الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحقيق رقم (1)

ضيا اسكندر

2020 / 5 / 3
كتابات ساخرة


في صبيحة الثامن من نيسان من عام 1975 كنتُ آخر الداخلين إلى قاعة الصف في مدرسة الثانوية الصناعية باللاذقية. وهو اليوم الذي يلي ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في البلاد. ما إن جلستُ على مقعدي، حتى انبرى عرّيف الصف بالصياح وهو يشير بيده إلى السبّورة: «مين هالإبن الحرام اللي كاتب هالعبارة؟!». توجّهت أنظار جميع الطلاب إلى ما أشار إليه العرّيف، وقرأنا العبارة المدوّنة بالطباشير الأبيض في أعلى السبّورة «يسقط حزب البعث». وطَفِقَ الطلاب يهمهمون؛ بعضهم يتهامس بصوتٍ خفيض، وبعضهم الآخر تعالى صوته مستنكراً مطالباً بإحضار أمين السرّ كون غرفته ملاصقة لقاعة صفّنا.
ما هي إلا لحظات حتى حضر أمين السرّ وقد عقد حاجبيه وشبك يديه خلف ظهره. وقفنا جميعاً كما هي العادة في استقبال أيّ مسؤول في المدرسة. أومأ برأسه أن نجلس والتفت يقرأ العبارة على السبّورة وبسرعة واندفاع استدار ببصره نحوي مباشرةً، وسدّد نظرة اتّهام هبط على إثرها قلبي. وشعرتُ بحرارة مفاجئة في أذنيّ. اقترب خطوتين منّي وقد لمع في عينيه وميض التحدّي والوعيد وقال: «اللي كاتبا معروف، وإذا كان رجّال يقوم ويعلن عن نفسه.» التزم الجميع الصمت. كرّر قوله وما زال لا يزيح بصره عني: «شقفة بلعوص شيوعي حقير كتبا ونحنا منعرفه.. بقى خلّيه يطلع ويعترف لحاله أحسنلو».
حوّلتُ نظري عنه لكي لا أظلُّ مواجهاً عينيه، ونعق البوم في أعماقي إيذاناً بحلول نكبة. وبدأ جسمي يرتعش فزعاً من هذا الاتهام. فأنا حديث العهد بانتمائي الشيوعي ولم يمضِ سوى عام على انتسابي، وخبرتي التنظيمية متواضعة، وثقافتي ضحلة أغلبها شفهية استقيتُها من خلال تأثّري بما أسمعه من الرفاق في الاجتماعات. وما انتسابي إلا نتيجة حماسي الشديد وتَوقي للخلاص من الفقر المدقع والتمتّع بالعيش الكريم، كما سمعنا عن فضائل الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وشقيقاته.
طلب أمين السرّ من عرّيف الصفّ أن يخبر المدير عن هذه الجريمة، وإن لم يكن قد وصل، فلْيحضرْ معاونه حالاً.
صمتٌ صحراويٌّ موحش يخيّم على أرجاء الصفّ عندما دخل معاون المدير بوجهٍ مفترسٍ وحقدٍ يتطاير من عينيه. قُمْنا كالعادة وجلسنا. ألقى نظرة إلى السبّورة ووقف إلى جانب أمين السرّ يتفرّس فينا واحداً واحداً، ثمّ صاح بأعلى صوته: «مين هاد الحقير اللي كتب هالعبارة؟» أخذ بعض الطلاب يتحدثون بأصواتٍ متداخلة بأنهم لا يعرفون. فقد دخلوا إلى القاعة ووجدوا العبارة مكتوبة.
طلب معاون المدير من عرّيف الصف أن يمحي كل الكلمات عن السبورة باستثناء تلك العبارة الآثمة.
وبعد أن انتهى العرّيف من مهمّته. قال المعاون بلهجة محقّقٍ متمرّسٍ أفنى عمره بالكشف عن الجرائم الغامضة: «هلّا رح يقوم كل واحد منكن بالدور، اعتباراً من المقعد الأول وحتى الأخير بكتابة نفس العبارة، حتى نقارن الخطّ لنعرف مين هالابن الكلب اللي كاتبا».
عندما وصل دوري تسارعت نبضات قلبي وأحسستُ بخطرٍ واخز. وبيدٍ يأكلها الارتعاش كتبتُ العبارة متعمّداً ألاّ يكون أيّة حالة تشابه بين جميع أحرف عبارتي، وتلك الجملة التي غدت بمثابة الفزّاعة للجميع. سارع أمين السر ووضع إشارة (×) إلى جانب كتابتي.. كما رسم ذات الإشارة على كتابة رفيق آخر. حيث كنّا الوحيدين من بين حوالي (30) طالباً ننتمي إلى الحزب الشيوعي. وقد يكون استهدفني أكثر من رفيقي بسبب تصدّري للمناقشات التي كانت تجري يومياً مع الزملاء. وتم اقتيادنا إلى غرفة معاون المدير.
طلب مني المعاون الانتظار خارجاً واستبقى رفيقي لديه بعد أن صفق الباب خلفه. دقائق قليلة من الترقّب كانت كفيلة باضطراب أمعائي بشدّة. وشعرتُ برغبة ملحّة لدخول التواليت بسبب حالة الهلع التي سبّبتها تلك التهمة الملفّقة الجائرة التي يبغون إلباسي ثوبها. هرعتُ بسرعة إلى دورة المياه وقد تبيّن لي أنني مصابٌ بإسهالٍ شديد. لدى عودتي وجدتُ باب غرفة المعاون مفتوحاً ويبدو أن التحقيق قد انتهى مع رفيقي. ما إن اقتربتُ منه حتى خرج أمين السرّ وعيناه تقدحان شرراً وصاح بي: «وين كنت ولاه؟ صرلنا ساعة عم ندوّر عليك، عم تفكّر تهرب مه؟» أجبت بصوتٍ مرتبك والخوف يكاد يعقد لساني: «كلا أستاذ، كنت عم أقضي حاجة بدورة المياه!» قال لي: «أي فوت لنشوف آخرتا معك فوت! والله وإجاك الموت يا تارك الصلاة!»
دخلت بخطواتٍ بطيئة مذعورة. كان معاون المدير يجلس خلف مكتبه. أغلق أمين السر الباب وجلس على كرسيّ يحدّق بي غاضباً. بينما بقيتُ واقفاً أرتجف بانتظار التحقيق. فهذه أوّل مرة في حياتي أتعرّض لمثل هذا الموقف.
كان المعاون ينقر بطرف قلمه على الطاولة وهو يحدجني بنظرةٍ ناريّةٍ ارتعدت لها أوصالي. وسرعان ما سألني بحدّة:
- صحيح إنك أول واحد بيدخل عالصف؟
- (باستغراب ودهشة) كلا أستاذ، أنا آخر واحد!
- أهه، منشان تبعد الشبهة عنك مهه؟ ولكْ أيمتا حسنت تدخل وتكتب العبارة وتطلع ولاه؟
- (بصوتٍ متهدّجٍ) والله أستاذ أنا آخر طالب بيدخل. وبالعلامة اسألْ زميلي اللي إجينا سوا عالمدرسة.
- مم، طيب مين برأيك كاتبا؟
- والله ما بعرف أستاذ! يعني احتمال يكون واحد من الأخوان المسلمين. أو واحد أحمق كتبا بِدون غاية محددة. أو حدا تاني ليعمل بلبلة بالصف ويخلق عداوة بين الطلاب.
- هه! والله وبتعرف تتفلسف كمان! شوف ولاه، هلّا نحنا منعرف إنك شيوعي، وعم نغضّ الطرف عنك كونك بحزب جبهوي. بالرغم من أنه ميثاق الجبهة بيحظّر عالشيوعيين النشاط بين الطلبة. ومع ذلك، وباعتبار تجربة الجبهة جديدة ما صرلها سنتين تلاتة، رح نلفلف الموضوع ونطويه هالمرّة.. بس يكون بعلْمك، عيونّا عليك عشرة على عشرة..
- والله أستاذ ما إلي علاقة و..
- خلاص. روح انقلعْ عصفّك. أقسم بالله لو متأكّد إنك أنت كاتبا، لخلّي الدبّان الأزرق يطوش وما يعرف وينك..
وكمتّهمٍ قُبَيل تنفيذ حكم الإعدام به بثواني، تأتي برقية عاجلة بالإعفاء عنه. دهَمَني شعورٌ عارمٌ بالغبطة والمسرّة. خرجتُ غير مصدّقٍ بأنني قد نجوتُ فعلاً. واتجهتُ إلى صفّي وقد أشرق وجهي بنورٍ طافحٍ بمشاعر حلاوة النجاة. تداعبني نسمات نيسان وقبسٍ من السعادة يخترق ظلام القلق الذي هدَّ كياني. فقد كادت التهمة أن تهوي بي إلى مجاهل الأقبية الرهيبة التي سمعتُ عنها الكثير الكثير..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحلة عبر الزمن من خلال الموسيقى.. السوبرانو الأردنية زينة بر


.. السوبرانو الأردنية زينة برهوم تبدع في الغناء على الهواء في ص




.. السوبرانو الأردنية زينة برهوم تروي كيف بدأت رحلتها في الغناء


.. بعد استقبال جلالة الملك للفنان عباس الموسوي.. الموسوي: جلالت




.. صباح العربية | بحضور أبطاله ونجوم وإعلاميين ونقاد.. افتتاح ف