الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهام النضالية الآنية لليسار في عصر كورونا ( 3- 3 )

رضي السماك

2020 / 5 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


ثانيا : كيف يستعيد اليسار المباررة ؟
—————————————
المصيبة أن المنظّر الأميركي للرأسمالية النيو ليبرالية فوكو ياما إذ أسرف بتبشير العالم ب " نهاية التاريخ " غداة بدايات فرط عقد الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية ، والذي تبعه انيهيار الأتحاد السوفييتي ، لربما توهم بأن سخط شعوب العالم من النموذج الغربي الذي تمثله الدول الرأسمالية الكبرى ، وعلى رأسها الولايات المتحدة ، هو بفعل ما لعبه الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه وقوى اليسار من دور في خلق هذا السخط وتراكمه ، وفي عدادها قطاعات واسعة من شعوب الدول الرأسمالية نفسها . ولكن فاته أن اليسار كتيار سياسي شعبي عريض يمثل المحرومين والطبقات المضطهدة وُجد تاريخياً - بغض النظر عن الفكر المعبّر عنه دينياً أو سياسياً - منذ أن أنقسمت الشعوب أو الجماعات البشرية إلى طبقات وتشكلت الدول المستبِدة الممثلة والمنحازة للطبقات القاهرة في شتى أرجاء المعمورة ؛ وذلك منذ ما قبل مجيء كارل ماركس بقرون أو عصور طويلة ؛ و ما كان لماركس من دور سوى أن قُيّض له أن يكون الإبن الشرعي لبيئته الصناعية في تطور علاقات الأنتاج التي جاءت به الثورة الصناعية بما بلغته من مستوى متطور في القرن التاسع عشر ؛ لينحاز الرجل للطبقة العاملة التي هي وليدة الثورة الصناعية و المستغَلة ( بفتح الغين ) من قِبل الطبقة الرأسمالية . بعبارة اخرى كان ماركس الإبن الشاهد على بيئة عصره الراصد بعين فاحصة في اكتشاف خصائص الطبقة الرأسمالية وأسرار قوتها في استغلال قوة العمل المتمثلة في الطبقة العاملة الواقع عليها الجور القسري من فعل الرأسماليين وسلطة الدولة أو النظام السياسي الذي يمثلهم . وقد جاءت مساهماته العبقرية الهامة بمثابة نقلة في تطور فكر ونضالات اليسار العالمي بفضل تشييده منظومة فكرية - نظرية علمية رصينة ذات مداميك قوية لم تزل تحتفظ - بوجه عام - بصحتها حتى يومنا هذا ؛ بغض النظر عما لحق العالم من متغيرات هائلة اقتصادية وسياسية واجتماعية على مدى نحو قرن ونصف على رحيله . وسرعان ما تقوضت - كما نعلم - أفتراضات فوكو ياما التبشيرية بنهاية التاريخ على صحة النموذج الغربي بلا منازع ، فماأن أنهار الأتحاد السوفييتي حتى ظهرت مجاميع وقوى جديدة لا تحمل الفكر الماركسي لكنها تبدي احتجاجاتها القوية ضد الرأسمالية تحديداً ، رغم أنها جاءت من مواقع اجتماعية مختلفة لا تقتصر على الطبقات العاملة وإن شاركت قوى يسارية فيها لكن لم يكن دورها فيها هو الحاسم في تلك الاحتجاجات الشبابية . وقد برزت احتجاجاتها في محطات ومناسبات عديدة ، حتي داخل الولايات المتحدة نفسها ، منذ التسعينيات ، منها على سبيل المثال لا الحصر ، الاحتجاجات العارمة التي شهدتها مدينة سياتل ، ومدن اخرى أمريكية وأوروبية ، والمظاهرات السنوية ضد مجموعة قمة العشرين التي أصبحت تقليداً سنوياً ، وبالتالي فالرأسمالية بطبيعتها الاستغلالية ، وبخاصة في طورها المتوحش ، هي نفسها تولّد التناقضات ضدها .
وهاهي أخيراً قد تعرت أخلاقها بامتياز مع تفشي جائحة " كوفيد - 19 " ، وكلنا نعرف بأن الشواهد على ذلك أكثر مما تحصى حتى باتت تغطي معظم البلدان التي اجتاحها الوباء ، ومنها على وجه الخصوص التي تتصدرها في عدد الإصابات والوفيات ، كإيطاليا وأسبانيا والولايات المتحدة التي مافتئت بؤرة انتشاره. ومع أن ثمة محطات مهمة من الأحداث العالمية خلال فترة الثلاثين سنة الماضية نفسها ( 1990- 2020 ) تعرت خلالها الأخلاق الحضارية المزعومة للرأسمالية العالمية ، إلا أن المحطة التاريخية الراهنة ممثلة في جائحة كورونا هي المحطة الأهم ، في تقديرنا التي وضعت تلك الأخلاق العفنة على محك الواقع الفعلي أمام مرأى الرأي العام العالمي بأسره بلا رتوش ؛ ودونما حاجة لتوعيته وتنبيهه عنها سواء من قِبل اليسار أو أي من شرفاء العالم .
على أن كتّاب اليسار ، من باحثين ومحللين ومتخصصين كبار في شتى مجالات العلوم الإنسانية والعلمية، إ نما برز دورهم في هذه المحطة / المرحلة من خلال ربط تلك الظواهر المتجردة من كل معايير الاخلاق والقيم الإنسانية ووضعها تحت المجهر العلمي المادي لتشريحها وربطها بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحيث لم يستطع حتى كبار مفكري الرأسمالية ومنظريها تبريرها .
وفي هذا الشأن نستطيع القول بأنهم استطاعوا عن جدارة على تفاوت مستوياتهم وخبراتهم وتجاربهم ومؤهلاتهم أن يدبجوا مئات المقالات والدراسات العلمية الرصينة ؛ ولربما أعداد منهم تعكف الآن على تأليف كتب قد تصدر خلال الجائحة ، وبعضها الآخر لعله يصدر بعد استصال الفيروس من على وجه البسيطة . لكن ثمة كتابات نُشرت ليساريين بدت وقد شطح الخيال بكتّابها إلى ما هو أبعد من تعرية وإدانة الرأسمالية ، ليس إلى التبشير بقرب زوالها فحسب ، بل و نحى بعضهم الآخر منحى الحنين اللاشعوري بتذكير العالم بإيجابيات النماذج الاشتراكية السابقة أواخر القرن الماضي وكأنها معجزات مبهرة لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا خلفها ، غير مقترتة البتة بأي تجاوزات خطيرة من مطبات الممارسة والتطبيق . وهذا في تقديرنا ليس ما يجانب الصواب فحسب ؛ بل يفضي انطلاقاً من حسن نوايا إلى نتيجة عكسية في في وصول الرسالة للمتلقي القارئ ، أكان ممن سبق الإطلاع بهذا القدر أو ذاك على تلك الممارسات وتكونت لديهم صورة وردية من ثم أضحوا شديدي الاحباط من تلك التجارب لكنهم غير معادين للفكر الاشتراكي ، أم من المعادين له ومطلعين إطلاعاً واسعاً كافياً عليها ( التجارب ) لكن بعيون ماكرة حاقدة لا بعيون ناقدة نقداً موضوعياً محايداً ، ومن ثمَ قد يستغلون مثل تلك الكتابات لتوظيفها لتجديد انتقاداتهم الديماغوجية المضللة الخبيثة .
وتأسيساً على كل ما تقدم نرى أن المحطة التاريخية الراهنة المتمثلة في جائحة كورونا التي نحن شهود على فصولها التي لما تنته بعد ، إذ تشكل فرصة مثلىٰ لقوى اليسار في العالم للملمة صفوفه وتقويتها ينبغي ألا تقتصر على خطاب فضح أخلاق الرأسمالية فحسب ، رغم أهميته ومشروعيته ، أو الإفراط في التغني بالماضي العتيد لأمجاد الاشتراكية ؛ بل يتوجب عليها بأن يقترن كل ذلك بتقديم نفسها للجماهير المتلقية كقوى يسارية جديدة ديمقراطية ذات مصداقية قولاً وفعلا وخُلقاً قادرة على اقناعها بجدارة كممثلة بديلة عن كل القوى اليمينية والشعبوية والرجعية التي تمكنت من استمالة شرائح أو إلى صفوف منها ، ثم نجحت - بدرجة أو اخرى - مستغلةً في ذلك ظروف الانكسار الكبير الذي ما برح اليسار العالمي يعاني منها منذ ثلاثة عقود على انهيار " المنظومة الاشتراكية " . وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال إعمال الفكر والعقل من أجل استعادة قوى اليسار زمام المبادرة في صفوف الجماهير والقوى المتضررة من الأنظمة القائمة ، إن في عالمنا العربي ، وإن في البلدان الرأسمالية نفسها ، وإن في البلدان الاشتراكية السابقة ، وذلك حسب الظروف النضالية الملموسة في كل دولة على حدة ، فضلا عما يمكن القيام به من نضالات اممية مشتركة ، وصولا لرسم معالم الطريق الصحيح الذي يحدد المهام النضالية الاستثنائية الجديدة وذات الخصوصية والسمات المتوافقة مع ظروف عصرنا الدولي الراهن خلال مرحلة جائحة كورونا ، لا سيما وأن كل الشواهد تُنبئ مسبقاً بأن الظروف ستكون مهيئة سياسيا واجتماعياً تماماً لقوى اليسار العالمي لخوض غمار هذه النضالات في مرحلة ما بعد زوال الوباء ، ولن تكون بطبيعة الحال هذه النضالات سهلة معبدة الطريق بعد سنين طويلة من الانحسار .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل