الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كهنوت العلم وبسطار التنوير
زاهر رفاعية
كاتب وناقد
(Zaher Refai)
2020 / 4 / 30
كتابات ساخرة
هل خطر في بال أحدكم مصطلح عصابات العلم؟ التشبيح العلمي؟ أو البلطجة المعرفيّة؟
دعونا نتساءَل بجدّية: ماذا لو نحى العلم والقائمين عليه منحى الدّين من حيث وجوب الجهاد لأجل نشره؟ ماذا لو أعلن العلم وجوب تصفية العلماء المنشقين عن ساحة العلم حسب قواعد المافيا؟ أو أقام عليهم حدّ الردّة كما هو الحال في شريعة الدّين؟ ماذا لو تحوّل العلماء إلى سيوف فوق رقاب الكفار بالحتميّة, أو المشككين بالمنهج التجريبي؟ ماذا لو سنّت الدّول تهماً تتعلّق بازدراء العلم, وأقيمت على العامّة عقوبات تتعلّق بتهم المساس بالذات الدوكنزية أو الداروينيّة ؟ وأودعت الناس غياهب المعتقلات بتهمة الجحود بالتفسير المادّي؟ ... والسؤال الأهمّ: ماذا لو حدث كل ذلك تحت ذريعة أنّ المنهج التجريبي المادي في العلم هو الحق الصادق المعصوم الذي يجب الانتصار له بسحق المشككين فيه؟
هذه ليست تخيّلات, هذا هو بالضبط ما يقترب منه القائمون على بعض قنوات اليوتيوب وصفحات الفيسبوك من أنصار التنوير أو العلموية أو الجهر بالإلحاد ومنابر الملحدين, والتي تدّعي الحريّة وأنها "منبر من لا منبر له" بل وتسمّي نفسها "جسور" ويا حبذا لو كانت اسماً على مسمّى, لأنّ المذيع القائم على القناة هددني أثناء المداخلة على الشكل التالي (كان يمكنني أن أغلق الميكروفون خاصّتك ولكن مشكلتنا في القناة هي أننا نؤمن بحريّة التعبير!! . )
الذي حدث يا سادة يا كرام هو أن قادني حظي العاثر الملعون ورأيت حلقة على إحدى تلك القنوات يتكلّم فيها أحد أنصار "التفسير الهرموني لكلمة أنسنة" والذي لا أختلف مع كلامه من حيث المبدأ, ولكنني أحببت أن أدلي بدلوي حول الموضوع المطروح من جانب آخر في المسألة, طبعاً -أنا -ولكن المداخلة باسم مستعار وبالصوت فقط دون كاميرا. وهذا تحديداً ما جعلني أكتشف هول العمق التشبيحي التطبيلي الديكتاتوري لتوجّهات مذيعي وضيوف تلك القنوات. لأنّ ضيفهم الكريم هذا لم يتحمّل فكرة أن يأتِ أحد من الدهماء العامّة الرويبضة -الذي هو أنا- في مداخلة ليناقش فيما قضى العلم ورسوله من الأمر. على المبدأ القرآني (أم تريدون أن تسألوا علماءَكم كما سُئِلَ الشيوخ من قبل) سورة الشوئسمو آية كذا..
وعلى الرّغم من أنّ القناة والقائمين عليها يقومون بدعوة الناس عادة لحضور مثل تلك الحلقات على البث المباشر, ولكنّ الذي اتضح لي هو أنّها ليست دعوة للإدلاء برؤية مخالفة لما يريد ضيفهم أن يتحف به المتابعين. بل هي دعوة فقط لتبجيل ضيف القناة, والثناء على سعة علمه واطّلاعه, وشكره على الوقت والجهد الذي يبذله في سبيل تنوير الأمّة وإخراج النّاس من الظلمات إلى النّور. وبالمناسبة فضيف الحلقة هذا هو من البراعم ذوي ثقافة العناوين وجامعي أسماء المشاهير والكتب, ومن ذوي السـتايل السقراطي أو الأفلاطوني, ويسمّي نفسه "رجل الكهف" وهو إنسان أجوف كالطبل متعجرف وصاحب مكتبة ضخمة تقع ويا للمصادفة المحضة خلفه أثناء بثّ الحلقة, وذلك حتى لا يدع لأحد مجالاً للشكّ بعمق معرفته الموسوعيّة في الفلسفة و العلم والكونيات والأديان والشلولو والمنطق الرياضي وفيزياء الكم والكيف على حد سواء.
لذلك فدعوات بعض تلك القنوات لحشد الجمهور ما هي سوى إتاحة الفرصة لتوجيه الأسئلة من قبل المتابعين لمولانا الفهّامة الفيلسوف آينشتاين العرب وبرتراند راسل زمانه وحامل لواء التنوير. ودعوة الجماهير من أجل كيل المديح للضيف وإظهار الموافقة لطروحاته والثناء على موسوعيته المعرفية, وتوجيه الشكر لهذا العلّامة الكبير الذي تواضع وأنعم علينا نحن الدهماء الرّعاع ببعض من وقته الثمين ومنحنا من فيوض معارفه التي أراد إيصالها لمتابعيه باستخدام منهج البذاءة والعجرفة والغطرسة والنزق وتسفيه وشتم المخالفين له بأفكارهم وشخصهم.
لذلك وعلى حدّ تعبير البلطجيّة, فأنا لم أعرف حدودي, ولم أتكلّم على قدّي, ولم أعرف نفسي بتكلّم مع مين, فقد كنت بالنسبة للحلقة وضيفها كما أسلفت مجرّد "نكرة من العوام الدهماء" الذين (يا خسارة التعب فيهم ... نريد ننورهم لكنهم بهائم ما بدهم يشغلوا مخّهم) وأنني أنا مجرّد شخص حافظ كلمتين أريد أن أتبروظ بهم أمامه!! كل ذلك لأنني كنت قد قمت وبكل "صفاقة" بمخالفته الرأي ومحاولة طرح جانب آخر من المسألة, مما أخرجني عن إجماع الأمّة, وجعلني منكراً لمعلوم من العلم التجريبي بالضرورة, وجاحداً لما جاء في صحيح دوكنز "الجين الأناني" ألا وهو أصحّ الكتب بعد كتاب الدارون "أصل الأنواع" وهو الكتاب الذي تحدّى دارون به المؤمنين أن يأتوا بمثله إن كانوا من الصادقين!
حتى أنّ ضيف الحلقة قال لي بالحرف الواحد, والذي أحسب أنّه -ضيف الحلقة- كان من التلاميذ الذين قمت بتدريسهم مبادئ التفكير العلمي في مادة الفلسفة حين كان أرسطو زمانه هذا في المرحلة الثانوية, قال: (اذا انت ما عندك قدرة استيعاب في الفلسفة والعلم أنا هذه مو مشكلتي, أفكارك هذه بتروح بتحكيها عند الماما مو عندي هون بالبرنامج !! ) .. أيييه, لذلك اختصرت على نفسي وكرامتي الدخول في نقاش مع أحد سلفيي العلم وارهابيي المعرفة من براعم الانتقال من الراديكاليّة الدينية إلى الراديكاليّة التنويريّة, طبعاً مع حفاظهم على مبدأ الراديكاليّة وأسلوبها في كِلا الحالين.
وقد عزوت هذه الطريقة المخزية في التنوير إلى التربية الكهنوتيّة الدينية وإلى التربية العسكريّة السلطويّة التي نشأنا عليها للأسف في بلاد العرب, مما حدا بي لعقد مقارنة توضّح أوجه التشابه التي رصدتها بين الكهنوت الديني التقليدي وبين الكهنوت التنويري. وكذلك بين البسطار العسكري والبسطار المعرفي في حركة التنوير الصاعدة في الشارع العربي هذه الأيّام.
أولاً : بين الكهنوت الديني والكهنوت التنويري:
من مولانا العارف بالله في برامج الكهنوت الديني إلى مولانا العارف بالبيولوجيا أو بالفيزياء في البرامج التنويرية لا تجد ثمّة فارقاً في الحفاظ على مبدأ "لحوم العلماء المسمومة" لأنّه وفي كِلا الحالين يحرّم ويجرّم الانتقاص من القدر المعرفي لمولانا صاحب الأتباع والمريدين واللايكات. وبناء على ما تقدّم, لا يعود معيار التحقق المعرفي يتعلّق بقوّة المنطق والبرهان, بل بالزاوية التي يريد أن يفرضها على الجمهور هذا الإكليروسي (الكاهن), سواء أكان تابعاً للإكليروس الديني أم الإكليروس التنويري والعلمي لا فرق. ...
وباختصار: فالمنهج التنويري عند بعض هذه القنوات يذكّرنا دائماً بالمنهج الديني, سواء من خلال تكفير المخالف واتهامه بالجهل أو الزندقة, وكذا القول بوجوب استتابة الرّعاع الدّهماء الجهلة أعداء العلم والمنهج التجريبي, ثم ختام المداخلة بكلمتين تبرزان الفوقيّة المعرفيّة لهذا "الشيخ أو ذاك "المستنير".
.. آه وأوّاه على أيام الزمن الجميل وسهرات قضيناها ثلاث أو أربع أشخاص خفية نتباحث فيها في قضايا الفكر والعلوم ونتبادل الكتب والمقالات بسرّية دون كاميرات ودون مشاهدين ولا لايكات, ودون تعجرف وفوقيّة معرفيّة ودون محاولة من أحدنا ادّعاء النخبويّة المعرفيّة على حساب الآخرين. ودون أن يتّهم أحدنا الآخر بالكفر بما جاء به أنبياء التنوير, بل كان يكفي أن نتشارك المعرفة بيننا سرّاً حتى نشعر أننا في النّعيم المقيم.
أمّا الآن وعلى بعض هذه القنوات فيكفي أن تبدي رأيك المخالف لإجماع الحضور على نيّة أنّك تودّ فتح باب جانبي للنقّاش في المسألة ولكن من زاوية أخرى, حتى "يقمعك" على الفور بعض حماة الحريّات والاستنارة, من ضيوف تلك القنوات أو مذيعيها!!!
لقد كان طيّب الذكر شخص يدعى "أحمد سيّده" هو أوّل من فتح عيناي وبصيرتي على التنوير والمنهج العلمي والأنسنة , كان ذلك قبل وصول الانترنت لسوريا بزمن ليس بالقصير. عثروا على أحمد ذات يوم ميّتاً في القبو الرّطب الذي كان يعيش فيه في مدينة اللاذقيّة بعد أن نبذه أقرب المقرّبين منه لسنوات, ربّما لأسباب دينية أو لربّما خوفاً من العواقب السلطوية, حيث أنّه -أحمد- كان سجيناً سابقاً من اليساريين الثوريين. ولم يكن أحد يزوره تقريباً غيري مع أنني كنت في تلك الفترة ويا للمفارقة داعية إسلامي وإمام مسجد وخطيب جمعة تحت التدريب. لكنني كنت ألمس في هذا العجوز إنسانية وعمقاً معرفيّاً لم أكن أجده ولا حتى في كلمات النبي محمّد الذي كنت أبشّر برسالته.
كان أحمد يهدي لي الكتب الثمينة القادمة من لبنان عن طريق المهرّبين كما لو أنّها مخدرات, مثل كتاب "الشخصيّة المحمّدية" للشاعر العراقي معروف الرّصافي, والذي أهداني إيّاه مغلّفاً بغلاف "القرآن" للتمويه, وذلك كي لا أتعرّض للمشاكل إذا تمّ ضبط الكتاب معي, حيث أنّ الكتاب كان ولازال ممنوعاً من النشر والتوزيع في سوريا.. المهم ... لولا طيّب الذكر أحمد هذا قد نذر من نفسه -دون انتظاراً من عندي ولا من عند أحد لا جزاءً ولا شكوراً ولا تقديساً معرفيّاً- نذر من نفسه أن ينير قلب شاب متحمّس لخوض الصراع مع العالم في فترة المراهقة, لربّما كنت الآن مجرماً مقدّساً باسم إحدى الآيديولوجيات, والتي أعتقد أنها كانت ستكون "الجهاد" ..
لماذا أعرّج على تلك القصّة؟ كي أقول كلمة: طيب الذكر لأحمد سيّده, الذي كان معلّماً دون أن يقول عن نفسه أنّه كذلك, أحمد الذي لم يوجّه يوماً لا لشخصي ولا لأفكاري إهانة بكلمة واحدة, حتى وأنا أحاول أن أهديه طريق الرّشاد وأثبت له انّ محمّداً قد طار على الحمار حتى السماء السابعة! أحمد الذي كان همّه مثل همّ سقراط, أن ينير العقول من داخل العقول, لا أن يفرض على العقول تقديس شخصه ومعارفه ثم يشتمهم ويسفّه شخصهم وأفكارهم, تماماً كما يفعل أبواغ التنوير على بعض تلك القنوات, والذين نراهم على اليوتيوب, يترفّعون عن العوام ببضع كلمات وعناوين كتب وأسماء شخصيّات يحفظونها ويتسوّلون الإعجاب من خلالها ويشتمون الآخرين بها.
ثانياً: بين البسطار العسكري والبسطار المعرفي:
هنا يحضرني مذكّرة الاتّهام التي وجّهت لي من قبل المحكمة ذات يوم بناءً على التحقيق الذي أجراه معي ضبّاط أمن الدّولة, والذي كانت خلاصته أنّ محسوبكم -أنا- متّهم بتعكير الصفو بين عناصر الأمّة وكذلك النيل من هيبة الدّولة. لذلك فالمقارنة بين البسطار العسكري الذي تمّ نزع الاعترافات بواسطته وبين البسطار المعرفي الذي تمّ إدانتي به على قناة "التنوير" ليس ببعيد.
فمن تعكير الصفو بين عناصر الأمّة إلى تعكير الصفو في المجتمع العلمي, ومن النيل من هيبة الدّولة إلى النّيل من هيبة التجريبيّة في العلم, ومن قدح وذمّ قيادة الدّولة إلى القدح والذمّ المعرفي, ومن "اعرف نفسك مع مين بتحكي-عسكريّاً- " إلى "اعرف نفسك مع مين بتحكي -معرفيّاً-, ومن "راح اشوّفك قيمتك" التي سمعتها من ضباط التحقيق, إلى "راح أشوّفك قيمتك المعرفيّة التي سمعتها من أفلاطون التنوير على القناة" ...
وعليه... لن يبقى في النهاية سوى أن يأتي صاحب رأسمال أو سلاح ليستثمر في هذه العنجهيّة والفوقيّة النّخبويّة المعرفيّة عند التنويريين, حتى نجد هؤلاء المتثقفين أسوأ من الثيوقراط الديني مع العسكر الإنقلابيين, ولربّما سنترحّم ساعتها على الإخوان والعسكر مجتمعين!!! لأنّ الثورة كما قال كارل بوبر هي "فكرة وجدت لها حراباً"
الخلاصة: قال أحدهم ذات مرّة "كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي" هذه العبارة تحديداً وللأسف صارت شتيمة في مجتمع العلم و التنوير اليوم, لأنّ القائمين على العلم والتنوير أصبحوا أشدّ وثوقيّة من المؤمنين, بكل ما تحمل كلمة وثوقيّة من دلالة منهجيّة...
كما أودّ التنويه إلى أنّ عبارة "قم للمعلّم وفّه التبجيلا" تشير إلى وجوب احترام المعرفة كعمليّة بناء للفرد, ولا تعني بأيّة حال الاعتراف بفوقيّة المعلّم الأنطولوجيّة بشخصه!!!
وفي الختام: لا نختلف أن منهج العلم يمنحنا نتائج واقعيّة, ولكن "البلطجة المعرفيّة" قد تكمن في طريقة عرض وفرض المنهج العلمي. فنحن لا نريد أن نهدم المعبد على رأس الكاهن لقتله, ولا نريد جرّه من شعر رأسه ورميه من فوق مئذنة معبده, بل نريد أن نقيم حواراً معه على أمل أن نلتقي معه عند نقطة ما تمنح الجميع السعادة والأمان.
كما أودّ التذكير بأنّ العلم ليس "تشريف" بقدر ما هو "تكليف" وإنّه لحِمل أمانة يجب أن يكون المثقف مبدعاً في إيصالها, وليس شاتماً لفاقدها متعالياً عن محتاجيها.
ولأنّ العلم هو نقيض الجهل, لذا فإنّ طريقة نشر المعرفة يجب أن تختلف عن طريقة نشر الجهل. أليس كذلك؟
وإنّ اللبيب من الإشارة يفهم.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس