الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة

حامد تركي هيكل

2020 / 4 / 30
الادب والفن


أُشتهر للمدة من الخمسينات حتى الثنمانينات من القرن الماضي، عرفه كلُّ من عاش في البصرة تلك السنين. هو رجلٌ متوسط القامة، أقرب الى القصر، ممتليء قليلا، وجهه أحمر، وعيناه زرقاوان. يرتدي ملابس لا تستطيع تمييزها فهي خليط من سراويل وقمصان، ودشداشة بيضاء، لفَّ على خصره حزاما من قماش أخضر، ورفع شَليلَهُ وثبتَّه في الحزام، فظهر سرواله الذي يغطّي ساقيه، ملابسه نظيفة، حافي القدمين، يضع على رأسه كوفيةً خضراء. لا يمكنك أن ترَ وجهه إلا عندما يجلس . وهو نادرا ما كان يجلس. قليلون جداً هم الذين رأوه جالسا يستريح. صورته العالقة في الأذهان لدى أكثر الذين يتذكرونه هو ذلك الرجل المشّاء. رأسه كله مختفٍ داخل كوار كبير، صرّة مكورة من القماش يبلغ قطرها ذراعين، لا يعلم أحدٌ على وجه الدقة ما الذي كانت تحتويه، يقول بعضهم أن بها صاية1 له يعتزُّ بها، وسراويل وغيارات أخرى، يحملها فوق رأسه، حتى صار ذلك الكوار مضربا للأمثال. فاذا كان الشيء كبيرا، أو ملازما لصاحبه، أو عزيزا، قيل عنه كأنه كوار سيد عودة.
يمشي سيد عودة دائما. فهو يعبر القرى حاملا كواره الأثير فوق رأسه، ومتكئاً على عصاه، يضلع في مشيته، ربما كان ينوء به حمله الثقيل. هو موجود في كل مكان. في قرى الجراحي والزوين وخضابوه ومعاوية وحمرينان والمشان وبني سكين والبدران والحلاف. مرةً يسلك الطريق العام ، حيث تسير سيارات الحمل الكبيرة والباصات. ومرةً يسلك الدرب الوسطاني القديم حيث تسير قطعان البقر والغنم في رواحها ومجيئها. ومرة يتبعُ نياسمَ قديمة لا يعرفها إلا هو، فيباغت العشّاق المتخفين بين أسيجة الطين والخوص وهم متلبسين بخلواتهم السريّة التي خططوا لاقتناصها قبل أن يفسد سيد عودة عليهم صفاءها.
يشاهده عمال تصليح السفن في الداكير، حين يمرُّ يتوقفون عن تزييت المحركات العملاقة، ودهان أبدان السفن، وفكّ البراغي الصدئة الضخمة من أماكنها العتيقة. ويرفع عمال تحميل السوس على ظهورالسفن الراسية في نهر الرباط أيديهم تحية له، ويتوقفون عن عملهم برهة قبل أن ينهرهم مراقب العمل الحازم. أما نساءُ خمسة ميل اللواتيَ يتذمرن وهنَّ يفرغن مياه المطر من بيوتهم الى الشارع كل صباح، فيتفاءلن بمروره. الفنانون المشغولون بنقاش محتدم في حديقة نادي الفنون قرب تمثال أسد بابل غالبا ينسون ما كانوا يتحدثون عنه بعد مروره بهم. ويعرفه تجّار الجملة الذين يفتحون خاناتهم فجرا في سوق الخضارة. ويشاهده عمال البناء والحمّالون والجنود الذين يتناولون فطورهم فجراً حول عربات الفطور الحار في أمِّ البروم قبل أن يبدأ مراقبوا البلدية الكسالى بتنفيذ القانون أثناء دوامهم الصباحي. تعرفه الطوّاشات اللواتي تفوحُ منهن رائحة الرشوش والخضيرة وهنَّ يهززن خصورهن الملفوفة بالعباءات حين يلتقيهن وهنَّ عائدات من مكابس التمور. وتضحك المعيديات اللواتي كنَّ يحملن في الصباح الباكر صواني القيمر والروب وقُفَف البُنّي الذي ما زال يلبط تحت دثار من القماش المبلل.
أما أفراد الشرطة الذين كانوا يدخِّنون شتى أنواع السجائردون إكتراث عند مدخل جسر العسافية الحديدي الأخضر، وأمام مدخل الميناء في نمرة 4 ، فغالبا ما كانوا مشغولين عنه بإحصاء سجائرهم. ويؤخّر أبو شاكر سائق العبّارة التي كانت تقلّ الطلبة والعمال والنساء بين الكرمة والنجيبية لحظة انطلاقها انتظارا لوصوله. ويعرفه مسئولوا عربات ضبط السير في القطارات دائمة الحركة قرب محطة القطار اذ يسارعون بتنفيذ البروتوكول المعمول به بدقة متناهية عند مروره، فيرفعون الأعلام الملونة بسياق مضبوط، ويطلقون الصفارات ،ويبطئون حركة القطارات كي يمر السيد بسلام. وخط سير سيد عودة مدروس بعناية.
يقصد سيد عودة المضائف، يبيت فيها، ويأكل ، ويستريح. يعرف سيد عودة كل آداب الأكل والنظافة الشخصية والحوار مع مضيفيه أغلب الأوقات. إذ أنه أحيانا يغضب ويشتطّ. وحين يشتطّ تتدفق من فمه الكلمات تباعا بشكلٍ يصعب معه فهمها.
يخافه الأطفال. ويهدد البالغون صغارهم بسيد عودة. من دون أن يعرف أحدٌ ما الذي يمكن لسيد عودة عمله ، وكيف يمكنه أن يسبب الأذى لهم . ولكن من يدري، فهذا الشبحُ الغريبُ الأطوار، والاستثنائيُّ بكلِّ ما للكلمة من معنى، قد يكون قادرا على إيذاء الناس بطريقة إستثنائية. ولكنه كان مسالما جدا.
ومع خوف الأطفال من سيد عودة، ومع تهديد الكبار لهم به، الا أن الجميع يجلُّونه ويحترمونه. ربما لأنه صار جزءً من المشهد العام . فمن يدري كيف تكون الدروبُ لو لم يكن سيد عودة يسلكها جيئة وذهابا. ويخاف الناس ليس من ضرباته أو هجماته ، ولكنهم يخشون من أن يسبب لهم الأذى، فهو في النهاية سيّد ، وللسيد شارة! ومع هذا فإن بعض المراهقين يتنمّرون عليه، ويستفزونه ويقذفونه بالحجارة، كما يفعلون ذلك عادة مع كل مجنون. ولا يحصل ذلك مع سيد عودة في كل مكان. إذ إن البالغين يمنعون المراهقين من القيام بمثل ذلك التنمر معه.
ومن الطرائف التي تروى عنه أنه كان في الصينخ يقطع الطريق بين مضيفين من مضائف كرمة علي، وبينما هو ماشٍ في هذه الفضوة بدأ مراهقون بالتنمر عليه. ضايقوه، وأغضبوه وأخرجوه عن طوره. طفح به الكيل وغضب غضبا شديدا، وقف أمام صريفة جميلة الأعرابية، وأسقط كواره أرضاً، ورفع كوفيته الخضراء عاليا، ونظر الى السماء، وطلب من الله بأعلى صوته أن ينتقم من رئيس البلاد ، فلا يصبح عليه صباح! تندَّر الناسُ ساعتها وضحكوا على شطط السيد كثيرا. فما دخل رئيس الدولة بسوء أخلاق المراهقين! ولكنها شطحة من شطحات سيد عودة عندما يغضب. الأمر الذي أذهلَ الناسَ صبيحة اليوم التالي، هو خبرُ إنقلابٍ أطاحَ بالحكومة برمتها!
أغلب الناس في تلك الأرجاء وفي ذلك الزمان بسطاء وطيبون. ومن أخطر أعراض الطيبة عندهم أنهم يتقبلون ظاهر الأشياء. فإذا كان سيد عودة مشاءً ويحمل كواره على رأسه، فهذا يكفي . لن يثيروا أسئلة ولن يحاولوا معرفة لماذا؟ وكيف ؟ وأين ؟ بل تقبلوا الأمر على ما هو عليه.
كنت في الصف السادس الإعدادي أحضّر لامتحان البكلوريا، كنت متعبا من الدراسة والحفظ، حتى أنني خشيت على صحتي من السهر والقلق والخوف والترقب. خرجت من بيتنا فوجدته جالسا عند الباب. كان يضع كواره أرضاً، ورأيتُ وجهَه الأحمرَ النوراني، وعينيه الزرقاوين الجميلتين. طلب مني ماءً. أحضرت له الماء ، وشرب. كنتُ أنظر الى هذا الكائن الأسطوري عن قرب. وقع نظري على ساقيه، وعجبت من مشهد الدوالي المتورمة فيهما. منظر مؤلم لم أرَ بحياتي شيئا مشابها له. نظرت الى كواره ، خفت أن أساله. شرب الماء ، ونهض، حمل كوراه، والتقط عصاه، وواصل طريقه.
في تلك اللحظة تولَّد لديَّ إحساسٌ أنه قد تمنى لي بالخير م قلبه. وتولَّد لدي أيضا إحساسٌ غريبٌ وهو إن سيد عودة كان يجول في تلك الأرجاء ليُشبع منها ناظريه، وإنه كان يعلم إن أمورا متلاحقة سوف تحصل عمّا قريب ستغير جمالَ هذه الأرجاء وتسلب منها سلامَها الى الأبد. وهذا ما حصل .
1- الصاية لباس عراقي فاخر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي