الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كافتيريات يامن حسين .. الوطنية !

نزار نيوف

2006 / 6 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


اتصل بي يوم أمس الصديق الفنان سفيان السباعي من مدينة حمص السورية ليخبرني بأن جامعة " البعث " في المدينة قررت فصل طالب لمدة ستة أشهر بسبب مقال نشره في "الحوار المتمدن" . ولأني اعتبرت اتصاله إخبارا من جملة الإخبارات التقليدية التي تأتينا يوميا عن الجرائم والانتهاكات التي تقترفها السلطة بحق الناس ، قطعت الحديث عليه وطلبت منه أن يكتب لي التفاصيل بالبريد الإلكتروني ، وأن يوفر دقائق اتصاله الهاتفي لكي أسمع صوته الذي لم أسمعه منذ أكثر من عام ، وليحدثني عن آخر لوحاته . إلا أنه رفض ذلك ، مفضلا أن يقص عليّ الحكاية بلسانه ، وبشيء من الزهو والشعور بالاعتزاز إزاء نموذج من طلابنا لم يستطع " مخطط التقريد " البعثي أن يحوله إلى سعدان آخر في السيرك الكبير الذي كان يسمى حتى وقت قريب .. سورية. ( ملاحظة برسم الأجهزة الأمنية في حمص : هذا التعبير لي ، وليس للأخ سفيان ، فلا تضمّوه إلى قائمة التهم حين تقررون اعتقاله بتهمة الاتصال بجهات أجنبية !).
من سياق الحديث الهاتفي علمت أن المعني بالأمر طالب في الصف الثاني بكلية العلوم يدعى يامن حسين . وهو ينحدر من الطائفة العلوية . وقد قررت إدارة الجامعة حرمانه من الفصل الثاني للعام الدراسي 2005 ـ 2006 بعد جلسة تحقيق معه تشبه جلسة تحضير الأرواح ، تضمنت ـ فيما تضمنته ـ تفكيكا لمقاله بأحدث ما توصلت إليه مناهج علم اللسانيات ، بما فيها منهج نوآم تشومسكي ، خصوصا بعد أن طبع المقال من قبل طلاب مجهولين ووزع في أروقة الجامعة ، وأثار استنفارا أمنيا جامعيا شاملا كما لو أنه منشور سياسي يدعو إلى انتفاضة مسلحة !
ما إن وضعت سماعة الهاتف حتى سارعت إلى موقع " الحوار المتمدن " بحثا عن المقال المعني ، لأكتشف أنه منشور في العاشر من شباط / فبراير الماضي . ويبدو أنه أول مقال ينشره الطالب يامن حسين ، وأرجو أن لا يكون الأخير!
في الواقع ليس " المقال " مقالا بالمعنى التقليدي للكلمة . إنه أشبه بنص سيناريو أعد ليكون فيلما وثائقيا . ولو كنت منتجا لما تأخرت لحظة واحدة في شرائه منه بالسعر الذي يريده ، دون أي مناقشة . وتذكرت ساعتئذ عمر أميرلاي ـ فناننا الكبير الذي برع أيما براعة في فضح عوراتنا وهتك أستار فضائحنا " الحضارية " بسيول " طوفانه " وبعين شاعر أين منها عين امرىء القيس وهو يصور حصانه : مِكَرّ ٍ مِِفََرٍّ ، مقبل مدبر معا ...!
من الصعب تلخيص السيناريو هنا ، وليسمح لي صاحبه أن أسميه كذلك . ولذا أحيل من يمهمه الأمر إلى الرابط أدناه (*) ، لا ليقرأه ويتمتع به كما قرأته وتمتعت به أنا وحسب ؛ ولكن ليبكي من الداخل بملء جوارحه كما بكيت . إنه نص فضائحي ؛ نص عن العار ؛ نص يهتك ما تبقى من قشور أعراضنا الزائفة ، وشرفنا الأكثر زيفا . نص يقول لنا بوقاحة سافرة مليئة بالنبل الإنساني الرفيع : هذه حديقة حيواناتكم التي أرفض أن أكون فيها قردا أو سعدانا !
ثلاث كافتريات طلابية : واحدة للمسيحيين وأخرى للسنة ، وثالثة للعلويين . كل منها لها هويتها وعالمها وطقوسها . في الأولى ، التي يسميها طلاب الطوائف الأخرى بالكاتدرائية ، يصدح طوني حدشيتي ( مطرب " الشعب" المسيحي) ويُمَجّ التبغ الأجنبي المستورد وتتدلى الصلبان مختلفة الأحجام من أعناق كرستين و ميشو؛ وفي الثانية منشد يصلي على محمد ( " نبي الشعب السني" ) وتسود اللحى المرسلة على عواهنها والمحجبات وأربطة المعاصم السوداء والدشداشات أو البناطلين " الشرعية " الواسعة وخواتم الفضة التي تزنر الأصابع؛ وفي الثالثة يصدح علي الديك ( مطرب " الشعب" العلوي ) و يُمَجّ التبغ الوطني من نوع " الحمراء القصيرة " وتلوّح الأيدي ذات المعاصم المزنرة بالأشرطة الخضراء المقتطعة من الأقمشة التي تغطي أضرحة الأولياء العلويين ، والأعناق التي تتدلى منها السيوف " الذوالفقارية ".
إنها ثلاث " هويات " واضحة المعالم لثلاثة " شعوب " بعد نصف قرن من " الثورة الوطنية الديمقراطية البعثية " ، والوحدة الوطنية العصية على الكسر ، وفق آخر تصريح للطبل الأجوف محسن بلال وزير الإعلام ! ثلاث هويات لبلد قاد الدفاع عن حدوده قبل ثمانين عاما مواطن كردي يدعى الجنرال يوسف العظمة ؛ وأسس مجمعه اللغوي كردي آخر يدعى محمد كرد علي ؛ وعرف أكثر من خمسة رؤوساء أكراد آخرين ؛ وكان رئيس وزارئه ، ليس ميسحيا فقط ، بل ومن أصول لبنانية ، يدعى فارس الخوري ـ أحد رموز الاستقلال ؛ وقائد ثورته الاستقلالية شيعيا موحّدا ( درزيا ) يدعى سلطان باشا الأطرش ؛ ووقف برلمانه ذات يوم ، بالاجماع ، ضد نائب أراد أن يكفّر نزار قباني بسبب قصيدة " خبز وحشيش وقمر " !
بالطبع ، كان ذلك كله قبل مجيء " البعث " بثورته الوطنية الديمقراطية ، كما يحلو لبقايا المستحاثات والأحافيرالبكداشية أن تسمي انقلاب حليفهم الأبدي . أي : في عصر الرجعية وأذناب الاستعمار وجواسيس حلف بغداد وشركة نفط العراق ، كما يطيب ـ للمستحاثات إياها ـ أن تسمي عصرنا الذهبي !
في ذلك الوقت لم يكن المسيحي يعرّف نفسه ، أو يعرفه الناس ، بصليب أو بأيقونة مريمية تتدلى من عنقه ، بل بالحزب الذي ينتمي إليه ؛ ولم يكن السني يعرف نفسه أو يعرفه الناس بلحيته أو دشداشته الشرعية أو خاتمه الفضي ، بل بانتمائه إلى الكتلة الوطنية أو حزب الشعب أو انتفاضة أكرم الحوراني الفلاحية ؛ وفي ذلك الوقت لم يكن العلوي يعرف نفسه أو يعرفه الناس بـ " ذو الفقار" الذي يتدلى من عنقه كما لو أنه ذاهب إلى فتح حصن خبير أو للقتال في موقعة الجمل أو صفين مع إمامه علي بن أبي طالب ، أو بعضويته في سرايا الدفاع أو جمعية الإمام المرتضى أو بعلي الديك ، بل بانتمائه للحزب الاشتراكي الذي يقوده " السني ـ الحموي " أكرم الحوراني ، أو الحزب القومي السوري أو "بعث" وهيب الغانم ؛ ولم يكن الشيعي الموحد ( الدرزي ) يعرف نفسه أو يعرفه الناس بشاربيه اللذين يقف عليهما النسر والعقاب ، أو بلفّته أو لحيته ، بل بدوره في الثورة السورية الكبرى وعدد البنادق والثوار الذين هربهم وورّدهم إلى " السنيين " محمد الأشمر وحسن الخراط في غوطة دمشق الشرقية !
في زمن الرجعية الأسود ، وزمن أذناب الاستعمار وعملاء حلف بغداد ، كان مطرب الشعب صباح فخري وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ، ومطربة الشعب لودي شامية والكسندرا بدران ( نور الهدى ) وفيروز وأم كلثوم . وكان شاعر الشعب بدوي الجبل وفخري البارودي ووصفي القرنفلي وعمر أبو ريشه . وفي ذلك الزمن كان زعيم الفلاحين العلويين " السني " أكرم الحوراني وليس جميل الأسد ، وزعيم السنة المدينيين " العلوي " وهيب الغانم وليس مروان حديد أو أبو القعقاع أو الزرقاوي ، وكانت مرجعية المسيحيين فرج الله الحلو أو ميشيل عفلق أو أنطون سعادة ، وليس البطريرك هزيم أو زكا الأول أو الأب الياس زحلاوي ! وفي ذلك الوقت شهد الريف العلوي أكبر حملة في تسمية المواليد الجدد باسم " أكرم " ، بحيث أنه ما من علوي ولد بعد العام 1950 وسمي " أكرم " إلا تيمنا بأكرم الحوراني !
لم يفعل البعثيون إلا أن ردوا الإنسان السوري إلى بداوته ووحشيته وبراريه الأولى ؛ أي إلى الأمكنة التي عاش فيها قبل أن يكتسب شرف الانتماء للجنس البشري وإحساسه بكرامته كإنسان . كانت الطريقة الوحيدة التي اجترحها البعثيون ، وفي مقدمتهم حافظ الأسد ، للإمساك برقاب الناس هي " مخطط التقريد " الذي قضى بتحويل الناس إلى قطعان من القرود والسعادين التي يمكن وضعها في أقفاص وعرضها للفرجة في متاحف التاريخ الطبيعي أو مكاتب السياحة ، باعتبارها عينات ونماذج للإنسان السوري القديم الذي اخترع أبجدية أوغاريت وأنجب زنوبيا التي حكمته قبل أن تتحول تسعة أعشار نساء البعث إلى محجبات و " قبيسيات " ، وقبل أن تصبح مرجعية البعث " العلماني " وزارة الأوقاف وشيخ الشباب محمد حبش وآية الله علي خامنائي والكنيسة المريمية .
قبل حافظ الأسد كنا نحن المنحدرين من الطائفة العلوية نفخر بأننا أكثر مواطني سورية حرية . كنا نفخر بأن الريف العلوي بكامله لم يكن فيه سوى مسجد أو اثنين ؛ وكنا نفخر بأن لحية أكبر رجل دين علوي لا تساوي فلسا إلا بقدر ما يحترم صاحبها نفسه ويبتعد عن دس أنفه في أمور دنيانا ؛ وكنا نفخر بحرية الحب والإلحاد دون أي عاقبة ، ودون أن يتجرأ أي رجل دين على أن يصادر رأينا . كانت حرية المرأة عندنا مضرب الأمثال لكل متنور ، ومدعاة لرجمها بالتغريب والانحلال من قبل ظلاميي الطوائف السنية والشيعية لمجرد أنها تستطيع أن تلبس ما تريد ، وتحب من تريد ، وتتزوج من تريد . ولهذا فخر المنحدرون من هذه الطائفة بأن أول طبيبة في سورية ، وأول طبيبة درست خارج سورية ، كانت جمانة سليمان الأحمد ـ شقيقة بدوي الجبل ، وبأنهم قدموا عشرات المناضلات لحزب العمل الشيوعي كنّ مضرب المثل في الشجاعة والصمود بوجه جلادي حافظ الأسد وسرايا الدفاع !
صحيح أن ثمة تقاليد في الحرية عند العلويين لا تستطيع أي ردة مذهبية أن تصادرها ، لأنها من صلب عقيدتهم أصلا ، ولا منة لرجال الدين العلويين في التسامح بشأنها . ولكن الأكثر صحة أن حافظ الأسد فعل في الطائفة كما فعله في كل الطوائف الأخرى . فوقف وراء أكبر حملة لبناء المساجد في الطائفة منذ أن ولدت قبل 12 قرنا ، رغم أنه ـ ولحسن الحظ ـ لا يرتادها حتى الآن إلا القلة ؛ وكان مع شقيقه جميل وراء أكبر عملية تشيع في الطائفة . وبتعبير آخر : وراء تحويل طائفة تستمد عقيدتها من التقاليد الثورية للمعتزلة ورسائل إخوان الصفا ومدرسة إيونيا الفلسفية اليونانية وإرث القربان المسيحي ، والقرّائية البغدادية ، ولا تؤمن بتسييس الدين ، وتفصل ما هو زمني عما هو ديني ( الدين عن الدولة ) ، وليس لديها أي طقس من الطقوس الدينية ،... إلى طائفة شرع ينخرها السوس الشيعي وتقاليده وطقوسه ، بكل ما يعنيه ذلك من تحويل علي والحسين من قدوتين ثوريتين لصناعة التقدم ، إلى مرجعيتين لاهوتيتين لصناعة التأخر والقهقرى!
ومع هذا كله ، فإننا نراهن على أن مخطط التقريد هذا ، أقلّه في الطائفة ، لن ينجح ، طالما أن هناك شبابا مثل يامن حسين يقاتلون ويواجهونه بشجاعة ، رغم غضاضة عودهم وحداثة تجربتهم ، ويرفضون الارتداد من الطور الآدمي إلى طور السعدان !
تحية إلى يامن حسين ، وكل أبناء جيله الذين يحاربون مخطط التقريد البعثي ـ الأسدي ، واعتذار منه لأني لم أقرأ " مقاله " إلا الآن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=56902








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقترح فرنسي لإيجاد تسوية بين إسرائيل ولبنان لتهدئة التوتر


.. بلينكن اقترح على إسرائيل «حلولاً أفضل» لتجنب هجوم رفح.. ما ا




.. تصاعد مخاوف سكان قطاع غزة من عملية اجتياح رفح قبل أي هدنة


.. أمريكا تدعو فصائل المقاومة لقبول صفقة التبادل وإسرائيل تصر ع




.. الطلاب المعتصمون في جامعة كاليفورنيا يتمسكون بالبقاء في ساحة