الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الحروب الوقحة في الألفية الثالثة دراسة ذرائعية لرواية قيامة البتول الأخيرة ( الأناشيد السرية) للأديب زياد كمال حمامي
عبير خالد يحيي
2020 / 5 / 7الادب والفن
الحروب الوقحة في الألفية الثالثة
دراسة ذرائعية مستقطعة لرواية قيامة البتول الأخيرة ( الأناشيد السرية)
مقدّمة:
يقول داريدا: " إن شيئًا ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر لكننا لا ندري ما هو"
بهذه الحيرة والدهشة أشار داريدا إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر! ولعل أسوء ما في تلك الأحداث لم يكن الأحداث بحدّ ذاتها, وإنما تدعيات تلك الأحداث, التي وضعت العالم بأثره أمام صراع لا يمكن تحديد ماهيته, ولا الوقوف على أهواله التي تجاوزت بكثير فظاعات الحروب السابقة والتي يمكننا أن نطلق عليها مصطلح الحروب الكلاسيكية, فما هي طبيعة هذه الحروب الحالية والتي سنطلق عليها مصطلح الحروب المعاصرة أو الحروب الإرهابية ؟!
إغناء :
اخترت أن أبدأ دراستي بمقدمة لبحث منشور في موقع maaber.org بعنوان ( باراديغم الحرب العالمية الثالثة محاولة في تحديد مفهوم الإرهاب) كتبه /الفاهم محمد/, وهو باحث في قضايا الفكر الفلسفي من المغرب, في مقدّمة مقاله يستعرض القوانين والقيم الأخلاقية التي كانت تحكم الحرب الكلاسيكية :
....ورغم أن الحرب كانت دومًا تمثل الخطر الأقصى الذي ينبغي دفعه واستبعاده عن الأمة، إلا أنها مع ذلك وفي حالة قيامها فهي تنبني على أخلاقيات صارمة، تتعلق مثلاً في حالة الإسلام باحترام العدو وعدم التنكيل بأطفاله ونسائه، كما تفرض أيضًا قيودًا صارمة بضرورة احترام الطبيعة وعدم تسميمها، فالحرب ينبغي أن تتمَّ في نوع من الممارسة الفروسية النبيلة، والانتصار غير المستحق ليس انتصارًا شريفًا وإنما هو هزيمة مقنَّعة. إن المبدأ العام الذي كانت تقوم عليه معارك الماضي هو أن الهزيمة بشرف خير من الانتصار الغادر. كانت الحرب حتى في أبشع صورها أخلاقية لأنها لم تكن هدفًا في حد ذاتها، بل هي وسيلة من أجل وضع القانون وخلق نظام اجتماعي ما. غير أن المنعطف الذي تعرفه الألفية الثالثة بعيد كليًا عن هذا الأفق، فنحن لأول مرة في تاريخ البشرية نتجه نحو تأبيد الحرب وجعلها علامة مميزة للحضارة المعاصرة.
لفتني في البحث الفرضيات التي طرحها الباحث حول توصيف المعالم الأساسية لهذا الصراع, رافعًا إياه إلى مستوى الظاهرة ( ظاهرة الإرهاب) معتبرًا إياه نوعًا جديدًا من الحروب غير المعهودة في التاريخ. يضع الباحث هذه الحرب بمقارنة مع الحرب الكلاسيكية, لينتهي إلى أنها حرب مبدّدة لكل الموروث الثقافي والوطني لأي أمة تُبتلى به, فالحروب الكلاسيكية على الرغم من شدّة بطشها كانت نبيلة, لها قوانينها الحربية التي تحترم فيها إنسانية الخصم بكل ما يحمله من موروث وجداني وحضاري وثقافي, خارج حدود المواجهة, فكان الأسير قيمة يجب الحفاظ على سلامتها وأمنها حتى تنتهي الحرب ويسلّم بمعاهدة أو اتفاقية تبادل, والجريح يُعالج حتى يشفى ويُنظر في أمره, لا يُجهز عليه, كانت الحروب على الجبهات القتالية, وليس في الأحياء السكنية, وكان المقاتلون يتمترسون في الخنادق وليس وراء متاريس بشرية, أما حروب اليوم فهي إرهاب قذر, لا دين له ولا قانون ولا عقل ولا منطق, يقول :
" لقد كان للحرب لدى جميع الشعوب القديمة بل وحتى البدائية طقوسها الشعائرية الخاصة وموروثها الثقافي، الذي قد يتجلى في تعزيز الروح الوطنية، والإحساس بالانتماء لهوية حضارية ما، أو بسبب الممارسة الفروسية النبيلة. غير أن الإرهاب اليوم يعلن عن نفسه كتبديد لهذه الثقافة، أي كإهدار لما هو "إيجابي" في الحرب، واستكمال للوجه الآخر القذر لها. من هنا يبرز الطابع العبثي لمفهوم "الحرب على الإرهاب" ....
حول هذا التبديد الثقافي, تحت سيوف الحرب والإرهاب دارت أحداث هذه الرواية.
السيرة الذاتية للكاتب:
زياد كمال حمّامي :
- عضو اتحاد الكتّاب العرب/ جمعية القصة والرواية منذ 1993
- حائز على الجائزة الأولى للرواية العربية, ضمن جوائز الإبداع الفكري والأدبي جائزة د. سعاد الصباح لدورتين متتاليتين , الأولى في القاهرة عام 1993, والثانية في الكويت عام 1994 عن روايته ( الظهور الأخير للجد العظيم)
- المدير العام لشركة ( الأسطورة ) للانتاج الفني, سيناريست وعضو مجلس إدارة المسرح العمالي بحلب, ورئيس لجنة قراءة النصوص.
أعماله الأدبية:
1- سوق الغزل, مجموعة قصصية صادرة عام 1987
2- احتراق الحرف الأخير, مجموعة قصصية عام 1989
3- سجن العصافير, مجموعة قصصية عام 1994
4- الظهور الأخير للجد العظيم, رواية عام 1995
5- كلام.. ما لا .. يستطيع الكلام, قصص 2011
6- نعش واحد وملايين الأموات, رواية 2012
7- الخاتم الأعظم, رواية 2015
8- قيامة البتول الأخيرة , رواية 2018
التبئير الفكري :
المتتبع لأعمال الأديب السوري زياد حمامي يجد أنه كاتب وطني, تعتصره آلام الوطن, وتتحشرج في حنجرة قلمه غصّة قهر وهو يرى وطنه عرضة للسلب والنهب, يعيث فيه الفساد والفاسدون, يتآمر على حريته وكرامته كلّ من هبّ ودبّ, من الخارج والداخل, وطن كان حضنًا آمنًا لكلّ من وفد إليه, عدا عن أبنائه الذين نبتوا فيه, ولم يكن له نصيب كبير من الوفاء لدى العديد منهم, خانه الكثيرون, وباعه العديدون بأبخس الأثمان, مقابل عرض دنيوي, وسرقه الطامعون.
وعلى هؤلاء ( السارقين والخونة ) يركّز الكاتب عدسة قلمه, ليكشف سرقاتهم وخياناتهم, على الذين يسرقون تاريخه وحضارته, ويزيّفون هويّته الثقافية والفنيّة, يسرقون آثاره, ويشير صراحة إليهم, في داخل الوطن وخارجه, ويكشف الستر عن منظمات عالمية ماسونية تخطط وتنفذ عبر أذرعها المشبوهة وهي عبارة عن تنظيمات سرية شاذّة داخل الوطن, لا تنفصل بالمعتقد الفكري والديانة عن القاعدة الماسونية, يهودٌ اختاروا البقاء في هذا الوطن الخيّر, فلم يلفظهم حين حاولت الوكالة الصهيونية استقطابهم للقدوم إلى فلسطين في العام 1948, بل أمّنهم فيه وترك لهم حرية الاختيار, فكان جزاؤه منهم أنهم سرقوه بخديعة, وما كان بقاؤهم إلّا لهدف سرقته بطريقة ممنهجة, يعاونهم في ذلك الفاسدون المرتزقة من أهل البلد الجهلاء, الذين استباحوه حدّ الاغتصاب, تحجب جرائمَهم حربٌ عبثية لم ينتصر فيها أحد, ولم يكسب فيها إلّا تجّار الحروب من أهل النذالة والدونية. عالج الكاتب هذه الفكرة الخطيرة باستراتيجية قلقلة, فقد أعطى عنوانَين للرواية, فسار بطريق الإيهام, وبما أنّ روايته هي عمل واقعي فإن الإيهام كان سدًّا أمام المتلقي لإدراك بؤرة الكاتب وبؤرة النص عن طريق عتبة النص الأولى (العنوان), فالعنوان الجيّد يجب أن يتّصف بصفتين, الأولى قصر العنوان, والثانية: تركيز المحتوى في تكوينه, ليقود المتلقي نحو بؤرة النص الأساسية بشكل مباشر لا لفٌّ فيه ولا دوران, كما كانت ديباجة الرواية مبعثرة- وهذا أمر معذور فيه الكاتب- تعجّ بالمشاهد الباعثة على الشَّدَة والذهول من هول الواقع الذي فاق الخيال فعلًا, وذريعتي في ذلك اعتراف الكاتب نفسه, والذي قدّم به العمل, فقد دخل في منطقة كانت -وما تزال - تُعدّ محظورة, خطيرة كحقل ألغام وأكثر, فكان شجاعًا يبتغي التحرّر, لكن أيضًا كان مضطربًا ويائسًا, استنجد بالخيال للتخفيف من حدّة الواقع, فخلط بين الواقع والخيال والتبس عليه الأمر بين صحوة الجرأة والإقدام وخَدَر التشاؤم واليأس. يقول في مقدمة الكتاب:
اعتراف
قد يكون الواقع أغرب من الخيال, وأشد وطأة, وقد يكون اللامعقول في غرائبيته هو الواقع نفسه, أو هو الحقبقة المخفية, وأعرف إذ ذاك, إن ما نخشى منه لا بدّ من الولوج فيه, والمغامرة من أجله, ولهذا, أردت أن يدرك المرء ما يخفى في نفسه, وفي محيطه, وما يصاغ في الأقبية السرية, وفي الحارات, والأزقة الشرقية, ويحاكيه, أو يحاكمه, بلا توجّس أو خوف أو خجل, وهو ظاهر في حياتنا, ولكننا نخشاه, ونتستّرعليه, وقد تعوّدنا بحكم العادة والأعراف والتقاليد, ومن عدوى الخوف والظلم, ومن الاستعباد الرجيم, ألّا نكشف عوراته الفاضحة, وألّا نخوض في أسراره, وهذا أحد أسباب تخلّفنا, واستعبادنا, وعندما يتأكد المرء من ذلك, ويحاكم ذاته أولًا, سيعرف حتمًا, كيف سيشيد حياة مستقلّة حرّة, ولن أراها, أعرف ذلك, ولكنّها ستكون حياة مختلفة, لم نعشها, ولم نتمتّع بها, ولم نتفيّأ في ظلالها الدافئة.
من هذه البؤرة الفكرية الثابتة Static Core للأديب وللنص الروائي أنطلق إلى باقي المستويات الذرائعية:
المستوى البصري:
العتبة البصرية الأولى هي الغلاف كمكوّن تصويري: عن الصراع اللوني والتشكيلي
الغلاف الأمامي: لوحة -عندما عرضتها على محرك البحث وجدت أنها للفنان (نذير نبعة)- لشابة مليحة الوجه, لكن تعابير وجهها جادة وحزينة, تحمل بيمينها قنديلًا يضيء وجهها الأبيض وشعرها الفاتح, وقد تجمهر عند صدرها العديد من الأشخاص بظلال قاتمة, وكأنهم جميعًا في سرداب مظلم, جدرانه أطلال لمدينة مدمّرة, ينتهي السرداب عند صورة الفتاة, وفوقها فسحة سماوية صغيرة, وقد جاء ذكر تلك اللوحة في الرواية, والتي أراد البطل تجسيدها تمثالًا سمّاه تمثال " الحرية".
أعلى اللوحة عنوان الرواية بالنبط الكبير أو العريض باللون الأشيب :
قيامة البتول الأخيرة
( الأناشيد السرية )
رواية
تحت اللوحة اسم الكاتب زياد كمال حمامي
الصراع اللوني : كان بين :
اللون البني : وهو من الألوان التقليدية والمحايدة و يدل على المرونة والأمن والشعور بالقوة, إلا أنه في بعض الأحيان قد يحفّز مشاعر الوحدة والحزن.
والأسود: الذي يرمز إلى سوء الحظ والتعاسة والحزن, فهو لون سلبي يدل على الفناء,
واللون الأصفر الضوئي: الذي يعبر في بعض الأحيان عن الإحباط والغضب والقلق.
وهذه العتبة البصرية الأولى هي مكوّن بصري صُوري ولَوني- بتلك اللوحة وتلك القتامة- موازٍ لمضمون النص المكتوب, وانتقاء موفّق من الكاتب.
الغلاف الخلفي : صورة الأديب وتحته كلمة تعريفية مختصرة بموضوع الرواية للناشر, طويلة, ولم أجدها مقطوعة سردية مشوّقة كما ينبغي, لو تُركت تلك المهمة للكاتب أو لأحد النقّاد لكان أفضل.
العتبة البصرية الثانية العنوان كمكوّن نصي موازي:
لاحظت في البداية أن للعمل عنوانين, ولا يمكن أن يكون عنوانًا واحدًا طويلًا هكذا, أو عنوانًا رئيسيًّا وآخر فرعيًّا, حتى ولو كان العنوان الثاني موضوعًا ضمن قوسين, وحسبت أن الكاتب لا يمكن أن يفعل ذلك غافلًا, وإنمّا عامدًا, فالعمل ليس أول عمل له, وله باع طويل في الأدب السردي والقصصي, وله خبراته ومهاراته ومعرفته الأدبية الكبيرة في هذا المضمار, فلابدّ أنه فعل ذلك قاصدًا, وفعلًا كان ما حسبته صحيحًا, فالكاتب يضمّن عمله الروائي موضوعَين هامَّين, أحدهما ديباجة للآخر, لذلك وضع عنوانين, ولكني لم أجد ذريعة لتصرّفه الإجرائي هذا, فلا يوجد عنوانان لعمل أدبي, كما لا يوجد اسمَان لشخص واحد, وإنّما هناك اسم ولقب, سيّما وأن الكاتب قد استند على الواقع الإنساني والعلوم المرافقة, وهو يوجّه عمله نحو متلقٍّ يهمّه أن تكون اللغة أداة توصيل, طالما أن العمل مكتوبٌ وليس منطوقًا, فلو كان منطوقًا لتحقق التواصل عبر اللغة المحكية وليس المكتوبة, ولو أنّ الكاتب عطف العنوان الثاني على العنوان الأول بحرف العطف ( الواو) لكان أفضل, ولأعطى مدخلًا واسعًا يعبّد الطريق نحو فهم إنساني وعلمي للمحتويات السردية والبؤرة الأساسية للكاتب والنص, مع ملاحظة أن العنوان الطويل ليس محبّذا في أي عمل أدبي.
العنوان الأول : قيامة البتول الأخيرة
المعنى القاموسي :
قيامة الأموات: انبعاثهم من الموت
البتول: هي العذراء, البكر
مكوّن نصّي يتناص مع قيامة السيد المسيح بالدين المسيحي, والبتول تناصّ بالصفة مع السيدة العذراء
والعنوان بالكامل ملخّص لقيامات وانبعاثات كثيرة لعذراء تدعى البتول, تمّ اغتصابها وفضّ بكارتها من قبل خمسة مجرمين أفرزتهم فوضى الحرب العبثية, شهد الجميع انتحارها, لكنهم لم يجدوا جثّتها, فكانت تظهر مرات عديدة بشكل أثيري أو طيف للكثير من أهل الحي الذي جرت فيه أحداث الرواية, وهذا على المستوى الواقعي, أمّا على المستوى الدلالي الرمزي, فالبتول هي المدينة ( حلب) أو البلد(سوريا) التي تمّ اغتصاب بكارة خيراتها مرارًا وتكرارًا, ولم تمت, وكان لها انبعاثات كثيرة, بعد كل سقوط, وتكون لها قيامة أخيرة على دماء طاهرة مخلّصة.
العنوان الثاني: الأناشيد السرية
الأناشيد في اللغة: هي رفع الصوت بالشعر الحسن والكلام المباح بصوت رجل أو مجموعة رجال.
وقد اشتهر عند اليهود احتواء أسفارهم التوراتية على العديد من الأناشيد, مثال سفر نشيد الأنشاد الأصحاح الأول.
أما الأناشيد السرية التي قصدها الكاتب فهي أناشيد تحوي رسائل أو شيفرات سرية, ينشدها جماعات من اليهود في طقوس احتفالية معينة, سنتعرّف عليها مع مجريات الرواية .
على المستوى الرمزي : هي المؤامرات المحاكة من تلك الجماعات الماسونية, بغية السيطرة على العالم.
ما يجمع العنوان الأول والثاني علاقة سببية شرطية, بمعنى أن القضاء على الأناشيد ( المؤامرات) السرية, سيكون السبب والشرط لقيامة البتول الأخيرة.
هي رؤيا استشرافية, يراها الكاتب ستتحقق.
العتبة البصرية الداخلية : وهي بالحقيقة :
الخلفية الأخلاقية للعمل :
وهي جزء متمّم من المستوى الأخلاقي, الذي يضم التبئير الفكري والخلفية الأخلاقية, مقدّم على شكل صورة بهيئة مخطوط قديم, خُطّ ّعليها جزء من رسالة الإله بعل: إله البرق والعواصف والأمطار 5000 عام قبل الميلاد.
"سورية بلدكم, أينما
كنتم. وهذا حقكم.
فحطّم سيفك, وتناول
معولك.
واتبعني لنزرع السلام
والمحبة :
أنت مركز الأرض"
وهي رسالة محبة وسلام واحتواء, اختارها الكاتب لتكون رسالته الإنسانية والأخلاقية والوجدانية, ترفد خلفيته الأخلاقية, وأيديولوجيته الوطنية والإنسانية, وفيها رفض واضح لكل الأيديولوجيات والنزعات الطائفية والعنصرية والعرقية, ودعوة للبناء والسمو بعيدًا عن الصراعات والحروب والنزاعات الطائفية والعقائدية التي لا تخلّف إلا الدمار والخراب والفناء للإنسانية, مخالفة الهدف الأساسي من خلق الكون, وهو إعماره بالأيدي الخيّرة لتحيا فيه الإنسانية وكلّ ممالك الله الأخرى. فالكاتب في هذا العمل سلّط الضوء على حالة من التعايش السلمي والحياتي بل والمصاهرة بين المسلمين واليهود الذين كانوا يعيشون في ذلك الحي, دونما استنكار لأي علاقة حبّ أو زواج بين مسلم ويهودية, ولم يضع كل اليهود ببوتقة واحدة, فالغدر الذي ظهر من أبراهام وجماعته, تبرّأت منه روز زوجته, بإظهار إخلاصها وحبّها للبلد الذي ولدت فيه, وعاشت عمرها بين أهله جيرانًا وأصدقاء. كما أن إلين الأرمنية هي من أسعفت يحيى وهو جارها بالحي وفرد في إحدى الجماعات الإسلامية القتالية المتشدّدة.
بعدها اعتراف من الكاتب كنت قد أشرت إليه في معرض حديثي عن استراتيجيته.
العمل يقع في أربعة فصول, مطروحة على بياض 313 صفحة, الفصول غير معنونة, ومقسمة إلى أجزاء متفاوتة في المساحة, غير متساوية بالعدد, فهناك 20 جزء في الفصل الأول, و18 جزء في الفصل الثاني, و21 جزء في الفصل الثالث, 21 جزء في الفصل الرابع, وهي أقرب ما تكون إلى المشاهد الدرامية السناريوهية, وذريعة ذلك أن الكاتب بالأصل سيناريست, مهنته معكوسة على تكنيكه في الكتابة, المشاهد غير معنونة أيضًا, بل مرقمة بأرقام, تشكّل بمجموعها مشهدًا بانوراميًّا, تتنوّع بين السرد الحدثي والوصفي.
التنسيق المطبعي جيّد, من حيث الهوامش والفقرات والسطور وعلامات التنقيط, الأخطاء الإملائية قليلة بل نادرة, هناك عمل إجرائي, بصري من الكاتب حاول فيه نقل الصوت والحالة الشعورية عبر تكرار بعض الأحرف في بعض الألفاظ وكأنه يريد من المتلقي أن يسمع ترداد صدى صوت عالٍ أو عميق, مثال: آآآآه ما هذه الحرب المؤلمة؟!, كما عمد إلى تقطيع أحرف بعض الألفاظ لينقل حالة شعورية وحركية بإيقاعها الداخلي, مثال: والدائرة ما زالت تدور.. وتد..و..ر..
ضمّن الرواية صورتين فوتوغرافيتين, إحداهما لأيدٍ أو أكف جماعة ( أبناء الحليب), في بنصر كلّ كفّ منها خاتم فيه فص تظهر فيه نجمة داوود السداسية, والصورة الثانية لتمثال الحرية العربي الأموري السوري, وإلى جانبه تمثال الحرية الأمريكي المقتبس من إله الحرية السوري, نعتبرهما من ضمن الإغناء المعلوماتي.
التجنيس العمل : رواية أدب حرب واقعية معاصرة تتبع مدرسة الفن للمجتمع .
المستوى اللساني:
أتناول فيه الوحدات أو البنيات التالية:
البنية الثقافية:
للكاتب مخزون وفير من الثقافة الفكرية واللغوية والفنية والتاريخية الساندة, أحسن استخدامها, وأجاد توظيفها في عمله الأدبي, بانتقائه الألفاظ الخاصة بكلّ ثقافة, فعلى صعيد الثقافة الفنية مثلًا نجده يتكلم عن الفن السوريالي مستخدمًا ألفاظًا تخصّ هذا الفن بالذات:
- اختصّ بعد تخرّجه بالنحت على الحجر والرسم السوريالي فوق الواقعي, لاعتماد ذلك على التلقائية الانفعالية, والتعبير عن الأفكار اللاشعورية بالقفز فوق الواقع, واستنهاض العقل الباطني,.... على نمط " سلفادور دالي" , " فلاديمير كوش" .....
استخدم ألفاظًا من اللغة العبرية مثل :
الميزوزا : وهي قطعة أسطوانية صغيرة من الخشب وبداخلها مخطوط صغير دوّنت فيه بعض الأدعية التوراتية, تثبت على الباب الخارجي, لعلّها تجلب الحماية الإلهية.
القدوس: حفل الزفاف.
المينورا: الشمعدان ذو الأذرع السبع.
استخدم ألفاظًا شعبية ووضعها بين قوسين ليدلّل على غرابتها :
فعل القطع و " القطش", الداية, ضرّابة الإبر, عقوبة " الفلق" ....
كما استخدم كلمات أغاني محلية بتصرّف :
ليزا .. ليزا يا حياتي.. أنا بحبك .. واسألي قلبك .. أنا بحبك يا لي...زا.
البنية الإشارية :
استخدم الكاتب المحكاة بكثرة, ولعل أهم مواضع استخدامها كان في مشهد اجتماع نساء الحارة في العزاء المقام لراحة روح البتول, حيث حاكى فيه مجلس الأمن:
- لوكان رجال الحارة أحرارًا, واستطاعوا حماية البتول بقوة عزيمتهم وتوحّدهم , لما استطاع أحد ما اغتصابها .... صفحة 48- 50
إشارة إلى تفرّق العرب وضعفهم وتشتت أمرهم, لنجد أن ( ما) إشارة تعود إلى نكرة غريب.
البنية اللغوية :
اعتنى الكاتب ببناء الجملة والتراكيب, فانتقى مفرداته, وأحسن تنضيدها في تراكيب تراوحت بين القصيرة والمتوسطة, مرتبة حسب علم النظم والنحو العربي السحري( فعل وفاعل ...), فكانت رشيقة في انتقالاتها, توائم سرعة الأفعال الحركية المتتالية بترتيب ممنهج, متحرّرًا من الكثير من أدوات الربط ( أحرف العطف والأسماء الموصولة...) :
يرفع يده, يمسح جبهته, يشعر بانقباض حاد, وتجمّد في أنامله الرقيقة, يطلق زفرة طويلة, ثمّ يسحب نفسًا عميقًا, يتفحّص كتلة الرخام البازلتية, يعاود طرق الإزميل بهدوء.
البنية البلاغية :
مفيدًا من علم البديع والبيان, بنى الكاتب الكثير من الصور البلاغية, وأكثرها استعارة وتشبيه:
- يتمطمط السور النائم منذ مئات السنين, تحت أنقاض حلب الثالثة, العميقة المخفية.
- تنير الشموع المتوزّعة في زوايا عالمه المحطّم, المقيّد, ومنابع أحلامه الجافة هنا,
- في وكر أيّامه يخفي مدافن خيباته, وانكساراته كضربات الإزميل المتتالية.
المستوى المتحرك:
التجربة الأدبية الإبداعية للكاتب: سأقف على معالم هذه التجربة من خلال دراسة البناء الفني والبناء الجمالي للعمل:
• البناء الفني:
اختار الكاتب أن يشيد بناء عمله فنيّا على الثنائيات, توحّدت في:
الزمكانية: فالزمان: زمن الحرب القائمة في سوريا وإلى الآن, وتحديدًا من العام 2013 حين انتقل أوار الحرب إلى حلب, هذا هو الزمن العام, أمّا زمن الحدث فهو خلال فترة هدنة بين الأطراف المتصارعة ( الجيش النظامي والمعارضة المسلحة) مدّتها 48 ساعة, وما بعدها بقليل.
والمكان : حارة اليهود أو حي البندرة.
وضع الكاتب عنوانين ( تكلمت عنهما سابقًا)
وطرح موضوعين :
أحدهما مضمونه الحرب القائمة في سوريا, والثاني مضمونه سرقة التراث الثقافي والحضاري بمؤامرات سرية من منظمات ماسونية.
الموضوع الأول :
يبدأ بحدث اغتصاب البتول مرارًا وتكرارًا على يد همجيين فاسدين طرحتهم الحرب في بدايتها, قتلوا والدها وتداولوا اغتصابها, والبتول هي أجمل بنات حارة اليهود : البندرة, شهد كل أهل الحي منظرها المريع بعد الاغتصاب, ولم تحتمل عار الاغتصاب, فألقت بنفسها من سطح البيت, لكن لم يُعثر على جثتها, فلم يجزم أحد بموتها, وجعلوا لها في مكان سقوطها المحتمل مقامًا, كانت هذه بداية الأحداث في هذا الموضوع, ومن خلاله قام الكاتب بتقديم شخصياته, حتى الشخصيات كانت ثنائيات متقابلة ومتعاكسة, الشخصية ونقيضها أيديولوجيًّا, ومع ذلك لم يكن هناك تشابك سردي بمعنى الصراع الحدثي الدرامي بين الشخصيات, فكل من شهد انتحار البتول أقسم على الثأر لها, لكن الأحداث مضت في طريق التسلسل الموضوعي للحرب, فكان صراع الشخصيات مع ظروف الحرب, وليس بين بعضها, فقط, وعلى ضوء الحرب صنّف الكاتب شخصياته, تصنيفات عديدة, لكن أبرزها شخصيات خيّرة وشخصيات فاسدة جرفتها الحرب بذات المجرى, فلم تتح لها التقابل لتتصارع- إلّا ضمن حبك فرعية- فكان محورَي التكوين والمعارضة متوازيان على قاعدة البداية فيه, لم يتقاطعا مع محور توليد الأحداث في عقدة, ولم يتشكل منهما مثلث صراع, ولم يتشكّل أيضًا مثلث انفراج, فبناء الحدث جاء بالاعتماد على الأحداث العامة, وليس على الشخصيات, لذلك شهدنا نهاية مفتوحة مستمرة إلى الآن, فالحرب لم تنتهِ بعد, ومازالت تداعياتها وتطوراتها التوسعية مستمرة, قد تكون نهايتها الحتمية احتمالية, لكنها مفتوحة على كلّ الاتجاهات السلبية أو الإيجابية.
ولقد صنع الكاتب من هذا الموضوع ديباجةً لروايته الأصلية (الموضوع الثاني), ليجذب القارئ, وكأننا أمام شاشة عرض بانورامية شكّلت أرضية معقولة وبيئة منطقية للرواية, وهذا تكنيك يحسب للكاتب.
هذه الحبك الفرعية جعلها الكاتب تصبّ في المجرى العام للحبكة الأصلية بذريعة التشويق, كمن يقدم طبقًا من طعام مع مقبلات ليداعب شهية الزبون, داعب الكاتب شهية المتلقي بتلك الديباجة, وتلك نقطة وتكنيك خاص تُحسب كخطوة إبداعية نحو الأمام باتجاه أهم مرتكز سردي في عصرنة الحدث الروائي وهو (التشويق).
أعطي أمثلة عن بعض الحبك الفرعية:
أبو جمرة المرتزق الذي ينفذ مع مجموعته عملية سرقة التمثال من المتحف, والتي تنتهي بمقتل الحارس, تفرّ زوجته البدوية (نوفا) مع عشيقها (مساعده) تاركة له ورقة إن الجنين الذي في بطنها ليس منه, ليكون جزاء الخيانة خيانة.
الثريا المرأة العمياء التي تهرب من سجن أختها المستبدة البخيلة أم القطط لتستقبلها أم عبد السلام وتعتبرها أختًا لها لم تلدها أمها, ولتكتشف بعدها مع أهل الحي أن أختها أم القطط جالسة على كرسيها الكبير ميتة, متفسخة الجسد, واحتل جلدها الذباب الأزرق, الذي كان السبب في وباء أصابها وأصاب قططها نتيجة للنتانة والقذارة التي كانت تعيش فيها, وحولها العديد من قططها التي ماتت من الجوع والعطش, ليعطي الكاتب عبرة ( الجزاء من جنس العمل).
الجقجوق, مغتصب النساء الموتى, الذي يتلقف ما تطرحه الاشتباكات من جثث, فينتقي منها جثث النساء, ويدخلها إلى دار مهجورة ( خرابة) ويقوم بتجريدها من الثياب والحلي, ويمارس معها شذوذه الجنسي, يكشفه الكلب ميمو والثريا العمياء, ويقوم الأهالي بقتله.
بعد كلّ قصة من تلك القصص كانت البتول تظهر كطيف! تحدّث من تظهر أمامه, وتضعه في مواجهة مع ضعفه, وكان ظهورها بنظرهم قيامة, بعد القضاء على كلّ مفسدة, فهي على هذا الاعتبار قامت قيامات عديدة, من ضمنها قيامتها وانبعاثها في تمثال عبد السلام, وآخرها قيامتها عند استشهاده.
التشابك السردي في الموضوع الثاني:
شهدنا فيه مثلث صراع ومثلث انفراج ونهاية محسومة, البداية كانت من علاقة الحب التي بدأت قديمة بين عبد السلام الشاب المسلم والنحات, وبين ليزا الشابة اليهودية ابنة أبراهام فراحي الحارس السري للمعبد اليهودي في حي البندرة, قد تكون قصة الحبّ صادقة, لكن هناك إشارات يلقيها الكاتب من خلال تدفق تيار الوعي والذكريات عند عبد السلام تشكّك بذلك, لنجد أن كل الأمور حتى الحرب التي أرعبت كلّ أهل الحي, جاءت في مصلحة المهمة والمؤامرة التي كان أبراهام يخطط لها مع الوكالة الماسونية (أبناء الحليب) - والتي كانت ليزا من أهم أعضائها وتستعد لتتويجها ملكة فيها- لسرقة تمثال (الإله حدد) من المتحف الوطني, تستخدم الوكالة بعض المرتزقة مثل أبو جمرة وجماعته, فيسرقون التمثال من المتحف مستغلين فوضى الحرب, بعد قتل الحارس, يستغل ابراهام حب عبد السلام لابنته ليزا, ويفاوضه على صور تظهره بأوضاع جنسية مع السائحة اليهودية سوزان, السائحة الكندية من أصول حلبية, والتي قضى معها ليلة في فندق البارون, وأرسلت له بعد سنوات صورة طفل ادعت أنه منه وعندما قامت الحرب أرسلت تطلب منه اعترافًا بنسب الطفل له, فاوض ابراهام عبد السلام على إخفاء هذا السر عن ليزا مقابل أن ينضم عبد السلام إلى جماعة أبناء الحليب التي رفض في السابق الانتماء لها رغم كل محاولات ليزا لإقناعه بها قائلة قولتها الشهيرة:
"إذا لم تستطع أن تغيّر العالم, غيّر نفسك, وكن من النخبة التي لا تستطيع أن تفعل ذلك"
ويكون أول مهامه أن ينقل التمثال المسروق من قبو منزل أبراهام إلى خارج المدينة, مستغلًا أيضًا الفوضى الخلاقة بعد توقف الاشتباك بين المتحاربين, جيش النظام والجماعات القتالية المعارضة, على اعتبار أن عبد السلام نحّات معروف, وجود التمثال بحوزته أمر طبيعي, تمثال يدّعي أنه نحته, معتمدين على جهل العناصر الموضوعة على الحواجز, يتم إخراج التمثال في تابوت كان من المفترض أن يحوي جثمان (روز) زوجة أبراهام التي ماتت إثر نوبة اختناق بأزمة تنفسية, عندما أجبرها أبراهام هي وليزا على الاختباء في القبو الرطب العفن, يخرج عبد السلام بالتمثال, كما هو مخطّط, لكنه لا يتجه إلى خارج المدينة, وإنما يتجه إلى المتحف الوطني, يقتحمه وسط مخاطر إطلاق الرصاص عليه, وإصابته فعلًا, لكنه يصل المتحف ويعيد التمثال إلى مكانه محبطًا مؤامرة السرقة, ومغيّرًا نفسه, يستشهد, ليكون من النخبة التي استطاعت أن تغيّر نفسها, وتهب حياتها لفنّها ووطنها, طالما أن تغيير العالم غير ممكن, لأنه إنجاز فوق قدراتها.
الانفراج والنهاية :
اختار الكاتب انفراجًا مدمجًا للموضوعين, شكّلها عبر انفراج حدثي واقعي, وهو استشهاد عبد السلام, ومغادرة أوهروب أبراهام وليزا من ساحة الأحداث, وثاني تخييلي, بظهور البتول أمامه في لحظات احتضاره, ينتهي الانفراجان بنهاية واحدة مفتوحة على الواقع و التخييل, بظهور الحمامة البيضاء في سماء المتحف الوطني وتهاديها جانب جثة عبد السلام, وهذه براعة سردية, تبرز تمكّنه من الإمساك بكل خيوط النسيج السردي, وإطلاقها لتصب في بوتقة انفراج واحد, كما جاء بالرواية:
يترنّح عبد السلام فوق دمه الساخن, ونزيفه, وقد انهار جسده, وتوقّف الزمن في خفقان فؤاده, ولومضة خاطفة, تهيّأت له البتول, هاهي ذي تقفز أمامه بفرح, تطير كفراشة, ترتدي ثوب زفافها الأبيض, تنظر إليه بمحبّة, وشوق, يمدّ يده إليها, تشير له أن يطير مثلها, فوق حقول القمح, وبساتين الورد, فوق قلعة المدينة, أسواقها, ودخان مصانعها, يبتسم, يتدفّق الدم من فمه ساخنًا, نديًّا.
النهاية :
الحدث الأخير:
فجأة .. ظهرت في السماء حمامة بيضاء , تهادت برشاقة جانب جثة عبد السلام, أدمعت العيون الغافية, في لحظة لن ينساها سكّان المدينة, حتى نهاية العالم.
استخدم الكاتب الطريقة الحديثة ببناء الحدث في موضوعه الأول (الحرب): والتي تبدأ من التأزّم وعاد إلى الماضي flashback مستخدمًا التقنيات السردية الراجعة:
كتيار الوعي Stream of consciousness, والذكريات Memories.
ومن خلال تلك التقنيات, وبالإضافة إلى السرد الحدثي المباشر, عرّج الكاتب على الكثير من القضايا, أبرزها قضايا الفساد المجتمعي, والطغيان السلطوي الذي جعل للكثير من أصحاب السلطات أياد طويلة, تسرق وتنهب وتستولي, وتبطش وتروّع وتعتقل, وتكمّمم الأفواه, وتوزّع المناصب على غير الجديرين, قضية اغتصاب الفتيات الأحياء والأموات, وتزويج القاصرات, وحرق الدور وقصفها بالقذائف, وقتل الشرفاء, وكانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوّة, والتغريبة والتهجير حكاية يرويها أبو الرمز, وكذلك القضية العراقية, أمّا قيام الكيان الصهيوني في فلسطين وبروتوكولات الماسونية العالمية لتجريد العالم العربي من جذوره التاريخية والحضارية, وطمس هويته الثقافية, وسرقة آثاره أو تقليدها- وهنا تأتي ثنائية تمثال الحرية الأموري السوري ونسخته المقلدة تمثال الحرية المريكي- فكانت موثّقة توثيقًا معلوماتيًّا في هذا العمل.
واستخدم الطريقة التقليدية التي تعتمد على التطور السببي المنطقي من البداية إلى العقدة ثم النهاية في موضوعه الرئيسي (سرقة التراث).
المكان السردي:
إن الحيّز المكاني في النصّ السّردي هو الفضاء الذي تتحدّد داخله مختلف المشاهد، والصور والمناظر، الدلالات والرموز، التي تشكّل العمود له، إذ يُعـــدّ الخلفية المشهدية للشخصية القصصية، فهو مسرح الأحداث، والهواجس التي تصنعها الذاكرة التاريخية برموزها المتنوعة، مادامت صيرورة النص ليست سوى جزء من صيرورة الواقع، وآليات المكان، ما هي إلاّ وسيلة من الوسائل الرئيسة لرصد الواقع على مستوى السرد، وما بعده أي على مستوى الموقف والرؤية.
فالمكان يسم الأشخاص، والأحداث الروائية في العمق, وعلى حدّ قول /غالب هلسا/ : "فالمكان هو الذي يلد الأحداث قبل أن تلده، فيعطينا تصوّرًا لها وللأشخاص وللزمان".
هذا العنصر الفنّي الهام ( المكان), وطريقة بنائه من قبل الكاتب, يضيف إلى تجربته الإبداعية نقاطًا مرتفعة, وكأنّه هندس المكان بخبرة مهندس ديكور بارع يعمل في استديوهات شهيرة, وأعود لأؤكد أن مهنته كسيناريست جعلته يهتم بذلك.
المكان العام : كان حارة البندرة, مسرح الأحداث الرئيسي, وصفها بجماداتها وشخوصها وزمانها الحاضر كما يلي:
هذا الحي الذي نسيه الزمن, وأهملته الحكومات المتعاقبة, تقطنه مجموعة من من مختلف الطوائف والمذاهب والأديان...
.... كانت الأزقة تغطّ بالغباريات والعتمة, يوشمها الدخان, ويفصمها الركام, وقد تناثرت أبواب دورها الشرقية الحجرية, وتهدّمت محلّاتها, وسراديبها الخفيّة, وكنيسها الذي أغلق منذ عدّة أعوام, وتتمّ حراسته سرّيًّا. النوافذ محطّمة, الأبواب متناثرة, الشظايا الحادة تملأ الأفنية والأسطحة, أمّا الجدران الحجرية المائلة فإنّها على شفير السقوط من تلقاء نفسها, وقد تهدّمت أجزاؤها, ولعلّ أكثرها يصمد اليوم...
والمكان أيضًا في ذات الوقت يخطع لقانون الثنائيات البارادوكسية, وهي استراتيجية اعتمدها الكاتب, فهناك القبو والفناء, وهناك الفيللا والخرابة.
وهناك القلعة وسورها وفندق البارون, والمعبد والمتحف, وحمّام الحارة الشعبي, ودور خاتون والخوجة عيشة وأبو النصر والهلالي وعبد السلام وأبو الرمز الفلسطيني وأكوب الأرمني,
ودكاكين مسماة بأسماء أصحابها, والمستوصف, وهي أماكن خاصة مغلقة جرت فيها أحداث الرواية.
الشخصيات:
على هذه الرقعة المكانية السردية نشر الكاتب شخوص روايته, المكان ضيّق نسبيًّا والشخوص كثر, فامتلأت الرقعة بألوان كثيرة, مشكّلة لوحة فسيفسائية, كثرتهم لم تمنع الكاتب من تقدّيمهم بطريقة تحليلية مباشرة:
.... الحاج عبد القادر الهلالي, الأب الروحي للحارة, ذاك الرجل الذي كان ناصريًّا, قوميًّا, وحدويًّا, متديّنًا, ولكنه تحوّل إلى رجل لا يشبه ماضيه.
....ابنه" يحيى" خرّيج الكلية الشرعية, الذي يعشق البتول بصوفيّة متناهية, وقد أقسم ان يكون الثأر قويًّا مهما كان الثمن.
....عائلة " أبراهام فارحي" اليهودي, حارس معبد " الصفراء" الذي يحتفظ بنسخ قديمة من التوراة مكتوبة على رقائق من قبل " عزرا عاسوفير".....
....ابنته " ليزا" التي تربطها علاقة حبّ طفولية مع عبد السلام.
.....العمّ أبو الرمز الفلسطيني, أستاذ مادة التاريخ الذي يمتلك أرشيفًا ضخمًا, موثّقًا, ومفتاحًا كبيرًا, هما كلّ حياته.
.....الوليّة أخناتون التي لا تشبه غيرها من العرّافات التي يخشاها أكثر الأهالي, ويتجنّبوها عدا نساء المدينة الطامحات, وزوجات الثرياء, والنخبة المتنفّذة.
....العجوز العمياء: " الثريّا " تلك المرأة التي ترى الأصوات, وتشاهد الروائح!
.....أختها المستبدة: " هنودة" الملقبة ب " أم القطط".
.....الخواجة قهوجيان الأرمني, الخيّاط الرسمي للضبّاط, وهو أمهر صنّاع الألبسة العسكرية في المدينة.
.....ابنته الرياضية , الجامعية: " إلين" .
.....عبد السلام نفسه ( الشخصية البطلة التي قدّمها الكاتب بأبعاها الجسدية الاجتماعية والنفسية) الذي اشتُهر بتقديمه عدّة أدوار مهمّة مع فرق المسرح الجامعي, ولكنّه اختص بعد تخرّجه بالنحت على الحجر والرسم السوريالي فوق الواقعي, لاعتماد ذلك على التلقائية الانفعالية, والتعبير عن الأفكار اللاشعورية بالقفز فوق الواقع, واستنهاض العقل الباطني, وهذا يناسب شخصيّته وحالاته النفسية, غير المستقرّة
وهناك شخصيات أخرى ....
لم تغب الثنائيات أيضًا عن الشخوص, وهي ثنائيات متناقضة أيديولوجيًّا, فنجد:
عبد السلام بمواجهة يحيى, إبراهام بمواجهة أبو الرمز, خاتون بمواجهة الثريّا, ليزا بمواجهة إلين... من دون أن نشهد صراعًا مباشرًا بينهم .
استخدم الكاتب تقنية التخييل السردي على نطاق واسع, ما أدخله في المعاصرة من باب واسع, فأنسن الحيوانات, وجعلها من ضمن الشخصيات الفاعلة في مجرى الأحداث, مثال ذلك قطط "أم القطط" والتي بثّ من خلالها الكاتب العديد من الرسائل والمقاربات الساخرة, والكلب المخلص "ميمو", الذي بث الكاتب من خلاله العديد من الرسائل الوجدانية:
..... صحا الكلب ميمو من تداعياته, تفرّس بقوّة بالخراب والدخان والغبار المنبعث من الحارة القديمة.....: "صحيح أنني كلب بن كلب بن كلبة" قال ذلك في نفسه, وأردف: " إلّا أنّ عشقي وجذوري هي هنا, في الحارة, ولن يغيّر ذلك في نفسي شيئًا حتى وإن كنتُ مجهول النسب"
كما أنسن الجماد, فجعل القلعة أمّ المدينة, تسمع تنهدات سورها العظيم وهو يتساءل :
- آآآآآه .. ماذا يحدث داخل صدري, وخارج قصري؟!
تجيبه القلعة بنشيج قلبها العطوف, وأشواقها الحارة:
- هي حكاية كل زمان ومكان يا سور قلبي الجميل ..آآآآآه
• البناء الجمالي:
السردNarration :
السرد كان على لسان السارد العليم, سردًا مباشرًا, حلّل فيه الكاتب عبر السارد شخصياته وأفعالها تحليلًا عميقًا, ونوّع في تقنيّاته السردية, موظّفًا كلّ تقنية بمكانها, فكان كاتبًا حداثيًّا بامتياز, حرص على إبراز دور:
الحوار الخارجي Dialogue:
الذي استخدم فيه الجمل القصيرة, بلغة وسيطة, أي بألفاظ فصحى مُستخدَمة باللهجة العامية المحكية, الحوارات أدّت دورها في الكشف عن بواطن الشخصيات وثقافتها وطبقتها الاجتماعية, وأسوق مثالًا الحوار الذي جرى بين الشخصيات عقب اختفاء البتول:
يصرخ "عبدو كوسا" صانع الحبال وبائعها, والذي يهوى تربية الحمام.....:
- يا ناس, لو كانت عصفورًا دوريًّا, لكنتُ رأيتها, وعرفت مكانها..!
بينما يتمايل " نوري" معقّب المعاملات الشامل, نصف المحامي.....:
- العمى؟ أين اختفت البنت؟! والله لو كانت كلمة واحدة في ملف قديم لكنتُ رأيتها, وعرفتُ أين موضعها ومكانها؟!
يفحصُ " بكّور النوّال", صانع الأقمشة الحريرية ......:
- مسكينة! بنت متل الحرير ضاعت, إيه ه ه ه .. يا بلد!
يقترب الحاج عبد القادر الهلالي.. ينظر إلى الكتلة الحجرية التي تشبه الهرم, أو المقام المقدّس.....:
- يا الله يا جبّار, إنّه قبر أو مقام البتول, لا تقتربوا منه, لا تزيلوه, ازرعوا حوله شجر التين والزيتون وباركوه.
الحوار الداخلي Monologue:
كثرت الحوارات الداخلية في هذا العمل, لتقوم بمهمة بناء البعد النفسي للشخصية, بالكشف الداخلي عن الخواطر والأفكار والانفعالات, ولتقوم أيضًا بوظيفة سردية عبر تلخيص الأحداث الماضية:
يسمع صوته الداخلي :" لا أعرف كيف أفهم الحياة, وإذا كنت في لوحاتي ومنحوتاتي ألهو, أو أظنّ نفسي مشروع فنّان, إلّا أنني دمّرتُ أحلى أيّام شبابي, حتى حبّي الأوّل, لا يخلو من المغامرة, والخطورة ولم أكن واعيًا لكلّ ما يحيط بي ويدمّرني, كم كنتُ أحمقَ, مخدوعًا, ميؤوسًا من شفاء أحلامه, ولكن لا, بل ألف لا للهزيمة".
والمونولوج شغل مساحة لا بأس بها من مجمل مساحة الرواية, متنافسًا مع:
تيار الوعي Stream of consciousness:
كان حاضرًا وبكثرة, لينقل الحالة الشعورية المأسورة بين الوعي واللاوعي:
يحس بدوار في رأسه.. الدنيا حوله تدور .. يدور التمثال.ويدور الكرسي الخيزراني العتيق به.. الكهف يدور.. كل شيء يتناسل دوائر حمراء بلون الدم.. كلّ دائرة في ناظريه تتحوّل إلى ألف زوبعة, وألف دمعة, وألف دائرة, وألف علم يرفع, وألف نشيد يصدح, وألف شعار ينبح, والدائرة ما زالت تدور.. وتد..و..ر.
والذكريات Memories:
كذكريات أبو الرمز الفلسطين وهو يمر بجانب فيلا أبراهام فارحي:
يتذكر فورًا طفولته, ومأساة عائلته أثناء حرب 1948م , حين هرب والده , من القدس الشرقية, إلى مخيّم على أطراف أريحا , خوفًا من بطش العصابات الصهيونية المتطرّفة, ..... كان منزلهم قد تمّ اغتصابه من قِبل جماعة محاربي داود, وارتفع العلم الإسرائيلي على سطحه, ورسمت " المينورا" بشمعداناتها, ذات الفروع السبعة على جدرانه الخارجي ..... وقد صار البيت المقدسي حقًّا لعائلة يهودية مهاجرة من بولونيا
استخدم الكاتب أيضًا تقنية سردية يتقنها فقط النصّاص البارع, وهي:
تقنية التدوير:
وهي تقنية مشهدية, يقوم فيها النصّاص باستهلال عمله بمشهد وصفي, يعود إليه في نهاية, وكأنه يدوّر النهاية على البداية. لنلاحظ بيان ذلك:
استهلال الرواية كان كما يلي:
ضربات إزميل ناعمة تتنزّل على الرأس..
تفتح حدودًا ضيقة, ومتاهات متشابكة, تتشكّل على جسد الكتلة الصخرية الصمّاء, تلك القطعة التي تشبه في أخاديدها وجه زهرة اللوتس التي تعيد تشكيل نفسها بنفسها, وتنبض بكلّ ما هو مدهش ومختلف ومذهل. تتوالى الضربات المتتالية من يد" عبد السلام" الرشيقة......
ثم في مثلث الانفراج, نجد عبد السلام يستمر في النحت فوق الحجر, يخبر أمه أن ما يحدث معه أقوى منه, ولم يكن أمامه إلّا أن ينحت, وها هو قد انتهى من نحت جناح تمثال حرّيته وانعتاقه:
يطرقب بإزميله على خطوط الجناح المتبقّي بغضب ظاهر, تتسارع لمساته, تتهافت. تدخل الثريا العمياء صامتة, تتلمّس ذاك الكرسي الخشبي العتيق, تجلس, تتابع الاستماع إلى صوت الإزميل وأنذاة الحجر, بينما تدور الأمّ مذهولة حول وحيدها.. تدور حول التمثال.. يستمر بمعزوفته على الحجر..
الأسلوب Style :
أسلوب أدبي سردي انزياحي خفيف, يشبه أسلوب السهل الممتنع في الشعر, اللمسة النزارية التي قلّما نفقدها عند الأدباء السوريين:
يتثاءب السور معلنًا قيامَه الجديد, وانبعاثه من تحت الرماد, يتعالى صوته تدريجيًّا منبعثًا من الأنفاق العميقة, وتصدح همهماته بعيدًا . تتزلزل المدينة.....
واستخدم الكاتب الأسلوب التقريري عند سرد الأحداث والمعلومات التاريخية, وغيرها من أنواع المعلوماتية, وهذا مبرّر بذريعة أن المعلومات والحقائق تُكتب أصلًا على شكل تقارير.
المستوى النفسي السلوكي:
كان هناك تساؤلات سياسية مرمّزة في حادثة اختفاء البتول, ساقها الكاتب برشاقة عبر أسلوب الكوميديا السوداء:
.... جثة البتول " فص ملح وذاب" اختفت بلا أثر, بلا قبر, أو شاهدة, ولم يستطع أحد أن يؤكد أنها فارقت الحياة لعدم وجود الدليل القاطع, والإثبات بالبيّنة كحدّ السيف.
أين السيف؟! أوووه عفوًا : أين الجثة والأرض الخراب ؟! أين الدليل والمكان ليس هو المكان؟! والزمان هو كلّ الزمان؟! أين ؟! وأين؟!
أسئلة فيها إشارات مضمرة إلى من يتحمّل المسؤولية عن الجرائم المرتكبة في مكان ( البلد) أضحى خرابًا عبر كل أزمنة الطغيان السلطوي, لا يكاد ينهض ويزدهر حتى تدكّه مدكّات الظلم والفساد, فلماذا نبحث عن السيف؟! سؤال تهكمي يائس, ممنوع ومحظور من التداول, لكن السؤال الأكثر سخرية ويأسًا هو من يهتم بالبحث عن حامل السيف الجاني ؟! الجواب لا أحد ! فالكل مهتم بالبحث عن مكان الجثة, لأنه الممكن, أمّا البحث عن الجناة فرعب لا يجرؤ أحد من أفراد المجتمع على تحمّل نتائجه, لذلك ستضيع كل الحقوق في بلد ضاعت فيه القوانين إلا قانون الغاب :
كلّ الأسئلة متاحة ولكن لا أحد اهتمّ بسؤال واحد: من سيبحث عن السيّاف الجاني؟! أو عن الجناة ؟! أو عن الذي .. الذين قاموا باغتصابها؟!
سؤال آخر حائر يطرحه الكاتب حول ماهية هذه الحرب, ويضع فيه كل الأجوبة المقترحة التي تتبنّاها جهات عدّة من وجهات نظر مختلفة, وكلها تتفق على أنها حرب مؤلمة:
ماهذه الحرب المؤلمة؟ ! طرف يقول إنها ثورة, والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة, وطرف ثالث يعتنقها جهادًا, وآخر يعدّها احتلالًا, وأطراف أخرى تؤكّد أنها فوضى!
سؤال تشاؤمي, مطروح على الشعب بطبقاته المختلفة, من القاعدة الشعبية إلى رأس القيادة هل يدركون خطورة الوضع, هل يدركون المصير الذي تُقاد إليه البلد ؟ والجواب استشرافي متشائم, مُضمّنٌ داخل السؤال:
- " هل تعرف المدينة أنها تعيش نهايتها الآن, مثل رجل مريض ميؤس من شفائه؟!"
خاتمة:
هي جولة - بتقديري – قصيرة في شعاب هاته الرواية, والتي يمكن النظر إليها من زوايا نقدية كثيرة جدًّا, اصطدت منها رزقي, وأترك لغيري من النقاد نصيبًا, ضمن ما يرتؤونه , كلّ حسب منهجه النقدي, أهنئ الاديب زياد حمامي على هذا النتاج الأدبي المميز, متمنية له الاستمرارية والنجاح.
#دعبيرخالديحيي
6 أيار2020
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس