الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإختيار : الإرهاب كطريقة لعمل السلطة

مهدي خالد

2020 / 5 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


لا أحد ينكر الواقع ، ما يحدث كل يوم ، ما نراه يوميًا في نشرات الأخبار وعناوين علي مواقع التواصل الإجتماعي ، وما نعيشه علي مدار السنين السابقة : حيث عشرات من الضباط ومئات من المجندين يجري التنكيل بهم وتفخيخهم وإصطيادهم في كمائن وتصفيتهم ، وآلاف من السكان المحليين السيناويين فاقدين لأدني حقوق المواطنة جرّاء التخوين والتوصيف بالعمالة ووضعهم موضع الشك والمساءلة وبالتالي تعرضهم للتنكيل الأمني كثيرًا ، والإختفاء القسري وصولا للتصفية الجسدية ، ووطأة التهجير وإقتطاع أراضيهم ومنازلهم أو إستخدامهم كبيئة تمويه وإستغلال لنمو العناصر التكفيرية في داخلها ، وعشرات الآلاف قيد الإعتقال إثر مواجهة الدولة للإرهاب بقوانين الطواريء وأجهزة المخابرات ومباحث أمن الدولة ، يمضوا الشهور والسنين معتقلين إحتياطيًا علي ذمة قضايا كالإنضمام لجماعة إرهابية وتكدير السلم العام وإساءة إستخدام مواقع التواصل الإجتماعي ونشر أخبار كاذبة ...إلخ من قائمة الإتهامات المكررة وشبه المحفوظة.
هذا هو مجري الواقع ، واقع الحرب علي الإرهاب ، وما يرتبط به من علاقات متجسدة ، ومواطنين منخرطين بشكل مباشر ، تتأثر وتتوقف حياتهم علي الحرب علي الإرهاب ، وصولًا لملايين من المواطنين الذين لا أمان ولا حماية لهم إلا في ظل إستقرار الدولة وثبات مؤسساتها ، ملايين من المواطنين تحت خط الفقر بلا غذاء ومأوي ووظيفة وخدمات معيشية مع سلطة تستعرض عاصمتها الإدارية الجديدة ومشاريعها القومية العملاقة وخطابها الرائج الإعلامي عن الحرب وضرورة أن يتحلي الجميع بحس المسئولية الوطنية ، وإما سنكون كسوريا والعراق.
هذه المقدمة ستساعدنا علي النفاذ داخل مشهد "الحرب علي الإرهاب" ، القاعدة المادية والإيدولوجية التي يقوم ويتقوي بها شكل السلطة.
لننفذ إلي داخل العمل الفني ، نتجاوز مجرد "الفُرجة" إلي مضمون خطاب المسلسل ، لقراءة الرسالة السياسية التي يخبر بها القائمون علي العمل ، من الممثلين والأبطال -موظفين العمل الفني- ، وأيضا المنتجين والقائمين الإيدولوجيين ورعاة العمل.

مسلسل الإختيار : أكثر من مجرد عمل فني

لا يجب أن ننسي واقعنا اليوم حيث الظروف الإستثنائية بإنتشار وباء كورونا في العالم ، والدور الذي يلعبه الأطباء والتمريض والعاملين بالقطاع الطبي ، والمقابل والمردود المادي والمعنوي الزهيد لمجهودهم وتضحياتهم وتعرضهم المستمر لخطر الإصابة في ظل عدم توافر مستلزمات الوقاية والأمان وتردي المنظومة الصحية الذي لا يخفي علي أحد ، ولكن وسط هذا الزخم العالمي تكون حكاية "الحرب علي الإرهاب" هي محل إهتمام السلطة ، وبجانب المعطيات التي تم ذكرها بالمقدمة ، نستطيع تلمّس دور ومفهوم "الضابط أو رجل الأمن أو القوات المسلحة" في السلطة ، وكيف يلعب دورًا محوريًا في مرتكزات السلطة نفسها وخطابها الإيدولوجي عامة ، وعليه فالسلطة لا تمتلك سوي "الضابط" لكي تتباهي وتسوّق لنفسها ومخططاتها ، وتكرّمه وتطلق اسمه علي الشوارع والمدارس والمساجد ، وتقيم علي شرفه الأعمال الدعائية من أفلام ومسلسلات وإعلانات مدفوعة الأجر وخطابات طويلة تبث علي جميع القنوات الفضائية ، حيث في دول العالم التابع -كحالتنا المصرية مثلا - يلعب مفهوم "الحماية والأمان"دورًا أكبر من مفاهيم أهم كالتقدم الصناعي والتخطيط الإقتصادي والديمقراطية وحق العمل والطعام والسكن والعلاج ، بحيث تستطيع سلطة ما أن تقتنص الحكم بأية طريقة كانت -ولا سيما الإنقلابات العسكرية- وتُصدّر لشعبها خطابًا حول الحماية والأمان لكي تبقي ، ومن هنا تستطيع سلطة ما أن تبقي بإحتكارها لمفهوم الحماية القائم علي شيئين رئيسيين : إحتكار الجريمة بإحتكار القمع وإستخدام العنف وإستعراض القوة والعضلات من ناحية ، وإبتزاز عموم المواطنين بحجة توفير الأمن والحماية لهم مقابل خضوعهم وصمتهم.

إرهاب مستمر وإبتزاز مستمر

نتخيل أسرة من المافيا الطاليانية ، تغرس نفسها في حيّ/مقاطعة ، تحتكر الجريمة ، فيمكنها أن تسرق كيفما تحب ، بل وتمنع غيرها من الطامحين المجرمين في دخول حيّز سلطتها ، لكنّ هل ستربح وتترعرع وتصبح أكثر ثباتاً فقط بممارسة السطو والإجرام والإستئثار بما تستطيع سلبه؟
فلو أن سكان الحيّ وجدوا أن حياتهم معرضة دوماً للسرقة المباشرة ، بالتالي ستزداد الهجرة من الحيّ لإزدياد معدلات الجريمة ، وبالتالي سيُدرّ الحيّ دخل أقل ولن يكون فيه الشيء الكثير لسرقته من قِبل المافيا ، ولكنّ إذا كانت تلك العصابة المافياوية تحتكر الجريمة بالفعل فإنها ستغتني أكثر من خلال تعزيز المتاجرة والحياة الآمنة في الحي ، فأسرة المافيا ستعظّم سلطتها أكثر من خلال بيع الحماية :
- سواء ضد الجريمة التي سترتكبها هي نفسها (في حالة عدم الخضوع لها).
- او أيضاً ضد الجرائم التي من الممكن أن يصنعها آخرون ( مجرمون جدد ).

يتحدث مانكور أولسون في كتابه "السُلطة والرخاء" بأن :
" التراث المعقول والرمزي حول الجريمة المحتكرة يوضّح أن الإحتكار الآمن للجريمة عادة ما يفضي في حقيقة الأمر إلي إبتزازات حماية أكثر مما تفضي إليه الجريمة العادية ، وذلك إحصائياً ، فكلّما أصبحت بيئة ما أصلح للمتاجرة والعيش ، كلما كان إبتزاز الحماية أكثر حضوراً ".
فبإحتكار الجريمة فقط ، تتجّه السُلطة ، إلي الإنحراف بالموارد من الإنتاج والإنفاق العام الخدمي والمعيشي إلي أمور أخري : كالحراسة وأدوات التأمين والسلاح والشرطة والسجون والقضاء والتجسس والإرشاد والمراقبة.
وهكذا فإحتكار الجريمة يُقلل مقدار الثروة العامة ويحولها لخدم بأيدي المحتكرين والقائمين علي حماية المحتكرين.
وعليه فوجود مفهوم "الحرب علي الإرهاب" يفسح المجال لدولاب أعمال ضخمة من فرض السيطرة والقمع وتطويق السلطة ومقراتها بأسلاك شائكة وحوائط صد عملاقة ، كما تحيط تلك السلطة بهالة مقدسة تمنع عنها النقد والحديث بالأساس ، فلا صوت يعلو فوق صوت الرصاص ، والسلطة بحالة حرب دائماً ، أو هذا ما تحاول أن تصيغه السلطة حتي لا يكون سوي "الإخراس" لكل صوت في الإعلام أو الصحافة أو مواقع التواصل الإجتماعي.
فبإنتهاء مفهوم "الحرب علي الإرهاب" تنتهي آلاف القضايا الذي يقبع علي ذمتها عشرات الآلاف بالسجون والأقسام والمديريات ، بإنتفاء ظرف "الحرب علي الإرهاب" ينتفي معها حالة الطواريء العامة وسُعار البوليس ومباحث أمن الدولة ، ينتفي عمل أجهزة بوليسية وقضائية وبيروقراطية كاملة تعمل علي "هندسة الجريمة" بتلفيق القضايا و"تستيف الأوراق".

الرواية الأمنية والدينية للسلطة

المتابع لأحداث المسلسل سيجد تكرار مستمر لأسطورة "الدولة وجيشها القوي" وأبطالها ووحوشها وإعجازاتهم العسكرية ، حيث المؤسسة العسكرية هي الخير المطلق وتجسيد الوطنية وكل ما هو نبيل وعظيم وما يقابلها ويحيد عنها هو الشر المطلق الواجب محاربته ، فإما أن تنال الشهادة كالرائد منسي أو في مزبلة التاريخ كعشماوي ، وعليه فيتم طرح السؤال المحوري في العمل : الحق والشهادة والنصر والتضامن والتعاطف وصك الوطنية ، لمن؟!
نستطيع إسترجاع الجواب الشهير لبونابرت بمعركة واترلو علي سؤال أحد الجنود : الله مع المسيحيين الكاثوليك أم البروتستانت ؟
فأجاب الله مع أصحاب المدافع الأكبر.
فالحق والشهادة والوطنية والتعاطف والتضامن مع أصحاب المدافع الأكبر ، مع أصحاب الأيدولوجيا السائدة واللعبة السائدة ، رجالات الدولة بالطبع.
تظهر السلطة هنا بشكلها المفزع ، بكونها التعبير المكثف عن إحتكار كل شيء ، الشيء الغير قابل للجدال والخلاف ، ويصبح الإختلاف هو الإرهاب في حد ذاته ، والحديث عن الجيش والقوات المسلحة هو خيانة وخزي وعار ، والتفكير في السياسة والمعارضة جريمة يعاقب عليها القانون.
بهذا تتسيّد الرواية الأمنية المشهد العام ، وتصبح الفكرة المركزية ليس فقط لسيناريو المسلسل ، بل منطق السلطة وشكل وجودها ، الرواية الأمنية التي لا تهتم إلا بالثمن الذي يدفعه الضباط والمجندين ، فيتم إنتاج العديد من الأغاني والتقارير الحماسية ، والأكثر غرابة : الإعلانات الممولة لمجهودات رجال القوات المسلحة التي يتم بثها بالفواصل الإعلانية علي شاشات التليفزيون ، بجانب عمل درامي ضخم لتسطير وتأبيد تلك الرواية الأمنية.
والمتابع أيضاً يجد الرواية الدينية كثيراً ما تتردد ، والتي تضع المشاهد في مأزق حقيقي ، من ناحية تجد أنصار الجماعات الدينية مستخدمين جيّدين للنصوص القرآنية والأحاديث علي كافة الأصعدة الدعائية والتقريرية والتشريعية والتنظيمية ، وتلك الجماعات تنظر في الأصل للمجتمع بإعتباره "لا يحكم بما أنزل الله" ، وتلك هي المشكلة ، وحلها : هو حكم الله وشرعه.
ومن ناحية أخري تجد السلطة ودعايتها تزاحم الجماعات الدينية داخل الخطاب الديني ، حيث تنظر السلطة للجماعات الدينية بإعتبارهم مُغالين في الدين ومتشددين وتكفيريين -حيث يكفّرون السلطة وينعتوها بسلطة الطواغيت الكفرة- ، ويظهر الضابط لا بإعتباره يقوم بتدريب الجنود علي القتل وإستعمال السلاح فقط ، بل بإعتباره "مُربي ومعلم" يقوم بإلقاء خطابات أقرب للتنمية البشرية ، وأيضاً خطابات دينية صرف أشبه "بكُتّاب الأرياف" تتناول النص القرآني بتفسيرات "ساذجة ومصطنعة وتحفيزية" لخدمة النص -نص السلطة الإيدولوجية- بالأساس.
وبالنهاية لا يجدي مع المشاهد/المواطن سوي الإبتزاز العاطفي لحثه علي إظهار التضامن والتعاطف مع سيناريو السلطة ليس أكثر ، فالسلطة لا تُقدّم خطاب يقترب من العقلانية بالأساس ، بل تنازع الإسلاميين والجماعات الدينية علي إسلامهم وطريقة تفكيرهم ليس أكثر ، انها تخبر : أنها تمتلك الحق لأنها تمتلك الرؤية والتوجه الديني الأصح ، مفارقة من داخل الخطاب الديني لا تعطي مساحة إلا للنزعات العاطفية واللاعقلانية.

منطقة عسكرية ممنوع الإقتراب والحديث

من داخل ثنائية الخير المطلق والشر المطلق ، توضع دائمًا "القوات المسلحة" في الكفّة الأولي ، بإعتبارها كيان فوق الشعب ، وفوق أي تصور أو نقد وبالتالي فوق أي محاسبة ، وعليه يقع الجميع تحت سلسلة طويلة من الدعايا والثناء علي دور القوات المسلحة وجيشنا الوطني في تحقيق الأمن والأمان ، وكثيرة هي الكلمات والإكليشيهات التي اعتدنا علي سماعها ليس فقط علي شاشات التليفزيون ، ولكنّ لا ننسي أن الغالبية العظمي من الذكور المصريين هم وقود التجنيد الإجباري ويقضون من أعمارهم من سنة إلي ثلاث سنوات ، فالحياة "الميري" ليست بغريبة والجميع يعرفها ، سواء في قضاء فترة التجنيد أو الحكاوي العديدة بين الأهل والأصدقاء ، ولكنّ هناك جانب وزاوية رؤية للقوات المسلحة لا تخضع للتداول العام ، ولا تناقش في برامج "التوك شو" ولا مسلسلات الوطنية ولا في الحياة الميري نفسها : مشاريع وإستثمارات القوات المسلحة التي تستحوذ علي أكثر من ٤٠٪ من إقتصاد السوق ، التي تكمل تعبيد المجتمع وعسكرته ، وهذا تحققه القوات المسلحة علي مستويات عدة : الأول هو توافر العمالة الرخيصة التي تحققها معادلة التجنيد الإجباري الذي يقتطع العمالة من السوق ليستفيد منها مدة الخدمة الإجبارية ، والثاني هو اللاشفافية واللاعدالة واللاتنافسية التي يُخضع لها السوق من خلال تدخله ، والثالث هو التطويع الإيدولوجي من خلال احتكار الآلة الإعلامية من جهة ، وإحتكار التواجد في الشارع بمنافذ البيع الثابتة والمتحركة في كل ميدان التي يهدف من خلالها لا ضبط والتحكم في السوق فقط ، بل في جماهير السوق والسيطرة عليهم ، وهنا أصبح الجيش/القوات المسلحة عبارة عن شركة كبيرة : تبيع وتزرع وتستورد وتعالج وتحتكر وتتاجر وتبني عقارات وطرق وكباري وفنادق وتبيع لحوم وأسماك وتموين وأسمنت ولبن أطفال وخضروات وطماطم وأجهزة كهربائية وتنتج أفلام ومسلسلات وأغاني وتؤسس فرق كرة قدم ونوادي خاصة ومنتجعات وقاعات أفراح ومولات....إلخ من جهات إستثمارات المؤسسة العسكرية ، التي ممنوع الإقتراب منها والتصوير.

بالنهاية يتم تصوير "الحرب علي الإرهاب" كأزمة تعرقل سير الدولة وخدمة مواطنيها من ناحية ، ومن ناحية أخري تعزز وضع وبقاء السلطة وتمرير سياساتها من قروض وديون وتقليل الإنفاق الخدمي والتقشف وقوانين الطواريء والتنكيل بالمواطنين أمنيًا وإبتزازهم.
هذه هي الصورة الكاملة لمفهوم وواقع "الحرب علي الإرهاب" والتي لا تعتمد علي مجرد التعاطف والتضامن والتأييد ، بل تناول منطق الحرب ودوافعها والسياسة التي تحكم من وراءها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة ترفع شعار -الخلافة هي الحل- تثير مخاوف عرب ومسلمين في


.. جامعة كولومبيا: عبر النوافذ والأبواب الخلفية.. شرطة نيوريورك




.. تصريحات لإرضاء المتطرفين في الحكومة للبقاء في السلطة؟.. ماذا


.. هل أصبح نتنياهو عبئا على واشنطن؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. طبيبة أردنية أشرفت على مئات عمليات الولادة في غزة خلال الحرب