الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الثاني/ 1

دلور ميقري

2020 / 5 / 3
الادب والفن


الملابسات المتعلقة بمسألة الميراث، استهلت في حقيقة الحال قبل ظهور أخ ريما غير الشقيق في الشام بأكثر من عشرين عاماً. المفارقة أنّ والدهما، عليكي آغا الصغير، كان آنذاك قد أنهى كل الاستعدادات لترك الشام والعودة إلى موطن الأسلاف، الذي لم يكن رآه قبلاً قط. ففي ذلك العام، 1905، حصل شقاقٌ في العشيرة على خلفية رفض الأب تزويج كبرى بناته للابن البكر لقريبه، زعيم الحي الكردي الدمشقي. بتحريض من هذا الأخير، تم فرض عزلة قاسية على الرجل ما اضطره في النتيجة إلى اتخاذ قراره الصعب بالرحيل. تلك كانت حالة نادرة، ولعلها الوحيدة، تحصل فيها هجرة معاكسة؛ أي من الشام إلى كردستان: ريما، كانت في عشية الرحيل لا يتجاوز عُمرها السبعة أعوام، لكنها من الوعي أن أدركت معنى ترك مسقط الرأس نهائياً، مثلما عبّرت عنه بانخراطها في بكاءٍ مرير، عُد فيما بعد ـ كنبوءة لما سيجدّ لاحقاً من كوارث على الأسرة.
كي تكتمل فصول المفارقة، فإن العربة المشدودة بالخيل، المحُمّلة بالأسرة وصناديق أمتعتها، قادها شخصٌ يُدعى " حمّوكي "؛ وكان يُعدّ آخر مَن قدموا إلى الشام من موطن الأسلاف. كان صديقاً مقرباً لوالد ريما، وذلك منذ هروبهما معاً من معسكر للسخرة في شمالي ولاية حلب. ثم عملا في نفس البستان بالحي، عليكي كتاجر ماشية، فيما حمّوكي كان ملاحظاً للنواطير. قبيل مغادرتهما الشام، ترك الأول تجارته في عهدة أخيه الأصغر غير الشقيق، بينما الآخر هجر أسرته، وكانت مكونة من امرأته البدوية وطفلتيهما: بعد نحو عامين، سيُجبر عليكي على الاقتران بابنة شيخ عشيرة عربية من ولاية ماردين، وذلك لقاء إعفائه من دين جسيم لم يستطع تسديده في الموعد المحدد. سبعة شهور أخرى، وستنجب البدوية صبياً له ملامحها وقامة أبيه القصيرة. هذا الصبيّ، كان حدّو، أول أبناء التاجر الكردي من امرأته العربية.

***
حمّوكي، كان لديه حلمٌ قديم، أضحى محور تفكيره في خلال فترة حراسته بمعسكر السخرة؛ وهوَ الانضمام للكتائب الحميدية، وكانت فرقة من الفرسان الكرد، مُنحت اسمَ السلطان عبد الحميد الثاني. قائد الفرقة، وغالبية عناصرها، كانوا من العشيرة الملية، القوية والعظيمة العدد. لكن لم يبقَ لحلمه معنى، عقبَ حلوله في الشام ومن ثم تأسيسه أسرة. مع سماعه خبرَ عزم صديقه عليكي الهجرة إلى موطن الأسلاف، عاد ذلك الحلم يُداعب فكره. في صباح يوم الرحيل، فتحَ صديقه يديه على وسعهما بغيَة وداعه، وإذا به يفاجئه بالصعود إلى العربة كي يجلس في مكان الحوذيّ. لم تنطل على عليكي حجّةُ المتقمّص صفة الحوذيّ، وهيَ رغبته لقاء الأهل بعد سنوات من الغياب. بيد أنه عجزَ عن محاولة ثنيه عن عزمه، وما لبثَ أن أعطاه إشارة الانطلاق بالعربة.
الصديقان، كانا مختلفين عن بعضهما البعض من ناحية التفكير والميول. في حقيقة الحال، أن صداقتهما توثقت بناء على مشاعر الوفاء ورد الجميل. نزعت شخصية حمّوكي إلى غريزة السلب والنهب، حتى أن اقترانه بالفتاة البدوية، كما يُقال، كان من ثمارها. فيما الصديق الآخر كان ذا نزعة نزيهة، قادته للاهتمام بمسائل عامة؛ من قبيل تحرير شعبه الكرديّ من براثن الاستعباد والجهل والبؤس. بيئة الحي الكرديّ الدمشقيّ، كانت عموماً أقرب إلى غريزة صديقه، الموصوفة. لكن تهيأت لعليكي فرصة الانعتاق من هكذا نزعة بدائية، وذلك بتعرفه مبكراً على أحد أحفاد الأمير الكرديّ الثائر، " بدرخان ". هنا أيضاً، كان للمفارقة أن تلعب لعبتها: إذ نفت السلطاتُ ذلك الحفيد، ويُدعى " صالح بك "، من دمشق إلى قيصرية في الأناضول، وما لبث صديقه عليكي أن أجبرَ أيضاً على ترك المدينة والتوجه شمالاً إلى موطن الأسلاف.

***
بعُمرها الغض، سرعان ما سلت ريما حزنها على فراق الشام، فأقبلت في بهجة على متابعة مناظر الطريق، بما فيها من أرياف ومدن، تشاهدها لأول مرة. لحُسن الحظ، أن الوقتَ كان في أواخر الصيف، تخففت فيه طفلتنا المسافرة من الحر نهاراً ولم تحتج في الليل سوى لغطاء بسيط. لكن ذكريات مسقط رأسها، عادت للحضور بقوة مع وصول العربة إلى حلب، الشبيهة بدمشق لناحية رفعة العمران وتعدد الأسواق وكثرة الخلق. العربة، توقفت في خانٍ على طرف الطريق، كان بمثابة محطة للاستراحة وتغيير الخيول. كان الوقتُ على حد الفجر لما دخلوا إلى الخان، فاستقبلهم مستخدمٌ أشيبَ الرأس وهوَ يتثائب.
" آه، هذا حنّان؛ صديقنا الكرداغي! "، هتفَ حمّوكي بصوت جهير حتى كاد يوقظ النائمين في العربة. المستخدم بدَوره، عبّر بصوت عال عن دهشته لمرأى المسافرَيْن. فقبل نحو خمسة عشرة عاماً، استقبلهما في الخان وكانا هاربين لتوهما من معسكر السخرة. قال عليكي للمستخدم: " كنا نأملُ أن تشرفنا في خلال السنوات المنصرمة في الشام، كي نرد لك الجميل. لكن القدر شاء أن نلتقي هنا، في الخان نفسه "
رد حنّان، مبتسماً: " إذ منعتني الظروف من رؤية الشام، فإنني أتمنى لو يتاح ذلك لابني الوحيد ". ثم بادر على الأثر في المساعدة بحمل الصناديق إلى الداخل، بينما الصغار يسيرون مترنحين وآثار النوم على عيونهم.
كان يجب أن تمضي ثلاثة عقود، قبل أن يتسنى لابن حنّان رؤية الشام. إذاك، كان هذا قد تطوع في جيش الشرق وتم نقله إلى العاصمة. خمس سنين أخرى، وسيتقدم لخطبة إحدى قريبات عليكي. لم تكن الفتاة سوى ابنة موسي من امرأته الثانية؛ ابنة القريب نفسه، الذي كان سببَ نزاعٍ أدى لرحيل أسرة عليكي من الشام إلى موطن الأسلاف!

* مستهل الفصل الثاني/ الكتاب الخامس، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل