الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -آلة الزمن- بين الأدب والعلم

أمل سالم

2020 / 5 / 7
الادب والفن


في ندوة لمناقشة مجموعة قصصية لأحد الكتاب علق السيد رئيس الجلسة مبديًّا إعجابه بالمجموعة القصصية، كما أظهر تعجبه من كون الكاتب دارسًا للفيزياء والرياضيات، وحسب وصفه هي علوم جافة وعقيمة، وتساءل: كيف لدارس هذه العلوم الجامدة أن يأتي بكل هذا الجمال في مجموعة قصصية؟!

انتهت الحكاية، لكنها فتحت تساؤلاً أمامي، مفاده: ما العلاقة الحقيقية بين تطور الأدب؛ بإبداعاته المختلفة، وارتقاء العلوم التجريبية الطبيعية البحتة؛ كالفيزياء والجيولوجيا والفلك؟
فإذا قلنا أن العلوم الطبيعية تعني بالدرجة الأولى وصف الظواهر الطبيعية، والتنبؤ بها، وفهمها، استنادًا إلى أدلة تجريبية من الملاحظة والتجريب، ولذا يمكن اعتبار أن العلم التجريبي يعبر عن العقل في حالته الفكرية، وبمعنى أدق: فإن العقلية التي تعمل بالعلم التجريبي هي عقلية تعمل بالتفكير الذي يعتريه أحيانًا حالة وجدانية. على النقيض من ذلك يمكن اعتبار أن الأدب يعبر عن العقل في حالته الوجدانية، وعليه فإن العقل الذي يهتم بالأدب هو عقل يعمل من خلال حالة وجدانية تعتريها أحيانًا حالة فكرية.

العلاقة إذًا بين الاهتمام العلمي والاهتمام الأدبي هي علاقة ترتيب الأولويات، ولا يعني ذلك التباعد القصيّ بينهما؛ فقد أثبتت التجربة الإنسانية أن تطور كلاهما يصب في الآخر بصورة أو بأخري، وأن حالة الأواني المستطرقة تنطبق تمامًا على العلاقة بينهما. ولنأخذ أمثلة على ذلك:
في العام 1895 صدر للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز (H. G. Wells)‏ أول رواية خيال علمي؛ وهي رواية آلة الزمن (The Time Machine)،‏ وتحكي الرواية عن عالِم انتقل عبر الزمن إلى المستقبل البعيد، ويصف العالِم مستقبل البشرية المظلم حينذاك، حيث تباعدت المسافة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، ونتيجة لذلك التباعد ظهر جنسين من البشر، (الأيلو) وهو الجنس الذي يمثل أحفاد الأغنياء، وهو الجنس الضعيف الغبي؛ فلا حاجة له بالقوة ولا بالتفكير، فطبقًا لقانون البيولوجي " لا مارك" (Jean Lamarck) الذي ينص على: " إذا استعمل العضو فإنه ينمو، وإذا أهمل فإنه يضمر". فقد ضمرت عضلاتهم وعقولهم أيضًا نتيجة لعدم الاستعمال. وجنس (المورولوك) وهو الجنس الذي يمثل أحفاد الفقراء، وهو الجنس القوي الذكي، فهم يسكنون تحت الأرض ويعملون ويكدون دائماً كما كان يحيا آباؤهم وأجدادهم، حياتهم تلك مكنتهم من تطوير العضلات فأصبحت قوية وتطوير القدرة على التفكير.

ويمكن القول أن الرواية تتضمن نقضًا للدراوينية الاجتماعية التي كان الاعتقاد بها منتشرًا في اوروبا في القرن التاسع عشر؛ حيث ترى أنه من شأن القوي أن يرى ثروته وقوته يتزايدان، بينما من شأن الضعيف أن يرى ثروته وقوته يتناقصان.

المهم أن " ويلز" في هذه الرواية كان قد طور مقالًا بعنوان( The Chronic Argonauts) إلى هذه الرواية بناءً على طلب من الناشر لنشرها مسلسلة في جريدة يومية.
وفي حوار في الصفحة الثانية من الرواية عن الأبعاد الكونية(Cosmic dimensions) يبين الكاتب فكرته علي لسان الراوي، فنجده يقول:

“?Can a cube that does not last for any time at all, have a real existence”
Filby became pensive. “Clearly,” the Time Traveller proceeded, “any real body must have extension in four ---dir---ections: it must have Length, Breadth, Thickness, and—Duration.... There are really four dimensions, three which we call the three planes of Space, and a fourth, Time.

"هل يمكن أن يكون للمكعب الذي لا يستمر لأي وقت وجود حقيقي على الدوام؟"
أصبح فيلبي متأملًا. "من الواضح ،" تابع تايم ترافلر ، "يجب أن يكون لأي جسم حقيقي امتداد في أربعة أبعاد: يجب أن يكون له طول وعرض وسمك و- مدة زمنية. ... هناك حقا أربعة أبعاد ، ثلاثة نسميها الأبعاد الفراغية الثلاثة، والرابع، الزمن.

وهكذا يمكن القول بأن " ويلز" قد سبق أينشتين في توصيف الأبعاد الزمكانية، وأيضًا في استخدام مصطلح : " البعد الرابع" للتعبير عن الزمن، والذي ورد بعد ذلك بعقد كامل في نظرية النسبية لأينشتاين (The theory of Relativity) ‏وهي من أشهر نظريات الفيزياء الحديثة بشقيها الأول: وهو النسبية الخاصة، والثاني: وهو النسبية العامة. وهكذا سبقت الكتابة الأدبية الاكتشافات العلمية بل ومهدت لها.

كما أن هذه الرواية بالدرجة الأولي وبطريقةغير مباشرة ساهمت في وضع نظرية "Growing block universe"، والتي اقترحها برود(Charlie Dunbar Broad) لأول مرة في عام 1923. ووصف النظرية على النحو التالي:
أن هذه النظرية تقبل حقيقة الحاضر والماضي، لكنها ترى أن المستقبل ببساطة لا شيء على الإطلاق، ولا وجود له. الماضي واقع حقيقي مثل الحاضر، وأن الحدث في الوقت الحاضر هو إضافة شرائح جديدة من الوجود إلى التاريخ الكلي للعالم عند ذلك أصبح ماضيًا. من ناحية أخرى وطبقًا للنظرية فإن جوهر الحدث الحالي لا يكمن في أنه يسبق الأحداث المستقبلية؛ حيث ليس هناك أي شيء له علاقة بالأسبقية، وإنما في أن المجموع الكلي للوجود آخذ في الازدياد دائمًا، وهذا هو ما يعطي السلسلة الزمنية إحساسًا بالإضافة إلى النظام.

تتوافق هذه النظرية الديناميكية للوقت مع الحدس المنطقي بأن الماضي ثابت، والمستقبل غير واقعي، والحاضر يتغير باستمرار، وهناك أيضًا أسباب أخرى لدعم رؤية الكتلة الوقتية المتزايدة.
هكذا تكون رواية آلة الزمن قد ساهمت في تأسيس نظرية أخرى في علم الفيزياء.

نأتي إلى الحالة العكسية، فنتساءل: هل يمكن أن يؤثر العلم على الكتابة الأدبية؟؟
الأمثلة هنا كثيرة؛ فقد يتغير الأسلوب في الكتابة نتيجة لتزايد معرفة الكاتب العلمية. لكن الموضوع قد يتطرق إلى ما هو أعمق، لنأخذ مثلًا على ذلك فيما سمي بالرواية البوليفونية؛ أو رواية تعدد الأصوات (poliphony)، وهو مصطلح استخدم في الموسيقى ويقصد به أي موسيقى حيث يصدر نغمتان أو أكثر في نفس الوقت. أما في الأدب فيقصد به الرواية متعددة الأصوات، وبمعنى أدق وجهات النظر المتعددة في الحدث الواحد.

إن إزاحة الرواية من المونولوج إلى البوليفونية تحدث عنها الدكتور جميل حمداوي في كتابه " الرواية البوليفونية، فيقول: " فقد استندت الرواية البوليفونية، وذلك على المستوى الإبستمولوجي، إلى الفلسفة النسبية، التي شككت في المطلق واليقين والثابت والكوني منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالضبط مع الفيزيائي الألماني إينشتاين."

ونضيف أن علم الفيزياء، في مطلع القرن العشرين، وليس منذ منتصف القرن التاسع عشر، انتقل برمته من مبدأ اليقين إلى مبدأ الشك؛ عندما اكتشف دي بروجلي (Louis Victor de Broglie)‏ طبيعة الجسيمات المزدوجة (Dual nature) وهي تعني:" أن الجسيم كتلة وحركة موجية معًا". ومن معادلات التأكد إلى معادلات الاحتمالات عندما وضع العالم هايزنبرج (Heisenberg ) مبدأ الريبة (Uncertainty Principle) وهو يعني:" تحديد خصائص الجسم على وجه الاحتمالات"، وبمعنى آخر انتقل علم دراسة الجسيمات والموجات من الفيرياء الكلاسيكية النيوتنية (Classical Mechanics) إلى ميكانيكا الكم (Quantum theory). هذا بالتالي كان له مردوده الأدبي على الرواية؛ فتعمق استخدام فكرة تعدد الأصوات والذي لازمها تعدد الرؤى والمواقف، ولم تعد الرواية مجرد حكاية بل أصبحت تحتمل اختلاف التلقي؛ حسب ثقافة المتلقي، وحسب حالته النفسية، وحسب مخزونه التجريبي. هذا هو جزء من مردود التطور العلمي علي الكتابة الإبداعية الأدبية.

ومما سبق يمكن استنتاج أن المعارف الإنسانية تعضد من بعضها البعض، وتعمل على اتساع المفاهيم وخلق مفاهيم جديدة، وعلى المهتم أن يعيّ ذلك جيدًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع