الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دعاء في جنح الليل

معاذ جمايعي

2020 / 4 / 30
الادب والفن


بدأت الأحداث تسير بنسق سريع، عندما علم الناس أن الخروج من المنزل صار مستحيلا، وأن البقاء تحت سقف البيت أكثر ضمانا لسلامة الجميع.
قال الرجل: أخرج إلى المتجر ربع ساعة يوميا وأعود سريعا.
قالت المرأة: أعقّم البيت أولا لسلامتنا، ثمّ أطهو الطعام.
قال الولد: سألعب في غرفتي وأنعم بدفء فراشي دون أن يطلب مني أحد مراجعة دروسي.
هكذا تفاعل أهل مدينتي مع حالة الفيروس وانتشاره السريع. فيروس لم يضرب كل السكان، لكنه جثا على صدورهم وأثر على الجانب النفسي لكل مواطن، وقام بتغيير سلوكياتهم وعاداتهم اليومية. صار إلقاء التحية يتم على بعد أمتار، واقتناء لوازم البيت من غذاء ومواد تنظيف وغيرها يتم باحتراز وأخذ الحيطة والحذر اللازمين. كل ليلة نرقب نشرة الأخبار ونتساءل: هل ارتفع عدد المصابين؟ كم صار عدد الوفيات؟ مر الأسبوع الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الشهر... وحتى بعد الشهر لم يتغير الوضع، بل ضل على حاله.
يملك أهل مدينتي إيمان العجائز، فقد دأبوا على الفطرة، الطيبة والبساطة. فهم أهل الجبل، وليس مثل غيره من الجبال، إذ يحمل معه أسرارا لا يعرفها الكثير، ضلّت خفية، يستحيل فك رموزها بكل سهولة، ولو تطلب الأمر دراسات أنثروبولوجية عدة.
عودت قسوة الطبيعة ومناخها أهلي على قبول التغيرات الاجتماعية المتعاقبة كما هي. بل عوّدتهم قسوة الأنظمة البائدة وكل أشكال الحرمان والإقصاء والتهميش المتعمدة، على الاستسلام وقبول جميع الأوضاع كماهي. فلا فرق عند أهلي بين استبداد تعاضديات الستينيات، ولا حراك السبعينيات النقابي المجهض، ولا احتجاجات الثمانينيات من أجل الخبز، ولا تصفيات التسعينيات اللاإنسانية، ولا حتى مستهل الألفية الثانية الحاملة لشعار:" بالأمن والأمان لن يحي سوى البنفسجي فقط." كلها عقود متعاقبة حفرت الكثير من الألم في ذاكرة وفي جسد أهلي. كم عشتم من قسوة الدهر يا أحبتي؟
كل شيء مرّ بثقل، بغبن، بقسوة، بفقر، بجوع، بتشرد، بعراء، وأهلي صامدون على هيئة شجر الزان المعمر لأربعة قرون. هم حقا يستحقون لقب الشجعان المرابطين، فحبهم للجبل أسس لعلاقة اندماج فيما بينهم، وزادهم إيمانا وحبا للحياة. وعندما تسأل أحد العابرين ماذا ستفعل من أجل كسب لقمة العيش والأمر قد صار صعبا في زماننا؟ يجيبك بكل ثقة وبلغة مستمدة من ثقافة الأجداد:" يدبّرها من لا ينام الليل."
هكذا كان جواب الشرفاء في مدينتي. ولكني في نفس الوقت كثير التساؤل حول الكيفية التي سيرفع بها عنا البلاء. خاصة وأن أهلي ضعفاء، وغير قادرين على تدبير قوتهم وتحدي مفاجآت الحياة وقسوة الطبيعة. رفعت يدي إلى السماء، وتوجهت إلى إله عادل وكلي ثقة ألا يردني صفر اليدين، ثم بدأت أدعوه دعاء القانط الذي يرجو رحمة ربه بكل ثقة:" إلهي، يا من رحمتنا، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. إن كان هذا ابتلاءك فخففه عنا، وإن كان هذا عقابك فاعفوا عنا، فنحن عبادك الضعفاء. ألمّ بنا الضرّ ولا نملك إلاّ الدعاء، وأهل مدينتي ضعاف الحال، لا يقدرون على تحدّي الوباء، فارحمنا يا رحمان، وأحطنا بعفوك وجودك وكرمك..." رحت أكرر الدعاء إلى أن أحسست بصوت في داخلي يقول: هل تخاف على أهل تشابكت ساقهم مع جذور أشجار الغابة؟ إن امتدادهم في هذه الأرض يصل إلى أبعد مما تتصوره. من أجل ذلك تأتيهم رحمة السماء، رحمة للعصافير، للأشجار، للأودية، للسهول والمرتفعات... كيف لأهل خمير أن يندثروا وعلاقتهم بهذه الأرض تعود إلى ما قبل الكاهنة والزحف الهلالي. كن شجاعا مثل أجدادك، أقدامهم ملتوية مع جذور الأشجار، وأيديهم تعانق قمم الجبال. سيمر الوباء ويطوى في صفحة التاريخ مثل غيره من الأحداث، ولن يبقى سوى اسم خمير شامخا وشاهدا على الوقائع.
جذور أجدادنا وانتماءهم لهذه الربوع أعمق من أن يفزعنا ويهددنا نحن أحفاد " الفلاقة " مجرد وباء عابر. سنتجاوز الأمر بإيماننا... بحبنا لأرضنا... ويبقى اسم خمير شامخا أبد الدّهر...
دمتم ودام عزكم يا أهلي الكرام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا