الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجريمة في ضوء الرؤية المادية للتاريخ -2

نور طالب ناظم

2020 / 5 / 5
دراسات وابحاث قانونية


يُوضِح التَّارِيخ انه بَعْدَ انحلال النِّظَامِ البدائي، نَظَّم الْبَشَر انفسهم فِي تَشْكِيلَات اِجْتِمَاعِيَّة مُخْتَلِفَة، اِسْتَطَاعُوا مِنْ خِلَالَهَا أَن يُطَوِّرُوا مِنْ وَسَائِلِ إِنْتَاجِهِمْ، فَاِنْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى حَيَاتِهِمِ الْاِجْتِمَاعِيَّة الَّتِي تغيرت مع تطورالْقُوَى الإنتاجية. هَذِهِ الْقُوَى الَّتِي فِي مَرْحَلَة مُعَيَّنَة تَدَخُّل فِي تَنَاقض مَع الْعَلَاَّقَات الانتاجية السَّائِدَة، تَصِل مَع مرور الزَّمَن إلى حَدَّ النِّزَاع، فتحدث عِنْدَهَا الْقَفْزَة البنيوية لِلتَّارِيخ، فَيُنْتِج عَنْهَا تَشْكيلة اِجْتِمَاعِيَّة جَديدَة.
هكذا تَتَغيرانماط الإنتاج، ليس بالصَّدَفَة، بل من خلال الصِراع الطَّبَقِيِّ بَيْنَ الاكثرية الْمُسْتَغَلَّةَ والاقلية الْمُسْتَغِلَّةَ، وَالَّذِي يَنْتَهِي اما بتحول جِذْرِي يُغَيِّر مِنْ نِظَامِ حَيَاة الْمُجْتَمَع الْاِقْتِصَادِيَّة كَنَتِيجَة لِسِيَادَة طَبَقِيَّة جَديدَة. فَيَتَغَيَّر عَلَى اثْرها شَكْل الدَّوْلَة وَالْقَانُون والافكار وَالْقَيِّم والاخلاق، وإما يَنْتَهِي بِفَنَاء الطِّبْقَتَيْن الْمُتَصَارِعَتَيْن.( اُنْظُرْ ماركس)
هكذا هي الْعَمَلِيَّة التَّطَوُّرِيَّة لِلتَّارِيخ، انها حَرَكَة جَدَلِيَّة مِنَ الصِّرَاع الطَّبَقِي، تَتَغَيَّر خِلَالَهَا النظْم الْاِجْتِمَاعِيَّة، وَتَرْتَقِي فِيهَا الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة. فَلَيْس هُنَاكَ وُجُود مجرد لِلْمُجْتَمَع، ولاوجود مجرد للانسان، بَلْ وُجُود اِجْتِمَاعِي يَتَحَدَّد بِهِ الْمُجْتَمَع وَمِنْه الانسان فِي اطار بِنية اِجْتِمَاعِيَّة شَامِلَة لَهَا وُجُودُهَا التَّارِيخِي، بالتالي هَذَا مَا يَجْعَل الظَّوَاهِر الْاِجْتِمَاعِيَّة مُتَغَيرَة عَبْر مَرَاحِل التَّارِيخ، مثْلًا، الْجَرِيمَة فِي الْمُجْتَمَعَات الْعُبُودِيَّة، تَخْتَلِف عَن الْجَرِيمَة فِي الْمُجْتَمَعَات الاقطاعية اوالراسمالية، وَاذَا كَانَ بَعْض التَّشَابُه يُوجَد هُنَا وَهُنَاك، فَسَبَبَه ان هَذِهِ التَّشْكِيلَات الْاِجْتِمَاعِيَّة، ذَات طابع تَنَاحُرِي تَطَوَّرَت خِلَالَهَا الملكية الْخَاصَّة.
مِنْ هُنَا، فَالْجَرِيمَة نِتَاج مَوْضُوعِي لِطَبِيعَةِ الْحَيَاة الْاِجْتِمَاعِيَّة الَّتِي عاشهَا الْبَشَر. هَذِهِ الْحَيَاة الَّتِي اِرْتَكَزَت فِي الْبِدَايَة عَلَى نَشَاط اِقْتِصَادِي ذُوانتاجية قَلِيلَة، ثُمَّ تَطَوَّرَت مَعَ تَطَوُّر ادوات الْعَمَل، وظهورالتَّقْسِيمِ الْاِجْتِمَاعِي لِلْعَمَل، الَّذِي عَلَى اثره اخذ التَّنَاحُر يَنْمُو دَاخِل الْحَيَاة الْاِجْتِمَاعِيَّة، وَاِسْتَمَر فِي الصُّعُود مَعَ تَغَيُّر التَّشْكِيلَات الْاِجْتِمَاعِيَّة.


الْجَرِيمَة فِي الْمُجْتَمَع الرأسمالي

يَتَمَيَّز الإنسان عَنْ بَاقِي الكائنات الحية على الأرض، بِكَوْنِهِ كَائِن نَوْعِي، يَتَّخِذ مِنَ الطَّبِيعَة مَوْضُوعًا لَهُ، وَيَعْمَل مَعَ أفراد نَوَّعَه عَلَى تَكَييفِ الطَّبِيعَة لِصَالَحَه مِنْ خِلَال الإنتاج، الَّذِي هُوَ تعبير عن إرادته، وَحَيَاتَه الْوَاعِيَة. فالإنسان كَائِنَ عَاقِل، وَحُر، يَعِي نَفْسُه، وَيَعِي مَوْضُوعُه الَّذِي يُقَابِلُه، وَيعرف نَتَائِج أفعاله، كما انه كَائِن مُتَبَصِّر وَمُبْدِع، يُطَوِّر حَيَّاتُه بَوَاسِطَة الْعَمَل، عَكَس الْحَيَوَان الَّذِي لَا يُمَيِّز حَيَاتُه عَنِ الطَّبِيعَةِ، وَلَيْسَتْ لَدَيْه فَكُرَة لِمَاذَا يَقُوم بِنَشَاط حَيَاتِه.
الا ان الْعَمَل الْمَاجُور، اُحْد اُبْرُزْ خصَائِص الْمُجْتَمَع الرأسمالي، يَفْصل الإنسان عَنْ ماهيته الْحَقِيقِيَّة مِن خِلَال تَحْوِيلَه إلى أجير، بالتالي يسلب ذاته. فَالْعَمَل المأجور يَجْعَل الأجير، يَعِيش الْمُعَانَاة وَالْحِرْمَان الْمُسْتَمِر. فهو يربط حَيَاة الأجير بِعَلَاَّقَة طَبَقِيَّة يَبِيع من خِلَالَهَا الأجير قُوَّة عمله إلى الرأسمالي مُقَابِل اُبْسُطْ مُتَطَلِّبَات الْعَيْش. وَاذَا ما اِنْقَطَعَتْ هَذِه الْعَلَاَّقَة، تصْبح حَيَاة الأجير فِي خَطَر، لَانَ وُجُودُه فِي الْحَيَاة يَكُون اولاً كَأَجِير قَبْل انَّ يَكُون كَانِسَان.
مِنْ هَذَا نَسْتَنْتِج انَّ الأجير الَّذِي يُنْتِج، لَا يَمْلِك إنتاجه، لأنه ملك لِشَخص اخر وَهُو الرأسمالي، بالتالي الأجير يَعِيش حَالَة مِن الْحِرْمَان الْمُسْتَمِر مَن خِلَال عُبُودِيَّة الْعَمَل المأجور.
اما الرأسمالي الَّذِي لَا ينتج، يَمْلِك الإنتاج، لأنه مَالك لرؤوس الأموال، بالتالي الرأسمالي يَعِيش حَالَة منِ التَّرَف الْمُسْتَمِر مَن خِلَال استغلال الأجير.
إن هَذَا الْاِغْتِرَاب الَّذِي يعَيِّشه الإنسان دَاخِل الْمُجْتَمَع الرأسمالي، يُشَوِّه الْحَيَاة الإنسانية بِكُلِّ جَوَانِبِهَا، بالتالي اِنْه مَصْدَر كُل الْعِلل الْاِجْتِمَاعِيَّة وَمِنْهَا النَّفْسِيَّةَ.
هَذَا هُوَ الْمُجْتَمَع الرأسمالي، انه مُجْتَمَع مُتَفَكِّك تَحَكُّمه التناقضات بين المصَالِح الْخَاصَّة، كَنَتِيجَة لِلْعَمل الْمُغْتَرِب، بالتالي تُسَيْطِرعَلَيْهِ أيديولوجية تشجع عَلَى الفردية، والتنافس، والْاِسْتِهْلَاك، وَالرِّبْح، فالإنسان الثَّرِي، نَاجِح، وَسَعِيد؛ لَانَه يَسْتَهِلُّك اُفْضُل الأشياء وَاغِلَاهَا، اما الإنسان الْفَقِير، فَاشِل، وَبَائِس؛ لَانَهُ لايملك شَيْء.
هَكَذَا هي الْهَيْمَنَة الثَّقَافِية البرجوازية، تعمل على تشييء الْحَيَاة الإنسانية، وَتُخْضِعُهَا إلى مِعْيَارِي الرِّبْح وَالْخَسَارَة، بالتالي تصبح حَيَاة النَّاس خَاضِعَة بِشَكل مُسْتَقِل عَن إرادتهم لأهداف ثَقَافِيَّة تعزز الأنانية، وَالْاِنْعِزَال، وَعَدَمَ الثِّقَة، وَالْجَشَع....

لَكِنَّ هَذَه الأهداف الثَّقَافِيَّة الْمُتَمَثِّلَة بِالسَّعِي إلى الرِّبْح، أو الطموح إلى الْمَرَاكِز الْمَرْمُوقَة، أو الوصول إلى الشَّهْرَة، أو الحصول على مكاسب مادية وَغَيْرَهَا مِنَ الأهداف الْمُرْتَبِطَة بِالنجَّاح، تَصْطَدِم بِجِهَاز الدَّوْلَة الرأسمالي الَّذِي يَحْمِي مصالِح ومكاسب الطَّبَقَة الْبُرْجُوَازيَّة، وَيَقف ضِد الطَّبَقَات الأخرى مِنْ خِلَال اجهزته، وَقَوَانِينَه.
هَذِهِ الْحَقِيقِيَّة الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا غَالِبِيَّة النَّاسِ بِسببِ الحجب الأيديولوجي الَّذِي تَمَارسه أجهزة الدَّوْلَة الرأسمالية وقوانينها، يجْعَل الطبقة المُفقرة، والطبقة المتوسطة تَعِيش ضَغُوطَا نَفْسِيَّة مُسْتَمِرَّة، يسببها هذا التركيز الثقافي البرجوازي .
فَالطَّبَقَة المُفقرة الْمُتَمَثِّلَة بِالْعُمَّالِ، وَالْفَلَاَحَيْن، وَالْعَاطِلِين عَنِ الْعَمَلِ، تُعَانِي الْحِرْمَانُ الْمُسْتَمِرُّ بكل أنواعه، فَيَتَوَلَّد عَنْ ذَلِكَ ضَغْطَا شَدِيدَا لِلْاِنْحِرَافِ، وخصوصاً عند غير المثقفين، ما قد يَجعل البعض من أفراد هذه الطبقة يستخدمون وَسَائِل محظورة، للتخلص من هذا الحرمان. مَا يُؤَدِّي إلى حُدوث الْجَرِيمَة.
اما بِالنِّسْبَة لِلطَّبَقَة الْمُتَوَسِّطَة تَتَمَيَّز بكونها تُرَكِّز بِشَكْل كَبِير على أهداف النّجَاح، كالنجَاح الْمَالِي أو الْوَظِيفِي أو اِلْسَعِي لِلسَّلْطة ومَا شَابِّه، فَيَتولد عَنْ ذَلِكَ ضَغْطَا شَدِيدَا لِلْاِنْحِرَافِ، قد يَجْعَل البعض من أفراد هذه الطبقة، يلجؤون إلى اِسْتِخْدَامَ وَسَائِل مَحْظُورَة، لانهم يرون ان الوسائل المؤسسية المسموح بها من قبل الدولة، لا تساعدهم على تحقيق النجاح. ما يؤدي إلى حدوث الجريمة.
وَأَخِيرَا الطَّبَقَة الرأسمالية، هَذِه الطَّبَقَة الْاِحْتِكَارِيَّة الَّتِي تسيطر على الدولة، تسعى بشكل مستمر إلى الرِّبْح، ومراكمة رؤوس الأموال وَبِشَتَّى الطُّرُق، ولايهمها شيْء مَادَام الرِّبْح مُسْتَمِر. بالتالي اِرْتِكَاب الْجَرِيمَة مُتَوَاجِد عِنْد أفراد هَذِه الطَّبَقَة.
في الختام، نَسْتَطِيع انَّ نَرَى بِوُضُوح كَيْفَ انَّ الْجَرِيمَة، نِتَاج الْحَيَاة الإنسانية الْمُغْتَرِبَة. هذه الحياة التي خِلَالَهَا اِنْتج البشر عبر مَرَاحِل تَارِيخِهِم، الدين، وَالْعَائِلَةَ، والملكية الخاصة، وَالدَّوْلَة، وَالْقَانُون، وَالْأخْلَاق، والعَدَالَة، والفلسفة، والْعِلْم، والْفَن، جَمْعِيَّهم نتاج حَرَكَة وَاحِدَة، هِي حَرَكَة التَّطَوُّر التَّارِيخِي لِلْبَشَر. وَاذَا أراد الْبَشَر تَجاوز هَذِه الْحَيَاة الْمُغْتَرِبَة، فيُجيبنا مَاركس، "انَّ التخطي الإيجابي للملكية الْخَاصَّة، كَتَمَلُّكٍ لِلْحَيَاة الإنسانية، هُوَ التخطي الإيجابي لِكُل اِغْتِرَاب".

المراجع باللغة العربية/
بصدد الدولة "كارل ماركس وفريدريك انجلز"
مخطوطات عام 1844 "كارل ماركس"
تطور الملكية الفردية "احمد محمد غنيم"
الأيديولوجية الألمانية "كارل ماركس وفريدريك انجلز"
تشريح التدميرية البشرية " إريك فروم"

المراجع باللغة الإنكليزية/
Social theory and social structure -- Robert K. Merton








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إخلاء مركز للمهاجرين في تونس ومظاهرة لترحيلهم ورفض توطينهم


.. الأمم المتحدة: دارفور معرضة لخطر المجاعة والموت




.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بإبرام صفقة تبادل فورية


.. طلاب نيويورك يواصلون تحدي السلطات ويتظاهرون رفضا لحرب غزة




.. نقاش | اليمن يصعد عملياته للمرحلة الرابعة إسناداً لغزة ... و