الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية لا يعلم بها أحد

حامد تركي هيكل

2020 / 5 / 5
الادب والفن


بدت على الوجوه علاماتُ الخوفِ والذهول . إنه لأمر جلل هذا الذي يحدث الآن. ِأمرٌ وإنْ كان متوقعاً حدوثه منذ زمن بعيد، بيدَ أن حصوله الآن وفي هذه اللحظات لابد أن يتسببَ بالقلق. فها هو الشيخ هاشم الخميس مسجىً على سرير الموت. جسمه النحيل المغطى ببطانية يكاد لا يترك أي أثراً على البطانية التي تغطيه، بل كأنها بطانية على فراش مسطحة تقريبا. فقط يده النحيلة بجلدها المنكمش وعظمها الظاهر وبعض الأوردة الزرقاء تظهر بجانبه وقد رُبِطَتْ الى جهاز التروية الطبي حيث تنزل قطرات من محلول طبي بهدوء ، قطرة، قطرة، قطرة.
رأسُهُ عبارة عن جمحمة مغطاة بجلد. لا تبدو عليه أية علامات أو مؤشرات حيوية.ربما هو في غيبوبة، مغمض العينين، فاغر الفم، الا أن تنفسه طبيعي.
أبناؤه وأحفاده وأقرباؤه ومحبّوه ورجال آخرون متوزعون هنا وهناك. بعضهم يقف بجوار السرير واجما، وبعضهم يجلس على كراسي توزعت في الممر القريب، وبعضهم يذرع الممر جيئة وذهابا، وبعضهم إفترش ثيّل الحديقة خارج المبنى فيما بدت على الجميع علاماتُ الحزن والتوتر والنعاس.
هاشم الخميس هذا رجلٌ مهم للغاية، فهو عميدُ أسرة الخميس المعروفة في البصرة والعراق عموما، والمشهورة أيضا في أغلب المدن الساحلية التي تمتد على شواطي خليج البصرة وبحر العرب والمحيط الهندي. عمره الآن يناهز المائة ، وقد كان لوقت قريب بكامل قواه ، بيد أن صحته تدهورت منذ شهر. نُقِلَ على إثر ذلك الى هذا المستشفى الخاص.
يستلقي هذا المحارب العنيد متنتظراً لحظة موته التي تأخرتْ طويلاً. فقد عاشَ تسعين عاما وهو يحارب ليل نهار، بلا كلل ولا ملل، بلا توقف ولا استراحة. حارب بكل الوسائل المتاحة. في المحاكم حيثُ دافعَ عن أملاكه أمام المناوئين والمزوّرين والطامعين والشركاء الجشعين والمجاورين الطامعين والفلاحين الطامحين . حارب المحامين المتلاعبين والقضاة الكسالى والموظفين الشرِهين. حارب المتصرفين والمحافظين والحكام العسكريين وأعضاء الحزب وأمراء المليشيات ورجال الدين المُزَيفين. كان يحارب طيلة سني عمره شتى صنوف رجال السلطة في كلِّ العصور. وأوراق مرافعاته ودفاعه المستميت عن حقوقه طيلة كل تلك السنوات قد غَصَّتْ بها مستودعاتُ المحاكم ، وناءتْ بحملها الرفوفُ . لولا أن أحداثاً سياسيةً متكررة قد حصلتْ فاندفع الناسُ الغاضبون صوب مباني الحكومة يفرغونها من محتوياتها ويبعثرون ما في مخازنها ويحرقون ما لم يجدوا فيه ما يثير فضولهم، لضاقت مخازن المحاكم بأوراق دعاوى هاشم الخميس.
يستلقي هذا البحّار الأسطوري أخيرا على سريره منتظرا الموت! فقد عاش مع البحر طويلا، يرسل سفنه من البصرة الى زنجبار، و الى مومباي وكراجي وجاكارتا ومالاقة. يطعم الأفواه الجائعة في الهند والصين وأفريقية ، ويجلب منهم الذهب والفضة والعاج والصاج. ويُلبِسُ نساءَ البصرة والعراق الحرير، ويعطِّرُ موائدَ العراقيين وغيرهم بكل النكهات العجيبة. يدخلُ مع الرجالِ في غرف زفافهم بعطوره التي يستوردها، ويدخلُ مع النساء في أشدّ لحظاتهن خصوصيةً بما يجلبُ لهن من كحلٍ وبخورٍ وسلع يفضل أن يبقيها سرا بينه وبينهن!
هذا البحّار العنيد الذي طالما واجه بسفنه الأسطورية عواصفَ وأعاصيرَ البحار الماكرة، وهجمات القراصنة المتكررة، ومؤامرات رجال الشرطة ومسئوولي الموانيء الدنيئة، وتقلبات السوق الغادرة، ومخططات المنافسين، وصَمَدَ بوجهها جميعا، وانتصر فيها جميعا. ها هو الآن يستلقي عاجزا عن الحركة، أية حركة حتى ولو كانت رمشة جفن، أو نظرة عين.
ترى بماذا يفكر هاشم الخميس الآن؟ هل يفكر بأملاكه و ثروته ؟ أم بأبناءه وما سيعملون؟ أ م بأحفاده؟ هل يتذكرُ هاشم الخميس في هذه اللحظة سفنَه التي مخرتْ عبابَ البحار؟ أم بحمولاتها من الخلال الجبجاب 1المطبوخ والمجفف جيدا على الأرض المحروثة؟ أم يفكر بملايين عبوات تمر الزهدي 2 المكبوس في سلال من الخوص تقطر عسلا في تلك السفن التي تبحر في أجواء البحر الرطبة؟ أم يفكر بصناديق الشاي السيلاني زكيّ الرائحة التي تعود بها سفنه؟ أم بأكياس البهارات الاسطورية التي لايعلم سرَّها الا هو؟
هو الآن يحلم بلا شك، ولكن ترى! بأي لغة من اللغات يتحدث هاشم الخميس في هذه اللحظة في حلمه الأخير. هل يتحدث الانجليزية؟ أم العربية؟ أم لغة الأوردو؟ أم السواحيلية؟ لا أحد يعلم .
ترى أيُّ الصور ترد على خاطره الآن وهو مسجىً على سريره ينتظر الموت؟ هل ترِدُ على ذهنه صورُ القصور التي شيَّدها؟ أم صور العقود التي وقَّعها؟ أم صور البساتين التي إمتلكها أرضا يبابا ، فشقّ فيها الأنهار، وزرعها نخيلا وعنبا وتينا وحناءً؟ أم صور أكداس التمر المتجمع في (الجراديق) 3وعلى ظهور السفن؟
هل يخطر بباله الان زوجته الوحيدة التي احترمها كثيرا، والتي أنجبت له أولاده وبناته؟ أم تطوف عليه الآن صور أبنائه وهم صغارا، وصور بناته وهن َّعرائسا، وصور أبناء أحفاده وأسباطه وهم يلعبون حوله؟
هل يتلذذ في هذه اللحظة بتذكّر المآدب الفاخرة التي كان يقيمها للناس؟ أم يتذكر وجبة السجن الموحش إذ تُلقى إليه من فتحة الزنزانة باردةً فقيرةً وبائسة؟ هل يستدعي عقلُه الآن صورَ العزّ أم صور الشقاء؟ لا يعلمُ أحدٌ.
هاشم الخميس وحده يعلم ، لأنه هو وحده الآن يستحضر تلك الصورة. بل أن تلك الصورة هي من إقتحمت عليه عزلته الآن فجأةً. فقد كانت هذه الصورة نسيا منسيا، وقد باغتته الآن في هذه اللحظات الأخيرة؟
لقد عاش هاشم الخميس طول عمره جادا وحازما. لقد آمن هاشم الخميس منذ نعومة أظفاره بنظرية الحفظ وطبقَّها وأخلص لها. فهو يسعى لحفظ نفسه، وحفظ ماله، وحفظ دينه. هكذا فهم هاشم الخميس الحياة طيلة سنواته التسعين إذا ما إستثنينا السنوات العشر الأولى والتي شكلت طفولته والتي سبقت إيمانه بنظرية الحفظ تلك.
ولذلك لم تَرِدْ على فكره طيلة تلك المدة أيةَ ذكرى لا تكون لها علاقة بحفظ محفوظاته تلك.
أما الآن فقد فرغ من المحفوظات، فهو لا يأبه بالنفس، فالنفس التي حفظها طويلا على وشك أن تذهب. ولا يأبه بالمال، فالمال الذي طالما جمعه يوشك أن يغادره الى غير رجعة، ولا يأبه بالدين، فقد تيقن أن رصيده من الحسنات ربما يكفيه، ثم أنه في هذه اللحظة غير قادر بالمرة لا على عمل الخير ولا على ارتكاب المعاصي.
في هذه اللحظة الأخيرة من الزمان المقدّر لهاشم الخميس أن يحياه ، وفي هذه اللحظة فقط ، دون كل الأيام والليالي، تذكر صورة بعيدة. صورة طمرتها الأحداث والأعمال والطموحات والاخفاقات. صورة لا علاقة لها بالمال، ولا بالمُلك، ولا بالسلطة ولا بالجاه، ولا بالبنين. صورة لا يعلم بها أحدٌ سواه. لذلك ظهرت الآن فقط في الوقت الذي لن يعلمَ بها أحدٌ سواه.
كان في السابعة من عمره، أو في العاشرة ، لا يعلم بالتحديد. حين إصطحباه أبواه من قريتهم المختبئة بين النخيل الى مدينة العشّار. عبرا به الشط، وحلّا ضيفين على بيتِ صديقٍ لأبيه إسمه شفيق أفندي. وتركاه هناك في البيت ليذهبا لمقابلة الحكيم4. وجد نفسه وحيدا هناك في غرفة تتسلل إليها أشعةُ شمسِ العصر. لم يكن وحيدا، كانت هي تجلس هناك على أريكة. صبية في الرابعة عشر من عمرها. بيضاء كالثلح، ترتدي نفنوفا أزرقا فاتحا موشى برسوم أزهار صغيرة بيضاء، كان وجهها مدوَّرا نَظِرا. عيناها زرقاوان، رقبتها طويلة، وشعرها أشقر، عملت منه ظفيرة سميكة كانت تتدلى حتى خصرها. لم تكلّمه، لم يكلّمها. فقد كان غريبا وخائفا ووحيدا وصغيرا. كانت تنحني على قطعة قماش تطرّزها. كانت أشعةُ شمس العصر التي تتسلل عبر زجاج النافذة الملوَّن لتسقط على قفاها الذي يكسوه زغبٌ ذهبيٌّ ناعم. وقع بحبِها، وتمنى أن يكبر ليتزوجها. ليس هناك أجمل منها. كان اسمها افتخار. أما هو فقد كان طفلا جالسا على أرضية الغرفة لا يجرؤ على النظر اليها إلا خلسة.
نسيَّ هاشم الخميس إفتخار بنت شفيق أفندي كل تلك السنين، ولكنها أنبعثت في رأسه هذه اللحظة بالذات. ترى! هل إنبعثت لتعذبه، ولتعلمّه أنه قد أضاع العمر بمحقرات الأمور ليس إلا. أم أنها إنبعثت لتسعده في هذه اللحظات الأخيرة. آه لغدرك يا هذه الصورة. أين كنتِ كلَّ تلك السنين؟ وهل يُعقل أنكِ مكثتِ هناك محتفظةً بكلِّ هذا النقاء، وبكلِّ هذا الدفء، وبكلِّ هذا الجمال؟ كان هاشم الخميس في تلك اللحظات الأخيرة من حياته الطويلة جدا يرى نفسه وقد عادَ طفلاً صغيرا تركته أمُهُ لتوِّها في بيت شفيق أفندي مع هذه الصبية الرائعة الجمال، حيث شَعَرَ لأولِ مرةٍ في حياتِه بخفقانِ قلبِه الصغير، وتَعرَّقَ وجهُه، وارتعشت يداه، واتقدت في صدره حرارة لا يعرف كنهها. ولكنه أدركَ أنهُ منجذبٌ لهذا الجمالِ الآسر، ومنشغلٌ بهذا السحرِ الأخاذ. في هذه اللحظات الأخيرة كان هاشم الطفل سعيدأً ، سعيداً جداً وهو يقترب من افتخار، يلمس طرف ثوبها الأزرق الفاتح الموشى برسوم أزهار بيضاء صغيرة. كانت شمس العصر الذهبية المتسللة عبرَ زجاج النافذة الملوَّن مركزةً على عينيه تماما حين استدار ناهضا من جلسته على الأرضية ليقترب من افتخار الجالسة على الأريكة، ليلمس ظفيرتها الذهبية الغليضة، حين فَصّلَ الطبيبُ الأجهزةَ من جسمه االذي همد للتوِّ، معلنا عن وفاة الشيخ هاشم الخميس.
1- نوع من التمور المعدة للتصدير
2- نوع من التمور
3- مكابس التمور
4- الطبيب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي