الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لو أن مسافراً في ليلة شتاء: متاهات القارئ في تأليف الرواية

علاء موفق رشيدي

2020 / 4 / 30
الادب والفن


لو أن مسافراً في ليلة شتاء : متاهات القارئ في تأليف الرواية

القراءة، هي اقتراب من شيء في طور الصيرورة.
إيتالو كالفينو.

( لو أن مسافراً في ليلة شتاء، ترجمة حسام ابراهيم، دار المدى، 2018 ) هي الرواية قبل الأخيرة ل( إيتالو كالفينو 1923 – 1985 )، والتي كتبها في العام 1979. يعتبرها الكثير من النقاد فاتحة لأدب ما بعد الحداثة، كما أن الكثير من الروائيين والأدباء المعاصرين يحيلون إليها كتجربة طورت في طريقة التعامل مع الحكاية، البناء الفني للرواية، الأسلوب اللغوي المستعمل. سعى الروائي كالفينو فيها إلى تجريب علاقة جديدة بين النص والقارئ، ولذلك تعتبر "القراءة" الموضوعة الأساسية لهذه الرواية.

رغم أن رواية (مسافراً في ليلة شتاء ) سابقة على آخر إبداعات كالفينو التنظيرية، أي كتاب ( ست وصايا للألفية القدامة )، إلا أن المترجم حسام ابراهيم يعتبر الرواية تجسيداُ روائياً لما سيكتبه كالفينو في وصاياه الفنية الستة، التي تحدث فيها عن "السرعة" و"الخفة" و"الدقة" و"الوضوح" و"التعددية" و"التماسك". يرى كالفينو أنه في عالم يفتقر للكمال، يبقى الفن فيه هو العزاء بمحاولة التغلب على حسرة النقص.

الشخصية الرئيسية في الرواية هي القارئ نفسه، القارئ محاولاً قراءة رواية ( لو أن مسافراً في ليلة شتاء )، على مدى عشرة فصول، كل فصل فيها مؤلف من قسمين. القسم الأول مسرود بصيغة المخاطب " أنت "، وهي موجهة للقارئ تصف سعيه المحموم، وجهود المستمرة أملاً في إكمال خيوط الرواية. لكن القسم الثاني من كل فصل، يؤلف وينقل القارئ إلى بداية رواية جديدة، كأن كل فصل هو رواية جديدة دون أن تصل الرواية إلى متابعة حكايتها حتى النهاية.

( أنت على وشك قراءة الرواية الجديدة لإيتالو كالفينو، لو أن مسافراً في ليلة شتاء، استرخ، ركز. أبعد عنك كل الأفكار الأخرى، دع العالم من حولك يتبدد في اللاشيء. أنت تقلب الكتاب بين يديك، تقرأ بسرعة الجمل على ظهر الغلاف، وعلى الطية، جمل ذات فحوى عام، لا تعني الكثير. هذا أفضل، لا يوجد خطاب يزعم بفضولية وقحة تبليغ الرسالة الذي يجب على الكتاب أن يبلغها بنفسه بصفة مباشرة، والتي يتعين عليك أنت أن تستقطرها من الكتاب )

في كل مرة يكتشف القارئ أنه لم يصل إلى إكمال الحكاية التي قرأها في الفصل السابق، وأن الصفحات التي شرع يقرأها هي فصل جديد من رواية جديدة، يبني كالفينو هذه التداخلات بين فصول متعددة من روايات عدة بطرق شتى. فمثلاً حين يساءل القارئ صاحب المكتبة عن سبب انقطاع الرواية ودخول فصل من رواية أخرى فيها، يجيب بائع الكتب : ( آه أنت أيضاً ؟ لقد تلقيت شكاوى كثيرة. وهذا الصباح بالذات وصلتني رسالة من دار النشر.

انظر في توزيع الأعمال الجديدة الموجودة في قائمتنا تبين أن عدداً من نسخ كتاب " لو ان مسافراً في ليلة شتاء " لإيتالو كالفينو يوجد فيها عيب ويتوجب علينا سحبها من الأسواق. على إثر هفوة في عملية التسفير، اختلطت الصفحات المطبوعة لهذا الكتاب بصفحات كتاب آخر جديد الطبع، هو الرواية البولندية (خارج بلدة مالبورك ) لتاتسيو بازكبال )

هكذا يتلاعب كالفينو في توقعات القارئ : ( قرأت الآن نحو ثلاثين صفحة وبدأت تتشوق للحكاية. عند نقطة ما تلاحظ، وتفكر بأن هذه الجملة ليست بالجديدة علي. بل كل هذا المقطع يبدو لي أنني قرأته من قبل. بالطبع هناك أغراض تتكرر، النص نسيج من هذه التكرارات، التي تصلح للتعبير عن تواتر الزمن )

أراد كالفينو من السارد في هذه الرواية أن يهم بسرد العديد من الحكايات في الوقت نفسه، ليشعر القارئ بأن حول تلك الحكايات إشباع بحكايات أخرى، يمكن لها أيضاً أن تروى، ليشبك فضاءاً مليئاً بالحكايات، حيث يمكن التحرك في كل الإتجاهات مثلما في الفضاء، ليتم العثور دوماً على حكايات كي تروى، وهكذا مهما كانت اللحظة أو المكان الذي ينطلق منه القارئ تعترضه الكثافة ذاتها من المادة التي يجب أن تحكى، إنها تشبه الغابة، حيث تتشابك الحكايات، تمتد في كل الإتجاهات، ولكثافتها تمنع الحكاية الأساسية من أن تروى.

يشبه كالفينو عملية القراءة دون الوصول إلى سرد محكم أو معنى، بالحلم، لأن الذهن الحالم يحاول البحث عن معنى، عن مسار، ما يريده الذهن هو العثور على مسار سردي، على خط زماني، على تسلسل أمكنة يصنع حكايةً أومعنى. يجاهد الذهن في الحلم أن لا تكون الأحداث عبثية بل قابلة للتفسير. وهكذا برأي كالفينو، يصبح فعل قراءة رواية لا تكتمل وتتشعب حكاياتها في كل الإتجاهات، شبيهاً بمعايشة الأحلام المضطربة، التكرارية، الغير قابلة للتأويل.

( مطلاً من على حافة الجرف )، (دون خوف من الريح والدوار )، (ينظر إلى الأسفل حيث تتكاثف الظلال )، هي عناوين الفصول التالية من الرواية، وهي بحد ذاتها عناوين روايات، لكل منها مؤلف متخيل من قبل كالفينو وحكاياتها لا تكتمل.

وفي حين يساءل القارئ المكتبة في المرة الأولى ليفهم سبب تداخل الروايات في الكتاب الواحد، يجد القارئ نفسه في المرة الثانية مضطراً للحديث إلى دور النشر مباشرة : ( عندما دخلتَ إلى مقر دار النشر، وعرضت على موظفي الإستقبال مسألة الكتب التي صُففت صفحاتها خطأ والتي تريد استبدالها، قالوا لك في البداية أنه ينبغي أن تتوجه إلى المصلحة التجارية، ثم، بما أنك أضفت أن ما يهمك ليس فقط استبدال الكتب وبل أيضاً تفسير ما حدث، وجهوك إلى المصلحة الفنية )

وفي إحدى مغامرات الشخصية الرئيسية أي القارئ بحثاً عن الصفحات الصحيحة، يقابل القارئة : ( ها أن القارئة تطل بإطلالتها السعيدة داخل مجال رؤيتك أيها القارئ، بل هي تنفذ داخل منطقة انتباهك، أو بالأحرى، أنت الذي دخلت مجالاً مغناطيسياً لا فكاك منه ولا مهرب من جاذبيته. لا تضيع مزيداً من الوقت، إذ لديك موضوع جيد لفتح الحوار معها، مجال مشترك، فكر قليلاً، بمقدورك أن تستعرض قراءاتك الواسعة والمتنوعة، هيا تقدم، ماذا تنتظر ؟ )

تصبح الرواية رحلة بين هاتين الشخصيتين أي القارئ والقارئة التي تظهر منذ الفصل الثاني من الرواية، رحلة البحث عن تتمة الحكاية، رحلة قراءة وتبادل الآراء حول ما يكتشفان وما يقرآن وما يتوصلان إليه من معلومات في سبيل الوصول إلى نهاية الرواية. ولا بنسى السارد كالفينو أن يخاطب القارئة، كما يخاطب القارئ بالأسلوب اللغوي : ( كيف أنت أيتها القارئة ؟ لقد حان الوقت لهذا الكتاب الذي يخاطب منذ البداية بال " أنت " الذكوري، أن يتوجه مباشرة إليك أنت التي ظهرت منذ الفصل الثاني بضمير الغائب الضروري لأن تكون الرواية رواية، لكي يحدث شيء ما بين ال " أنت " الذكوري وضمير الغائب الأنثوي )

في إحدى فقرات الرواية، يصبح القارئ موضوع قراءة الشخصية الثانية أي القارئة، القارئة تستعرض جسد القارئ كما لو كان فهرس فصول كتاب، أحياناً تطالعه بحب إطلاع سريع ومحدد، وأحياناً لمساءلته وتنتظر أن يأتيها منه جواب صامت. من زاوية قصص الحب، تبدو ( لو أن مسافراً في ليلة شتاء ) رواية تعارف وحب بين قارئ وقارئة كل منهما يبحث عن إكمال رواية لا تكتمل، إلا لتقاربهما أكثر فأكثر.

(لو أن مسافراً في ليلة شتاء ) هي رواية عن الحكاية، ولكن هي رواية عن " القراءة " أيضاً، تحوي الرواية العديد من التنظيرات حول فعل " القراءة "، ونظرية التلقي، مما يحدو بالمترجم حسام ابراهيم أن يكتب عنها بأنها نموذج في دراسات نظرية القراءة حيث عملية التلقي لعبة بي خيال المؤلف وخيال القارئ الفعلي، حيث يبث المؤلف خطابة عبر شيفرات اجتماعية وثقافية وغيرها ليقوم القارئ الفعلي بحل هذه الشفرات. كما يترك المؤلف فجوات نصية فيما يقوم القارئ الفعلي بسدها من خلال عمليات التنبؤ والإستعادة لوحدات النص.

في الفصل الأخير من الرواية يجمع كالفينو مجموعة من القراء ليتناقشوا ويتحدثوا عن الكتب والقراءة، يتحدث الأول كيف عن استحالة قراءة الكتاب نفسه مرتين، فعند كل قراءة يشعر بأنه كما لو يقرأ الكتاب للمرة الأولى : ( هل أنل الذي أتغير بإستمرار وأرى أشياء جديدة لم أتفطن إليها من قبل ؟ أم أن القراءة بنية تتخذ شكلاً بتركيب عدد كبير من المتغيرات ولا يمكن لها إذن أن تتكرر مرتين حسب الرسم نفسه ؟ في كل مرة أسعى فيها أن أعيش مرة أخرى الأحاسيس التي شعرت بها في قراءة سابقة، أجد نفسي أعيش انطباعات مختلفة وغير متوقعة، ولا أجد ثانية تلك التي عشتها من قبل )

بالنسبة إلى قارئ ثان كل الكتب التي يقرأها تؤدي إلى كتاب واحد، وبالنسبة لقارئ ثالث تدخل الكتب التي قرأها ويقرأها في علاقات من تكامل، فتصبح بعض النصوص استنتاجاً أو تطوراً، أو نقضاً أو شرحاً أو نصاً مرجعياً، لنصوص وردت في كتب أخرى. بالنسبة لقارئ خامس فإن اللحظة الأهم عنده هي التي تسبق القراءة، أحياناً يكفيه عنوان ليشعل فيه الرغبة في كتاب ربما غير موجود، أما القارئ السادس فالخاتمة هي الأهم : ( الخاتمة الحقة، الأخيرة، المخفية في الظلمة، نقطة الوصول التي يريد الكتاب حملنا إليها. نظري يحفر بين الكلمات محاولاً أن يلمح ما يلوح من بعيد، في الفضاءات التي تمتد إلى ما وراء كلمة " انتهى " )

علاء رشيدي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟