوج العاطل عن أي عمل سوى ارتياد المقاهي الساحلية ونادراً ما يخرج للبحر لصيد الأسماك رغم تحريضها الدائم له على ذلك، لكنه يكتفي بهز رأسه بعلامة مميزة لتذكيرها بأنه اكتفى من البحر لأربعة شهور بعيداً عن اليابسة، التي لم ير خلالها سوى السماء اللامعة بالزرقة كالبحر، وبطيور مهاجرة محلقة من بعيد يسقط بعضها في البحر لشدة الإنْهاك، وبعضها يَعْلَق على صواري السفن، فتسمع عند فترة ما قبل النوم نحيبها الذي يتشاءم منه بعض البحارة.
كانت روائح البحر في الأيام الصيفية الحارة أَرِيجاً تسافر معها محلقة على المنازل وتطوف أرجاء الحي، كانت جوري مُنْغَمِسةً حينذاك من خلال طفولتها النزقة بالبحر، بدت كنَفْحَة منهُ، والساحل والمغامرات الصبيانية، كانت تتعرى من ملابسها وتسقط من فوق حافة رصيف عين المياه إلى البحر، شأنها شأن الأولاد، لم تكن تعي أَنَها في أحد الأيام ستبقى وحدها في الدنيا، كريشة في الهواء، رسمت لها الحياة درباً لم تَنْتَقِيه ولم تتكشف معالمه بعد. انْطَلقت بعدها مرحلة الطفولة في دروب متشعبة متنافرة الاتجاهات، دفعتها بعيداً محتفظة برعونتها حتى لحظة وفاة والدتها التي كانت وحيدتها، إذ لم تعرف معنى الأب، ولم تفهم ما يَعْنِيه لأنها لم تسمع به، من عالم الطَيْش نبتت دنياها، وفي خضم عنفوان الرعونة الصبيانية وُلِدَت على ساحل المحرق، لم يسبق لفتاة أن ذهبت للبحر، وركبت السفينة باستثنائها، لم يسبق لفتاة سواها غيرت معالم الأنوثة، إلا هي، كانت تركب السفينة مع من كان في حكم خالها، كما لقنتها والدتها قبل رحيلها، لا تنسى ليالي البحر، والمَبيت حتى الفجر، وزخات المطر تهطل وسرعان ما يصاحبها تيار هوائي ليتحول البحر في لحظات إلى إعصار ثم انفجار للسماء عن فورة ماطرة مصحوبة بعاصفة هوائية مع الرعد والبرق، تذكرت تلك الأيام عندما رحلت والدتها نورة الصوري، بَكَت حتى جفت دموعها إلى أن جاء من يدعي الخال، وهمس في أذنها " أضحــى التنائي بديلاً مــن تدانينا وناب عـــن طيب لقيانا" كان دائماً ما يحمل معه كتابه وأوراقه، ولم يترك حدثاً يمر دون أن يَشْعرُ فيه شْعراً، من هذا العالم الكوني المُبْهَم خرجت للدنيا جوري الصوري.
قطرات من الماء بحجم حبات الرمل علقت بجسدها وتساقطت على سجادة الغرفة لدى خروجها من الحمام عارية، إلا من قطعة قماش بيضاء لفت بها وسطها فيما تركت صدرها مكشوفاً، برزت حلمتا نهديها المتناهين الصغر وكأنهما لصبي بعكس أردافها المكتنزة وفخذيها المُزْدَهرين عند الخصر الضيق، الذي أضفى على جسدها رشاقة بارزة، وقفت أمام المرآة القديمة الملصقة على الجدار من دون إطار وقد تهشم جزؤها السفلي فيما أصاب السواد والصدأ أطرافها، تتأمل ذاتها بشغف من يكتشف شيئاً مثيراً في جسده، اعتادت جوري هذه الوقفة مع جسدها كلما خرجت من الحمام، أو عند نهاية مضاجعتها لأي من الزبائن في الدار البحرية وقت خروج زوجها من المنزل الذي لم تشعر معه بأنها تزوجت رجلاً اكْتشف أسرار جسمها المُشْتَعل طوال الوقت للمضاجعة دون رغبة منها إلا للمال، كانت تقضي الوقت بين تأمل جسدها غير مدركة بأنه هو ذاته الجسد الذي تحمله وبين شعورها برغبة سرية في مداعبة بظرها الذي لم يستطع أي من الرجال الوصول إليه رغم اختلاف جنسياتهم وتعدد محاولاتهم، إذ ظل عصياً على الرضوخ للشهوة التي لا تصل لها إلا بمداعبة نفسها وهو الشعور الدفين في قاع أعماقها الداخلية التي لم تصرح لأي كائن بشري منذ الولادة بالتقلبات المتعاكسة بداخل هذا الجسد، مما يدفعها كما هي اللحظة الحالية للاغتسال والتعري والوقوف أمام المرآة تتفحص تضاريس الجسد للحظات قد تَقْصر أو تَطُول، فيما الأفكار المتلاحقة بداخلها تكاد تخلق شخصيات متعددة لهذا الجسد الثلاثي الأبعاد.
"بداخلي كائن جِنْي مَسَخني في جسد جني آخر انْدلق منه شعوري بأني امرأة ناقصة، كل شيء بداخلي يتوق للمضاجعة الشرجية، ولدت في الجسد الخاطئ، أظُن ذلك"
ظل هذا الصوت وغيره من الأصوات المشككة تفرز أنيناً صاخباً يمتلك حواسها ويشدها للبحث عن حقيقة هذا الجسد الذي لا تمل من تأمله، تبدأ رحلة البحث عن أسراره في غياب الزوج راشد لشهور أربعة في رحلة الغوص، لتعبث مع الآخرين بوازع من شهوة مدفونة بالأعماق تشبه البركان في تضاريس هذا الجسد عبر فوهته الملتهبة، تنبعث منه رائحة نتنة وقت الدورة الشهرية المحبوسة والتي لا يظهر شلالها من الدم إلا كل ستة أو سبعة شهور، في البداية كانت تخشى الحمل ومع الوقت لم تعد مكترثة به، رصدتها منذ سنوات المراهقة ولم تجرؤ على البوح مما يعنيه هذا اللغز الجسدي المبهم المسجى داخل كيانها وتغطيه بتلك القشرة الأُنْثْوية مصهورة بحرارة تفوق طاقتها على التحمل لتفرز عند بدء موعد كل دورة شهرية متأخرة، أبخرة مصاحبة لمشاعر دفينة مضمونها الغضب المكتوم والرغبة في الموت لتنتهي من عذاب هذه الشهوة المحبوسة والتي لم تفلح كل مضاجعات هؤلاء الرجال وأولهم الزوج راشد في إخْمادها، ظلت فوهة البركان تنصهر محدثة بداخلها شقوقاً، تراكمت عبر سنوات النضج لتتحول إلى هذا الكيان الجامد في هذه اللحظة وهي تقف أمام المرآة القديمة المتهرئة تسمع الأصوات الصاخبة بداخلها، لا شيء من حولها يبعث على الاهتمام سوى انتظار يوم آخر في منزل دلال القوادة تنهي ما بدأته من رحلة البحث عن اللغز.
كان الوقت مساءً والليل طويلاً والوحدة في هذا المنزل الصغير المهجور عند أطراف الساحل تبعث فيها رغبة بإحداث شرخ في جسدها، كثيراً ما عبثت به في الليالي المماثلة، خاصة في الأوقات الشتوية التي على وشك أن تَحِلَ، حين يتسلل البرد الزمهرير من فتحات النوافذ وحتى الجدران الطينية، سكون مطبق على المكان إلا سعال متقطع من حين لآخر للمرأة الأخرى والدة زوجها في طرف من المنزل المعزول كأنه نُبّذ من بين كل المنازل المتاخمة للطريق المتعرج المؤدي لدار دلال.
" بعكس التيار أسير، أكل ونوم ومضاجعة ولا أشعر بجسدي هذا إن كان لأنثى أو لذكر، لم أَتَق للنساء مثلي"
ملكوت الليل يوحدها مع ذاتها فتطرق لصوت قادم من قاع الروح كأنه الكهف فُتح وخرجت منه تلك الأصوات المتعددة تطرح الأسئلة وتجيب عليها، تردد العبارات بلا أدني معنى سوى الشك إن كانت جوري هي أم كائن آخر في شكل امرأة، حتى الذات لا تطيق التوقف عن البحث في ذات الجسد أم في آخر.
"قلت لذاتي أكثر من مرة، أنا في الجسد الخاطئ.
ما معنى ذلك؟ انتهى بها المطاف للتدثر بالفراش على الأرضية الباردة، شعرت ببرودة الأرض تقرصها رغم الدثار أسفلها، رنا إلى سمعها صوت رياح خفيفة في الخارج تنبئ عن تغيير في الطقس، مدت يديها نحو أسفلها تحسست سائلاً لزجاً تدفق للتو، كان الظلام قد أغرق الغرفة وفاحت رائحة القهوة المعتادة التي دأبت والدة زوجها رقية على إعدادها في مثل هذه الليالي الطوال، مطت شفتيها ورددت.
" لعنة، لن أغتسل حتى الصباح"
في النهار فتحت عينيها عند الضحى وخرجت لفناء الدار وكانت السماء غائمة فوق رأسها، والمرأة العمياء المسنة الأخرى عكفت على الأرض تكنس بمشط خشبي آثار براز الحمام اليومي الذي كان سبباً في تقوس ظهرها لكثرة انْحِناءاته طوال اليوم في هذه المهمة التي تتحسس من خلالها الأرض بيدها قبل أن تكشط براز الحمام وتضعه في صفيحة معدنية متهرئة.
" أعطيني سبباً يبدد دهشتي من إهدار رأسك على الأرض كل يوم لأجل حمامات عاهرة لا يَنْفَكن يَتبرَّزن على الأرض.
تنبهت رقية العمياء المعروفة في الحي بهذه الكنية، ذات الستين عاماً وما فوق إلى خطوات جوري قبل أن تسمعها، جلست على الأرض، أسقطت جسمها عمداً عليها وبرز وجهها البني الملبد بخيوط الزمن كاشفاً عن تجاعيد تفضح مدى التعب والإنْهاك الذي واجهته في حياتها المديدة، وقفت الفتاة عند قدمي رقية التي انْثَنى ظهرها على الأرض وكأنها ستسقط عليه واستكملت جوري عبارتها التي قطعتها للتو فيما اكْتفت الأخرى بصمت متأرجح.
" تعبت وأنا الح على ولدكِ الغائب أن يَسّمَم هذه الطيور الحقيرة لكنه تحجج بأن الله خلق الحمام ليتبرزن على رؤوسنا وله في ذلك حكمة.
بينما همت المرأة المسنة على النهوض وهي مشدودة بصعوبة للأسفل، بادرت الفتاة تمسك بيدها لترفعها عن الأرض.
" لا تشغلي بالك بالحمام وتهيئي لعودة زوجك الذي كِدْتُ أنسى صورته وتمحى من رأسي، الشهور المنصرمة ضاعفت من شعراتي البيضاء وفطرت قلبي، كم شهراً مضى والحر والشمس والغبار والرطوبة أكلت من جسدي وما زال ولدي غائباً.
دقات متلاحقة على الباب، لحظات وتلتها خطوات متعثرة يُشْتَم منها الارتباك تتقدم في الفناء، أرهفت رقية السمع بدقة متناهية وكأنها تتحسس بأذنيها الأشياء وتلامسها، كانت تصغي للصمت المطبق، فيما جرى تبادل النظرات بين جوري والشاب الأسمر النحيل الذي رد بسرعة متناهية على سؤال العمياء المسنة.
" الساقي.
وقف الشاب ذو السحنة الرمادية والملامح البحرية والتضاريس الناتئة على وجهه واجماً يتأمل المرأة المسنة فيما جمدت جوري في وقفتها ولم تفارقها ابتسامة شيطانية حملت نكهة السخرية من الموقف ألمُشتبك، كانت العجوز رافعة رأسها، محنية وجهها ورقبتها تجاه الشاب كأنها محدقةً فيه وقد سبرت الصمت بروح هادئة ظهرت في عبارتها التي ردت بها عليه بنبرة مشككة وهي تنظر للسماء كما لو أنها تريد تأكيداً من راعي السماوات كما هي كنيته دئماً لديها.
" كم صبي هناك في الحي يوزع الماء؟ صوتك غريب.
طفقت الحيرة تغزو ملامحه وهو يتطلع حوله منتظراً من جوري أن تسعفه وقد انْشغَلَت بتأمل وجهها في مرآة صغيرة تحملها في قبضة يدها.
" يخلق من الصوت أربعين.
قالت المرأة المسنة عبارتها ثم نهضت على اثرها ودَلفَت إلى الداخل تسحب جسمها المُنهك بعد أن رمت على الجدار المكنسة المصنوعة من سعف النخيل وقد كادت تصيب قدم الشاب الذي تحرك بحذر وهو غاضباً من تصرف جوري بإظهار عدم مبالاتها به.
مرت ومضة زمنية سريعة اندفع في نهايتها الصبي نحو الفتاة وأمسكها بكلتا يديه وراح يعصرها بقوة، تركته مستسلمة ببرود وعدم اهتمام كما لو أرادت اختبار نواياه وإلى أين سينتهي به المطاف؟ مرت لحظات وإذ به يمد يده لأسفل فستانها ويهم برفعه للأعلى وفيما يده تنزلق أسفلها إذ بصفعة قوية تدوي على وجهه وتكاد تعمي عينيه مطلقاً صرخة في الفراغ، منسحباً للوراء وقد بدا مرتاعاً من المفاجأة، ابتعد واتجه نحو شجرة لوز تدعى السدرة وأستند على جذعها وهو ينظر تجاه الفتاة التي أشارت بيدها نحوه مهددة.
" لو علمت دلال بجرأتك هذه لدفنتك في البحر وأَنتَ حي، آه هذي السماء لا تخبئ سوى المرارة والمغفلين والمعتوهين، أخبرني ما الذي أغراك وأنت تعرف سطوتي.
كانت أصابع يده اليمنى تعبث بأوراق الشجرة وعيناه مسمّرتَينِ على جوري التي ما أن انتَهت من عبارتها حتى تقدم خطوة منها قائلاً بنبرة حذرة وصوت تشوبه الحشرجة.
" دلال طلبت حضورك اليوم قبل أذان العصر ورجائي لا تخبريها عن تصرفي الغبي.
ركزت نظرتها عليه وانفرجت أساريرها فجأة وبانت أسنانها البيضاء تلمع، شدت عنقها للأعلى وتحركت في مكانها وتوجهت له بالكلام في لهجة أخف من قبل.
" كل يوم يأتي بك الهوى إلى هنا، ما الذي حدا بك اليوم لِتَجرأَ يا عيوني يا ولد عزوز؟
"أسمع الشباب في الحي يحكون القصص عَنْكِ وعن الجندي البريطاني الذي لا تفارق سيارته منزل دلال، يرونك تخرجين معه في السيارة فشعرت بالغيرة.
انْتَهى من عبارته وجرى مهرولاً نحو الباب، فتحه بسرعة وخرج كمن يلوذ بالفرار تاركاً الفتاة تغرق في موجة من الضحك وتهز رأسها من يقظة مجنونة اسْتقَت منها الأفكار وتركتها تدور حول نفسها في دوامة من البلادة الطارئة، استفاقت فجأة على صوت طائر ينوح، لَمحَت حمامة على طرف الحائط المتداعي قابعة بدا عليها الإنهاك لم يمنعها ذلك من التقاط قطعة حجر من الفناء وقذفت بها نحوها وهي تصرخ.
"عاهرة.
أصابت القذيفة رأس الطائر مباشرة وعلى إثرها وبسرعة هائلة تهاوت إلى الأرض، ظلت لومضة ترتعش ثم جمدت مكانها، في ظل الحائط بعيداً عن الشمس التي كانت ساطعة في ذروتها تلك اللحظة بعد أن غابت لبرهة بفعل السحب المتراكمة مخلفة العتمة، نظرت جوري للحمامة المسجية في التراب وشعرت بمسحة من حزن دَلفَت على إثره للداخل تاركة الطائر مكانه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تصف نوال الزغبي علاقتها بالصحافة ؟ ??


.. سألنا الناس في مصر: ما هو الفيلم أو المسلسل الذي لا تمل منه؟




.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - وزير التعليم يستعرض غدًا نتيجة تق


.. الفنان أيمن عبد السلام ضيف صباح العربية




.. موسيقى ورقص داخل حرم المسجد في عقد قران ابنة مفيدة شيحة يثير