الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعةُ أعوام ريما: الفصل الأول/ 1

دلور ميقري

2020 / 4 / 29
الادب والفن


[ على غير المتوقع، ظهرَ اليوم في الحارة شابٌ يكتسي بملابس الجند الفرنساوي، أخذ يسأل المارة وأصحاب الدكاكين عن منزل الشقيقين، " آكو " و"ريما "، مؤكداً أنه أخوهما الأصغر. ذاك كان " حِدّو "، الذي حالفه الحظ في موطن الأسلاف، زمن الحرب؛ كونه الوحيد من عائلة قريبنا، " عليكي آغا الصغير "، الناجي من وباء الريح الأصفر ].
هذا الخبرُ المقتَضَب، المذكِّر صياغته بالأسلوب الصحفي، سُجّل بخط جميل في دفتر جدي لأبي، الزعيم السابق لحي الأكراد الدمشقي. وقد وردت المعلومة ضمن أخبار أخرى، مع إشارة عامة للشهر والسنة بالتاريخ الهجري، الموافق لمثيله الميلادي والمحدد بأيار/ مايو من عام 1926.
قبل الاستطراد في السرد، يتعين عليّ الإشارة إلى مصدر آخر لأخبار ذلك الزمن؛ وهيَ ريما نفسها، جدتي لأمي. ففي أوان دراستي الثانوية، اصطدمتُ مع الوالد في خلاف عائلي ما أجبرني ذلك على ترك المنزل والانتقال إلى مسكن الجدة، الكائن على حد برزخ السيل، المنحدر من الجبل إلى السفح وصولاً لمصبه في نهر يزيد. في إبّان الفترة تلك، اعتادت جدتي على رفد حافظتي بمشاهد من حياتها الحافلة، بما في ذلك مآسي الحرب العظمى، التي شهدت جانباً منها في موطن الأسلاف ضمن ملابساتٍ كانت، في آنٍ معاً، غايةً في الإثارة والمأسوية.
***
القادمُ إلى منزل السيد " صالح "، زوج ريما، من جهة الجادة المُعَرّفة باسم " أسد الدين شيركوه "، عليه أن يسير على رصيفها الوهميّ، المشرف عليه صفٌ من المحلات التجارية، لحين وصوله إلى إحداها، وكانت تقابل مدخلَ الزقاق المطلوب، المعرّف بدَوره باسم العشيرة الآله رشية. " جروس "، كان صاحب ذلك المحل؛ رجلاً في الثلاثين، شديدَ السمرة حتى ليشبه عبيد النوبة، المستخدمين في دار " شمدين آغا " الفخمة، المحتفية بها الجهةُ الغربية من الحي. غبَّ علمه بمراد الشاب ذي الملابس العسكرية، قال له جروسُ مبتسماً: " صالح جارنا، الجدار بالجدار. سيارته في إزاء المنزل، وهيَ ستكون دليلك! ".
الزقاق، شأن أمثاله في الحي، يجرُّ رجلَ السائر فيه على أرض منبسطة، تبدو كأنها جزء من الجادة، ثم يأخذُ شيئاً فشيئاً في الصعود حتى بلوغه أسنة صخور جبل قاسيون. لكن الشاب الغريب، حدّو، لم يكن عليه الارتقاء إلى ذلك العلو. ففي منتصف الزقاق تقريباً، وجد السيارةَ الموصوفة من لدُن البائع، وبحال من الأحوال ما كان ثمة مركبة غيرها. كذلك لاحَ لعينيه، القاتمتين والحادتين، ما يُشبه ربوة صغيرة، مظللة بشجرةٍ ما، فظن أنها صدرُ الزقاق. باب منزل أقاربه، كان ينفتحُ على ممر عتم كأنه قنطرة، حظيَ أيضاً بعدد من الأبواب. فيما بعد، سيلم الغريبُ بمعلومةٍ؛ وهيَ أن تلك كانت أبواب بيوت عدد من الجيران، المشكلين حلقة من القرابة تنتمي للعشيرة الآله رشية.
ما أن لبى أحدهم نداءَ الطارق على الباب المطلوب، إلا وهبّ في أنف هذا الأخير عبيرُ أزهار حديقة الدار؛ وكانت أشجارها المثمرة تتراءى من وراء الجدران، فيما تهمي أغصانها إلى ناحية الزقاق. مَن فتح الباب، كان شخصاً يصعب تحديد عمره، برغم الشيب في رأسه الغزير الشعر. لاحقاً، سيعلم الغريبُ أيضاً أن ذلك كان " حاجي "، شقيق صالح الكبير، وأنه يشكو من إعاقة ذهنية.

***
" ماما، ثمة شخصٌ عسكريّ بالباب، يزعم أنه أخو امرأة أخي "، خاطب حاجي والدته في بلادة. ثم أردف بنفس نبرة اللامبالاة: " لكن منظره يوحي بأنه بدويّ! ". قبل أن تفغر الأم فاها، إذا بامرأة شابة تظهر عند باب المطبخ، قائلة بما يُشبه الصراخ: " أخي حدّو؟ ". ثم ما لبثت أن هرولت بنفسها نحو الباب، كي تستقبل أخاها غير الشقيق. بقيت برهة في مواجهته، تكاد لا تصدق أن هذا الشاب، المكتمل تقريباً ملامح الرجولة، هوَ حدّو: لقد شاهدته آخر مرة في نهاية الحرب، ثمة في موطن الأسلاف، وكان آنذاك لما يختتم بعدُ دزينة من أعوام عُمره.
" السيدة شملكان "، حماة ريما، كانت إذاك في أرض الديار، متربعة على جزة خروف للتمتع بأشعة شمس الصباح الدافئة. سمعت بكاءَ كنتها، وسرعان ما تحوّل لنوبة جنونية من النحيب والعويل. بثقل جسمها وضعف صحتها، لم يكن بوسع الحماة القيام لتهدئة المرأة التعسة، التي تفجرت منها على حين غرة ذكرياتُ الراحلين من أسرتها بضربة واحدة، غادرة، من الوباء.
لكن هوَ ذا رجل المرأة الملولة، صالح، يطل من باب حجرة نومهما، المنفتح على أرض الديار. كان قد نام عند الفجر على أثر سهرة مجون، قضاها مع أصدقائه، هناك في مركز المدينة. هُرع حالاً نحو زوجته، ليرى مندهشاً شاباً غريباً، يقف بالقرب منها حائراً مرتبكاً. برغم علامات النوم على هيئته، تفطّن إلى ماهيّة هذا الغريب: " أنت حدّو، أليسَ كذلك؟ "
" نعم، وأعتقد أنك صهري صالح؟ "، رد حدّو بنبرة مبتهجة مع تأثره بحالة أخته. عقبَ العناق والقبلات، قاد صالح ابن عمه إلى مجلس السيدة شملكان، فقدمه إليها بلهجة احتفالية. ريما، وكانت قد هدأت ثورة حزنها، ما عتمت أيضاً أن نهضت كي تقابل أخيها بالعناق والقبلات وأيضاً بالمزيد من العبرات.

* مستهل الفصل الأول/ الكتاب الخامس، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل