الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الخاتمة

دلور ميقري

2020 / 4 / 28
الادب والفن


عائشة ( أو بحَسَب لفظنا للاسم: عيشو )، كبرى عمتيّ، ماتت وكانت في منتصف الحلقة السادسة من عُمرها. هذا يعني، أنني عشتُ في زمنها لنحو ثلاثة أعوام. مع ذلك، يُدهشني دوماً ما انطبع في ذاكرتي من صورتها وكأنما كانت عجوزاً طاعنة في السن؛ بقامتها القصيرة، المحنية، وبسحنتها المحفورة بالتجاعيد كطبق نحاسيّ. وإنهما مشهدان، انطبعا عن العمة في ذهن الصبيّ ذي السنوات الثلاث.
في المرة الأولى، اصطحبت عائشة ابنَ أصغر أشقائها إلى دكانٍ يقع بالقرب من منزلها كي تشتري له حذاءً جديداً على العيد. والدتي، أكملت المشهد بالقول متضاحكة: " لم تكن تحفل بأحد سوى أسرة ابنتها الوحيدة، التي بقيت لها في حياتها. لما عادت من الدكان، وتبيّن أن الحذاء كان صغيراً على قدمكَ، فإنها وضعته في حقيبتها، قائلةً أنه سيكون حتماً على مقاس قدم أصغر أحفادها! ".
في المرة الثانية، كنتُ على موعدٍ مع مشهد مرعب وغير مألوف لطفل في ذلك العُمر المبكر. إذا شاءت أن أرافقها إلى مقام مولانا النقشبندي، المتربع على هضبة بأعلى الحي، تحيط به القبور من كل جانب ـ كما لو كان راعٍ مع أغنامه ذات الصوف الأبيض. عمتي، اصطحبت معها أيضاً امرأةً من أقارب والدتها، تُدعى هوري؛ مر معنا ذكرها في هذه السيرة. كلتاهما كانت بخمار الحِداد، الأسود اللون، الملازم لها بسبب فقدان فلذة الرحم. ما أن صارتا تحت قبة المقام، إلا وشرعتا بالنحيب. تحول الأمرُ من ثم إلى نوبة رهيبة من النواح والعويل، حين راحت المرأتان تمرغان وجهيهما بالبسط والسجاجيد، المفروشة على أرضية الضريح.
عدا فقدانها لابنتين، عاشت عائشة لتشهدَ مأساةَ كبرى حفيداتها. هذه الفتاة، كررت حكاية خالتها المغدورة، كَولي، التي كانت مهووسة بالطرب والأفلام السينمائية. مبتدأ الخبر، لما تسللت الحفيدة خفيةً من البيت كي تحضر فيلماً مصرياً مع إحدى قريباتها. ما أن نم الخبر إلى والدتها، إلا ودب الرعب في قلبها خشية وصوله لمسامع الأخوال. عند ذلك، تم حجز الابنة في حجرة المؤن على سبيل التأديب. مبالغة في إخافة الفتاة، كانت الأم تخاطبها من وراء باب الحجرة بأن الأخوال أخذوا علماً بالموضوع. في اليوم التالي، استعادت الفتاة حريتها. بيد أنها ما لبثت أن أضحت على منقلب آخر: عقلها، أصيب بلوثة من شدة الخوف والوهم. الغريب، أن نوبات الجنون لم تكن تدهمها سوى في " فصل المكدوس "؛ أي حينَ تقوم النساء، في آخر الصيف، بحشو ثمار الباذنجان المسلوقة بالجوز والفليفلة الحارة ثم ترصف في وعاء زجاجي وتغمر بزيت الزيتون.

***
بيد أنني أتذكرُ أيضاً يومَ رحيل عائشة، مع كونه انحصرَ في مشهدٍ واحد: كنتُ ووالدي مستندين إلى جدار المنزل، المقابل لمنزل العمة الراحلة. بعد قليل، تحرك من مكانه عليكي، صهرُ العمة، كي يقف بجانب أبي ومن ثم راحا يتحدثان. فيما بعد، لما وضع الوجيهُ بديع ديركي مفتاحَ داره الكبيرة بعهدة الأب، كان زوجُ ابنة أخته يظهر هنالك على السهرة. عندما صرتُ في عُمر المراهقة، سألت والدي ذات مرة عن عليكي ولِمَ لم يعُد يأتي لزيارتنا. فرد الأب عابساً: " إنه رجلٌ لئيم! ".
مبعثُ تساؤلي، آنف الذكر، مرده صداقة وثيقة عقدتها مع الابن الأصغر لعليكي؛ وكان يصغرني بحوالي عامين. قبل ذلك، كنتُ بالنسبة لشقيقه الكبير بصفة المراسل. إذ قضيت الكثيرَ من وقتي في منزلهم، الذي كان شبيهاً بخلية النحل. ابن عليكي ذاك، كان مسئولاً في حزب كردي ينشط بشكل سريّ، وكان أكثر ضيوفه هم رفاق من شباب شمالي سورية، طلبة جامعة بشكل خاص. ذات مرة، كنتُ في منزل العمة برفقة شقيقتي الكبيرة، وكانت تنشط هي الأخرى في الحزب. كان الوقتُ عشية شتاء، اجتمعت فيه الأسرة بحجرة الجلوس. لما قرع أحدهم بابَ المنزل، هُرعت كالعادة كي أرى من يكون. إذا بي أمام رجل طويل القامة، له شارب ثخين يحتل نصف مساحة وجهه. سألني بلهجة عراقية: " هذا منزل السيد إيزولي؟ ". أومأتُ رأسي بالإيجاب فيما بصري مرسلٌ إلى سيارة مرسيدس سوداء، كانت تقف على مقربة وقد ظهر في داخلها رجلٌ متوسط العُمر على عينيه نظارة سوداء. عدتُ إلى الحجرة، لأخبر قريبي بالزائر الغريب. والده، علّق بالقول دونَ أن ينظر إلى أحد: " مؤكد أنهم من المخابرات! ". لاحقاً، تبيّن أن ذلك الرجل الجالس في السيارة، لم يكن سوى جلال طالباني، الزعيم الكرديّ، وكان قد أتى من بيروت بغيَة عقد لقاءات مع بعض الشخصيات السياسية، المقيمة في دمشق.
لقد مر سياسيون غيرهم بالمنزل، والبعض منهم أقام فيه فترة طويلة أو قصيرة بسبب الملاحقة الأمنية. هذا الأمر، يذكّرُ المرء برجل عائشة، الذي كرر حفيده سيرته الكفاحية. بينما والد هذا الأخير، عليكي، تقمّصَ شخصيةَ أبيه، حمو جمّو؛ قاطع الطريق الأشهر في تاريخ الشام. كأنما القدرُ رسَمَ للرجل نهايةً جديرة بتلك الحياة، الموصوفة: عليكي، سيُعثر عليه ذات صباح ميتاً فيما كان يسرق موادَ بناءٍ من عمارة قيد الإنشاء في حي مساكن برزة. وفق شهادة الطبيب، أن الرجل قضى نتيجة سكتة قلبية. الخبر، احتاجَ أيضاً لحاشية. فإن مواد البناء كان من المفترض أن تُسهم في تشييد طابق علويّ للمنزل، كونه لم يعد يتسع لأسرة الابن البكر. قبل ذلك، تم تحويلهما إلى محلين تجاريين، الحجرتان المطلتان على الجادة. إحداهما، سكنت فيها خالة عليكي، خاني، منذ فترة طلاقها من آكو لحين وفاتها. في هذا الشأن، قيل أن ابن الأخت سطا على كمية من الحلي الذهبية، كانت العجوز الراحلة تخفيها في حجرتها؛ أنه بثمن تلك الحلي، أمكنَ تشييدُ طابقٍ آخر للمنزل!
عليكي، توفي بعد عامين من إحالته على التقاعد. كان يعمل مستخدماًَ في أمانة العاصمة، وهيَ آخر وظيفة امتهنها في حياته الحافلة. أما امرأته، وكانت تماثله في العُمر، فإنها رحلت عن الدنيا بعده بأقل من عامين.

* يليه الكتاب الخامس من هذه السيرة السلالية ـ الروائية، وهوَ بعنوان " بعضٌ من أعوام ريما "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل