الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الأول/ 2

دلور ميقري

2020 / 4 / 30
الادب والفن


بعينيه القاتمتين، المغروزتين في الوجه الأسمر، المقطب الأسارير، راحَ حدّو ينقل نظراته بين أقارب أبيه الراحل. تجهمه، أحيل من لدُنهم إلى نوبة بكاء أخته، المتفجرة بالذكريات المفجعة. لكنهم في خلال تبادل الأحاديث معه، آثروا عدم التطرق إلى تلك الناحية الحزينة، مكتفين بأسئلة عن خدمته العسكرية. من أجوبته، المتسمة بالاختصار والمراوغة، أدركوا أنه شخصٌ صموت. أما أقرب أولئك الأقارب إليه، وهيَ أخته الكبيرة غير الشقيقة، فإنها كانت تعلمُ أن طبيعته مستمدة من جذور والدته الراحلة، وكانت عربية من بدو ولاية ماردين. مع ذلك، كانت له فيما مضى بمثابة الأم الثانية، كونه اعتاد على قضاء أغلب أوقاته في منزل زوجها الأول. كان حدّو يُداعب ابنَ أخته ذا الأعوام الأربعة، لما فوجئ بقدوم المزيد من نساء المنزل وأطفالهن. قالت له ريما مبتسمة، وكانت لحظت دهشته: " أنزلني ابنُ عمك على ضرتين، وكانت ثمة ثالثة مطلقة! "
" عقبى عند أخيكِ "، علّقَ صالح ضاحكاً. هنا، حوّلت المفاجأة مسارها إلى أهل الدار، لما سمعوا قريبهم الشاب يؤكد أنه متزوج سلفاً: " إنها امرأة لبنانية، وكان بودها مرافقتي إلى الشام لولا ظروف الفوضى في البلد "، اختتم كلامه بشيء من الحرج. السيدة شملكان، وكانت تتفرس فيه طوال الوقت، ما لبثت أن سألته عن اسم زوجته. أجاب باقتضاب: " بربارا.. "
" آه، إنها نصرانية إذاً "، هتفَ صالح بنبرة أقرب إلى أن تكون احتفالية. أومأ قريبه برأسه إيجاباً، ثم تمتم موضحاً: " لكل منا دينه "
عقّبَ صالح، مؤيداً: " الطريق إلى الله، مرّ أولاً بنبينا عيسى وقبله بسلسلة من الرسل "
تساءل الضيفُ، بغيَة تغيير الحديث: " ماذا عن أخي آكو؛ ألا يقيم معكم؟ "
" لديه بيته الخاص، كذلك يملك دكاناً يرتزق منه "، ردت ريما. ثم أردفت، تومئ برأسها إلى ناحية حجرات الدار: " ابنه يعيش معنا أغلب الوقت، وذلك على أثر وفاة والدته "
" آه، رحمها الله "، غمغم حدّو متأثراً. لعله استعاد عندئذٍ مأساة عائلته، وفيهم أمه. فطن الصهرُ إلى حقيقة الحال، فشاء بدَوره اختتام الحديث بالتوجه إلى الشاب قائلاً: " لو أردتَ، في وسعنا ركوب السيارة إلى آكو ثم نعود معه لتناول الغداء ".

***
غبَّ ذهاب ابنها مع الضيف، قالت السيدة شملكان لأخت هذا الأخير: " ياه، كيفَ غيّرَ الزمنُ عاداتنا. أتصورُ الآنَ ردة فعل الحاج حسن، لو علم بأن قريبه يعيش مع امرأة نصرانية ". كانت عينا ريما تتابعُ في الأثناء ابنها، وقد أخذ باللعب مع ابن آكو ذي السنّ نفسها. سحبت نظرها من تلك الناحية لتثبته في الحماة، وما لبثت أن علّقت بالقول: " الحاج حسن، هوَ أول من خرق تقاليد عائلتنا حينَ اقترنَ بامرأة عربية من الزبداني. وأخي حدّو أيضاً، والدته بدوية عربية "
" كان لدينا امرأة أخرى غريبة، تُدعى سلمى، اختطفها عمك عليكي آغا الكبير. كانت من الصالحية، وارتبطت بصداقة وثيقة مع والدتك "
" بلى، كانت أمي تتكلم عنها دائماً "، علّقت ريما. ثم ما عتمت أن قالت عابسةً: " ما لم يستطع الحاج حسن فعله، نجح فيه ابنه موسي؛ الذي اقترنَ بابنتك سلطانة "
" ليتَ نازو آلت في حينه لنصيب موسي، لكانت الآنَ هيَ وأسرتها على قيد الحياة "، تمتمت السيدة شملكان وكأنما تتكلم مع نفسها. ما أسرع أن انتبهت لتأثير كلمتها في الكنّة، فربتت على يدها مستطردةً: " البركة فيكم، يا ابنتي. والحمد لله، الذي أعاد حدّو إلينا، وكنا قد فقدنا الأملَ بذلك لأعوام طويلة ".

***
ما لم تجد مناسباً قوله، أنّ السيدة شملكان أملت يوماً باتخاذ الشقيقة الكبيرة لريما زوجةً لابنها صالح. في ذلك الوقت ـ تنهّدت هيَ إبّان استعادتها ذكرياتها ـ كان المنزلُ ينبض بالحياة مع أفراده، المكونين أسرتين متفاهمتين تحت سقفه. كذلك كانت علاقتها مع ربيبتها ليلو، والدة ريما، التي ربيت في حضنها مذ فترة تيتمها وكان سنّها لا يتجاوز العام الواحد. شأن فتيات زمنها عموماً، نضجت ليلو قبل الأوان، لتتعلم على يديّ مربيتها فنونَ الطبخ وأسرارَ العطارة بحيث انعكس ذلك على صحة ونمو ساكني المنزل. في مرحلة لاحقة، وبغيَة رفد دخل الأسرتين، أنشأت السيدة شملكان وربيبتها مشغلاً للخياطة في إحدى حجرات المنزل، ما لبثَ أن ضم فتيات من الحارة. ثمة، كن يعملن جميعاً في سعادة، بينما النسيم المحمّل بعبير حديقة الدار يُحرك من مكانها قطعَ القماش الكتانية والصوفية. الزبونات، وبعضهن من أماكن أخرى في الحارة وحتى من حي الصالحية المجاور، كن يقبلن على شراء الملابس الجاهزة أو يطلبن تفصيل القماش بمواصفات وقياس أجسادهن. آنذاك، كانت ريما صغيرة تلهو في المشغل بالأزرار وإبر الخياطة والتطريز. جمالها المميز، كان يبهر أولئك الزبونات، وكل منهن كن يعبرن عن ذلك بفائض من كلمات الإعجاب وبعضن يرغبن أن تكون البنت مستقبلاً من نصيب ولدها.
لكن حدثاً جدَّ، كان من تداعياته تحطيم سعادة إحدى الأسرتين؛ وهوَ ما جرى الحديثُ عنه عَرَضاً بين الحماة والكنّة: الحاج حسن، كبير العشيرة وزعيم الحي، أراد أن يزوّج ابنه البكر، " موسي "، لابنة عليكي آغا الصغير، البكر. لما اعتذر هذا الأخير، بأنه سبقَ وأعطى وعداً لشخص آخر، عدّ الحاج ذلك اهانة لا تغتفر. بالنتيجة، اضطر والدُ الفتاة إلى النزوح إلى الشمال؛ إلى موطن الأسلاف، الذي ما لبثَ أن امتحن أسرته بمصيبة أكثر هولاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل