الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 2

دلور ميقري

2020 / 5 / 7
الادب والفن


كونه أغفى باكراً في اليوم السابق، أفاق عليكي مع أولى أشعة الشمس وكانت امرأته وأولاده ما زالوا يغطون في النوم. مثل شعور المرء حين يستيقظ على أرضٍ غريبة، كذلك الأمر بالنسبة إليه؛ كأنما خرجَ لتوه من رحم الأم، ليلقي النظرة البكر على العالم. لكن معدته هيَ مَن سبقت حواسه، بأن بدأت تئن جوعاً. على ذلك، تذكّرَ كيفَ اعتذر من الضيف عن المشاركة في تناول العشاء بسبب الوسن، الذي غلبه وجميع أفراد عائلته. هذه الذكرى، سلّمته لأخرى: أمس أيضاً، جازَ له أن يُشبّه المضيف برفيق الرحلة، حمّوكي، دونَ أن يتمكن حقاً من تحديد أوجه الشبه إن كانت لناحية الشكل أو المسلك. ربما منعه النعاس من إكمال المقارنة، ووضْعُها على الوجه المطلوب. الآن، عقبَ نيله قسطاً وافراً من النوم والراحة، آبَ إلى الفكرة نفسها. برغم محاولته، عجز مجدداً في تبيّن ما يجمع الصورتين على أرضية الواقع.
ما عجزَ عنه الرجلُ الغريب، بالوسع وضعه في نصابه الصحيح لو أننا أعطينا فكرةً عن شخصيته نفسها. كان عليكي قد تجاوز سنّ الشباب، برغم احتفاظ وجهه ببشرة نقية وعلى شيء من التناسق. قامته، أقصر من المعتاد، لكنها تميل إلى الرشاقة. لعل سحر شخصيته يكمن في العينين الكبيرتين، اللتين بلون الفحم، المتحولتين جمراً في حال أشعلها الغضبُ. من ناحية أخرى، كان عليكي حر التفكير؛ ولو سئل عن ذلك، لأجابَ على الأرجح أنه بتأثير شخصين لعبا دوراً كبيراً في حياته: أحدهما، كان زوج السيدة شملكان، الذي عُرف في حياته بنوع من المجون المحبب. وعن طريقه، تعرّفَ مبكراً على أحد أحفاد الأمير المنفيّ، بدرخان. هذا الحفيد، صالح بك، أراد أن يكرّس حياته لتحرير شعبه الكرديّ من براثن الأتراك. فاعتاد أن يردد أمام مَن صار صديقه، أنه يخشى اللحاق بأبيه وجده إلى القبر دونَ أن تتاح له الفرصة لرؤية الثورة الوطنية، الشاملة.
سليلُ الإمارة، لم يكن يكتفي بالأماني، بل عمد حينَ كان مقيماً في دمشق إلى الاتصال بخصوم السلطان، سواءً الموجودين في المدينة أو الخارج. النشرات السرية، التي كان يمدّ بها صديقَهُ عليكي، إنما كانت تصله من أولئك الناشطين. ثم أتت الفرصة لصالح بك، كي يكون في صلب الأحداث؛ وذلك حينَ تم نقل وظيفته إلى مدينة قيصرية، على سبيل التأديب. بيدَ أن الوقتَ مرّ من غير أن يُسمع عن ثورة نشبت في الوطن، مثلما أن أخبار سليل الإمارة انقطعت عن صديقه. هذا الأخير، أضحى بدَوره في موطن الأسلاف، وربما طافت الآنَ على شفتيه ابتسامة ساخرة بقدر مسخرة القدر: بدلاً عن الثورة المأمولة، أتت الأنباء مؤخراً تتحدث عن مجزرة راح ضحيتها أعدادٌ كبيرة من الأرمن. ومَن يُفترض أنهم وقودُ الثورة، يخرجون إلى الشوارع والميادين كي يعبّروا عن الابتهاج بالمجزرة.
استعاد عليكي أيضاً واقعة من تاريخ الشام، وردت ذات مرة على لسان والده. كان ذلك على أثر ثورة اليونانيين، الهادفة إلى تخليص وطنهم من الأتراك. وقتئذ فشلت الثورة، فخرج أهالي الشام بعراضة كبيرة وهم يهتفون: " نحن نصوم نحن نصلّي، جزيرة كريت للعصملّي! ".
من المفارقات، أن تلك الجزيرة اليونانية ستصبح منفى الأمير بدرخان؛ قضى فيها أعواماً كثيرة قبل أن يسمح له السلطان بالانتقال للشام، لتمضية بقية عمره فيها.

***
" إنها مسألةٌ لا يستوعبها عقلٌ، فكرة الهجرة بسبب خلاف عائلي بسيط. اللهم إلا أن تكون ثمة ذيول للخلاف، لم تشأ الإفصاح عنها؟ "، كذلك انتهى للقول كبيرُ أبناء العم. عليكي، كان قد حل وأسرته في ضيافة الرجل قبل حلول موعد الغداء. فكما توقع في حديثه بالأمس لامرأته ليلو، أن الفضولَ سيدفع الخفير إلى إخبار الأقارب عن وصولهم وذلك بمجرد دخوله إلى مضافة العمدة ليلاً. كبيرُ أولئك الأقارب، دفعته الحمية عندئذٍ للطلب من الخفير أن يوقظ ضيوفه كي يأخذهم إلى داره. لكنه ترك الأمر للغد، بعدما أكّد المضيف أنهم استسلموا للنوم كباراً وصغاراً حتى بدون عشاء.
ترك عليكي الرجلَ يتكلم على سجيته، ثم بادرَ أخيراً لإجابة تساؤل ارتيابه: " لن أزيد شيئاً على ما أخبرتك به عن خلفية قرار مجيئنا إليكم، كذلك لا نطمع سوى بالتعرف على أولاد عمومتنا وأقاربنا ". ثم أضافَ في شيء من الخجل: " ما أخفيته عنك، هوَ أن والدي أرسلني إليكم قبل زواجي كي أبيع حصته من أملاك جدّنا "
" آه، فهمتُ الآنَ "، قاطعه ابن عمه. ثم تابع القول: " وأريدك أيضاً أن تفهم، بأنّ والدك ترك موطنه في أيام حرب القرم، التي صارت اليوم لقِدَمها ملحمةً على لسان المطربين! أرضه تُركت بوراً منذ زمن بعيد، ونحن استصلحنا أكثرها بعرقنا ومالنا "
" لا مطمع لي بالأرض، فأنا رجل تجارة ولستُ فلاحاً "
" عال، هذا حديث آخر. لعلك تبتغي استرداد دار والدك، أليسَ كذلك؟ "، طرح سؤاله وقد بدا أن قناته تلين. استطرد قبل سماع الجواب: " هذا حقك. المنزل، لا يحتاج للإصلاح كون أحد أشقائي سكنه. والمنزلُ ملحقٌ به بستان، يُمكن زراعته بالخضار والحبوب لو شئتم ".
كبير أبناء العمومة، كان يُدعى " أوسو "؛ يبلغ تقريباً الخمسين وشعره أبيض تماماً. أما والده نفسه، فإنه توفي قبل نحو عقد من الأعوام. في ذلك الوقت، كان الحجاج يأتون إلى الشام من موطن الأسلاف كالمعتاد. لكن الأخبار السيئة كانت تُكتم؛ إما حرصاً على راحة بال الأقارب، وهم في بلد المهجر، أو ربما لسببٍ متواشجٍ مع مسألة الميراث!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل