الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محُ الذاكرة سرد

رندة المغربي

2006 / 6 / 17
الادب والفن


أسمع عنْ أنفلونزا الطيور .. أقرأ في الصحف عن ريشها المحروق ..
أشاهد على التلفاز دجاجة بيضاء تقفز من أخدود يستعر بنار أوقدت للآلاف منها تركض وتصفق بجناحيها المشتعلين تريدُ أن تطير أو تحلم بفضاء لا بشر فيه ..
الدجاجة المحاصرة من كل الجهات تدور حول نفسها واللهب يتسلى بالتهام ريشها المعفر بالتراب
يتسلى بإحالته إلى شيء معتم يُشبه دهاليز الذاكرة النائمة في جمجمتي ..
الصيصان ..
الصيصان الصفراء كالمح تتفتق من الألم تنقر الشاشة أمامي تنتظر معجزة تخرجها من التلفاز لتختبيء
في تجاويف إبطيّ المشعرة ..
أود الكتابة لأمي الآن ..!
أود أن "أفقش" بياض الورق ليسيل المح الأصفر منه تماماً كما كنت افقأ عيون البيض المقلي صباحاً بلقمة الخُبز فيسيل لزجاً خثراً كأطرافي وأنا أعالجُ الشوق لحضن أمي .. لرائحة أبطيها ..
أدس رأسي في جيب فُستانها المتضوع برائحة عرق الظهيرة المخلوط بالمسك المدقوق والمعالج بيد أم قاسم الشامية تعبؤه في علب بلاستيكية وتبيعه للسيدات المتزوجات والعرائس ليفتح شهية الرجال للحم الشرقي المترجرج في قمصان النوم الشفافة بمساءات صيفية!
أسمع صوت ديوك الشارع الصيّاحة تعتلي براميل القمامة تصفق بأجنحتها تمد أعناقها بعرفها القاني تأهباً لصياحها المتردد في الأزقة يُرجأ قتل شهرزاد ليوم آخر ليكمل الشرق عدد لياليه الألف بين كيد أنثى ولهفة فحل لمغامرة عذراء يلجُ خباياها !
ألمح شبابيك بيت جدي تفتح أجفانها على الحيطان الزرقاء الكالحة فتلمع عيون عمتي المتلصصة على الجارات والمارين في الأزقة ..
عمتي الأرملة لم يمهلها قدرها ليلة أخرى لتنام في أحضان زوجها المفقود وتفيق حُبلى متباهية ببطنها المنتفخة أمام الجارات ..
عمتي التي عشقتُ في حجرتها الدمى المصففة فوق رفوف المكتبة تخيط ثيابها بيديها تتسلى بالخيط والإبرة لتصل قماش الأيام ببعضه تحكي لي حكايات كثيرة تمشط شعري المنكوش وتجدله لجدائل مجعدة
تهيأ لي مكاناً على سرير الحديد المجدول مستلقية وأنا بين ذراعيها مشدودة لصدرها ، رأسي في فتحة نهديها الضخمان يتخبط باحثاً عن هواء يستنشقه !
يصرُ الحديد أسفلنا كلما تقلبت عمتي وأنا دمية بين ذراعيها ، عود من النعناع تشده إلى صدرها تهصره فيتضوع الأخضر ..
الأخضر صاحب الرائحة المعشوشبة ، تتسع لرئة وذاكرة ..
أترى يجدُ الرسام للرائحة ماهية في الألوان يشكلها ليمنحنا ذاكرة الرائحة أو رائحة الذاكرة ؟!

أغفو لأستيقظ على صوت أخي الأكبر يطالب عمتي بإطلاق سراحي لأعود لمنزلنا لريش أمي الرطب.
يُغريني المكوث في حجرتها الواسعة تحت سقف تدلت منه مروحة بثلاثة أشفار تدور على مهل طاردة ذباب الصيف من فوقها عمتي لها رائحة أخرى رائحة امرأة لم يشتمها أنفي الصغير بأمي ..
أمي فوق المسميات والأجناس لا أراها أنثى لا أراها امرأة لا أراها بنت مثلي!
هي وجود لوجودي وأكبر بكثير من بهلوانية الخيال و قوة التعبير هي أمي ..!
يشدني أخي من يدي يجري بي إلى الشارع خطوات بين دار جدي ودارنا نصعد العتبة الأسمنتية
يدق أخي براحته الباب الحديدي النحيل .. الباب الذي لم يمتلك يوماً جرساً كهربائي ولا مفتاحاً ظل ينغلق علينا بمزلاج من المعدن الصدأ ، "يقربع" كلما هبت رياح ويطقطق كلما زخ مطر!
الباب المصبوغ بالأخضر الفاهي تشرعه أمي كل صباح لأولادها السبعة لينطلقوا كالدجاج في الأزقة يتسلون بصنع كرات من الطين والوحل يجففونها تحت أشعة الشمس ثم يشنون حربا برفقة أولاد الحي على أولاد الأحياء الأخرى ..
الباب الذي ولجت منه لأكتب ذاكرتي كيف خبأ لي جسراً من الحنين لأصعد إلى أرواح المتسامين في السماء صعوداً والموغلين في الأرض موتاً ؟!
الباب الذي أكل عقبه الصدأ و قشرت الشمس بأظافرها صبغته الخضراء أ له الآن في ذاكرة أخوتي متسعاً لينفرج على عرصة طفولتنا ؟
أ يذكره أحمد و أمجد و حورية و الآخرون ؟
أ تطربهم ذاكرته المشرعة على بيتنا المكشوف للشمس و أصوات الجيران ونحن ننسل واحدا خلف الآخر مدججين بأدعية أمي ؟
تستقبلني أمي بصحن الدار بشعرها المبلل من حمام المساء برائحة صابون "الرقي" الأخضر
تشدني من ذراعي صارخة : ـ يقصف عمرك ، تحبين تلك الدبة أكثر مني !
أمي التي تنفش ريشها كدجاجة كـ "قرقة" تحتضن صيصانها تتوعدني بفلقة لو عاودت الذهاب لعمتي
تنزع عني بنطالي الذي لَمَ على أطرافه وحل الشارع حتى جف عليه و قميصي الذي تبرق أكمامه من مخاط أنفي تضعني وسط الطست المعمر بالماء الدافيء تحل جدائلا تفننت عمتي بتجديلها تصفعني على مؤخرتي الصغيرة تعمل أصابعها مع الصابون في رأسي تدخل إصبعيها في أذنيّ تنظفهما بالصابون
تلحني بالماء وتلفني بمنشفة كبيرة وتحملني على كتفها أسمعها تصرخ مستنكرة وجود عمتي التي أتت لتضع حداً لكنتهم من تحرمهم رؤية أولاد ابنهم ..
بعبائتها السوداء تضع عمتي يدها على خصرها ملوحة بالأخرى في وجه أمي :
ـ يا غريبة دخلتي بيننا كالسوس طلاقكِ من أخي على يدي
يحتدم الشجار في صحن الدار "الخناقة" تأخذ مجرى آخر من التراشق بالكلام إلى استخدام الأيدي
تقفز أمي بقامتها النحيلة على جثة عمتي الضخمة تخرمشها في وجهها تلوي شعرها على يدها وتسقطها أرضاً تعلو فوقها..
أراقبها وهي تمسح فمها بساعدها بحركة سريعة قبل أن تغرس أسنانها في صدر عمتي
"تولول" عمتي من الوجع تشقلب الوضع لتعلو فوق أمي ممسكة بفردة نعليها تضرب بها وجه أمي ورأسها ..
أسمع "همير" ينبعث من صدريهما أرى أمي تتفلت من تحتها و تحبو على أربعتها قاصدة المطبخ تعود وبيدها الساطور تتوعد به عمتي ..
الحرب لا ترحم !
المنهزم يتقهقر للوراء لقد أدخلت عمتي يدها في جحر عقرب ! تخطف عبائتها وتركض صوب الباب المشرع تخرج حافية القدمين تبكي داعية وساخطة يلحق بها أخوتي في الزقاق يرشقونها بالحجارة ينعتونها بـ "الدبة"
ثم تعود الصيصان لريش الدجاجة المنفوش !.. أمي تجلس على الأرض بشعرها المنكوش تتنفس بقوة وتبكي !
نتجمع من حولها نطوي المساء بين ذراعيها نختبيء بحضنها وتحت إبطيها أرى ريشها المتناثر هنا وهناك يلم لنا حناناً عظيم يفرش لنا الطريق بلهفة أم يصنع لنا من أفخاذها وسائد نسند عليها رؤوسنا و نغفوا بمأمن من حملات التفتيش الصحية تبحث عن صيصان ظلت طريقها المسائي في الأزقة وهي تحاول العودة لريش أمهاتها فتحرقها لحماية المجتمع من أنفلونزا الطيورمن مح الذاكرة من براءة الصيصان من طفولة تطل علينا فزعة في كل موجز أخباري !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي