الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأساة صموئيل المسكين

إحسان يونس

2020 / 5 / 8
الادب والفن


رأى أمه تحت الميجر وليم. جسد الميجر أبيض يتلألا كالشمس، فوق ظهر أمه الأسمر، وفخذين ممتلئين. لم ينس قط ذلك المنظر حتى الآن وهو في لندن، وقد تجاوز الستين. ومئات الكتاب يحترمونه، ويجلونه، لكنهم لا يعرفون حقيقته وحقيقة عائلته. يا لمرارة الذكرى كيف تنخر العقل والتفكير وتخرّب الروح. حدث ذلك ظهر يوم جميل، في الربيع، آه كم يحب الربيع في العراق، لكنه لا يحس بالأمان هناك.
نسيم بارد لطيف، وأرض معشوشبة قرب البحيرة، وهواء معبّق بحبوب لقاح القصب، الذي ينتشر على ضفافها. كان في غاية الجوع عندما غادر المدرسة، وما إن تفرق عن صديقيه، وبقي وحيداً، توقّف قرب باب البيت، نظر إلى الداخل من فرجة الباب، فغمرته رائحة الباقلاء الخضراء مع الثوم، رأى اخته تقف أمام المذياع تفتش عن اغنية، لا بد أنها أعدت الرز، وسخنت المرق، لم يبق سوى تفريغ الطعام والأكل، لم يدر لماذا أحس بالسأم، لم يدخل، وضع كتبه على الأرض قرب الباب الموارب، ثم توجه نحو بيت وليم. يدري أن امه مازالت هناك، إذن ليتمشى إلى هناك، فلعله يلقاها وهي في الطريق، وقبل أن يصل إلى بيتها، وجد صديقه فيكتوريركض باتجاه الحبانية، وبيده جريدة، توقع أنه سيأكل غداءه وهو جالس على المقعد، أمام الماء، أمه خبيرة بالسندويجات الجاهزة، بينما امه تصر على إعداد رز ومرق.
حين وصل بيت الميجر، لم يجده مقفلاً، كان موارباً أيضاً، مدّ رأسه، لم يجد شيئاً في الغرفة، مشى برفق، نظر في الشباك الأيسر حيث غرفة أخرى تبدو منه، هناك وجد أمه فوق السرير، نائمة في عري تام على بطنها، وشعرها الجميل ينتشر على المخدة، ماذا يفعل الميجرأمه؟ وهو يتحرك جيئة وذهاباً. أمّه تتأوه! ايريد قتلها؟ لا، تبدو سعيدة، كلاهما سعيدان، تتالى أنفاسه بشخير عميق، لكن، لماذا أمه تتأوه، تشهق عميقاً، آهاتها متواصلة، في غاية الراحة، سمع من زملائه الطلاب، الفاظ السباب، الفاظا جنسية محرمة عليه في البيت والصف، سمع وصفاً كاملاً للعملية، هم أطفال لكنهم يعرفون كل شيء، إذن هل أمه والميجر يمارسان تلك الأعمال؟ لو شاهدته أمه يتفرج عليها لقتلته، لم يشاهد أباه المعوّق فوق أمه قطّ، لماذا إذن هي تحت الميجر، ثم فجأة قهقهت قهقهتها المعهودة، لكن هنا تبدو القهقهة أكثر قوة، وأكثر حميمة، خارجة من الأعماق، من قعرها السعيد.
لم يتحمل، التفت إلى الخلف، اندس من فرجة الباب، انسحب. ما إن خرج حتى أخذت ساقاه تتحركان بعنف وقوة وسرعة لم يعهده بها، كان في صدره شيء أشبه بالنار، لا يعرف كيف يخمده، لماذا أمه تحت الميجر، لكن لماذا هي معه؟ وصل البيت بثوانٍ، دفع الباب، دخل، فتوقفت أخته كاترين وسط الحوش مدهوشة، سألته بلهفة: ما بك، لماذا وجهك مصفر، لماذا تجهش، عانقته، قبلته في وجهه، فانفجر يبكي، سألته وهي تبتسم: هل ذهبت إلى بيت الميجر، هزّ رأسه: نعم. قهقهت: هكذا إذن، إكتشفت السر إذن. يا ملعون، أبعدته عنها وهي تبتسم، خمّن أنها اكتشفت علاقة أمه بالميجر أيضاً، لكنها كانت فرحة وغير ساخطة. عانقته وداعبته في بطنه، فأحسّ بحرارة فجائية تغمر جسده، وبتوتر محسوس هناك. وتمنى لو يبقى مدة أطول بين يديها تداعبه وتقبله، مبتهجاً بالتغييرات الطارئة التي مست روحه، وجسده.
كل ذلك انقضى لكن بكثير من الألم، كان يخشى أن تصل أنباء امه مع الميجر إلى الطلاب، فيكون محل احتقار الطلاب، ثم حدث ما لم يتوقعه أحد، إذ جاءت ثورة 14 تموز. ففرح العراقيون كلهم ماعدا بعض سكان الحبانية، الذين يعيشون على خدمة القوات البريطانية المتواجدة في الحبانية، ومنهم أبو صموئيل، وعائلته، كان النعيم الذي يعيشون يتدفق من أصابع الإنكليز، وبرحيل هؤلاء، سيفلسون، سيفقدون أعمالهم، فلم يتظاهروا تأييداً للثورة، ولم يقيموا الولائم، ولم يكتبوا البرقيات الؤيدة، بل انكفؤوا على وجوههم بتعاسة ظاهرة، ثم تناقلوا بينهم أسئلة تفرض عليهم من داخلهم صباح مساء، ثم اجتمع منتدبون منهم عند القس سليمان في الكنيسة، كانوا يتجاوزون ثلاثين، لكن الموجودين في الحبانية أكثر من ثلاثمئة، سيطر الخو على أغلبيتهم، فبقوا في بيوتهم، على أن يأتيهم منتدبوهم بالأخبار بعدئذ.
قال الأب سليمان: إطمئنوا، لن يتركونا لأعدائنا.
وقبل أن ترحل الشخصيات الإنكليزية وزعت عليهم ما تيسر من هدايا ونقود وممتلكات، ثمينة، بينما شحن الباقي إلى بريطانيا.
ثم انتشر الموجودون في أنحاء العراق، موزعين على شركات النفط كعمال وموظفين، وباقي الشركات الإنكليزية مثل توماس كوك، وخدم في السفارة والقنصليات، لا بل زود البعض برؤوس أموال لفتح محلات صيرفة، وآلات مصنوعة في بريطانيا، وهكذا بقي في العراق شراذم لا تؤمن بإله سوى ما تؤمن به بريطانيا، وليس عندها مثل أعلى سوى ما هو بريطاني، شراذم تمثل ضمناً القوات الانكليزية التي احتلت العراق بالنار والدم، لكنها الآن مسالمة، مهادنة، ظاهرها سلم وباطنها حقد وتصميم على دحر عدو لم يتغلب عليه سوى إسرائيل، وإذ كانت إسرائيل تتحكم بسياسة المنطقة فأيتام الحبانية صموئيل يتحكمون بفكر بعض الأذكياء الذين يخدمون هؤلاء الأيتام ويعملون بتوجيهاتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يعود للمحكمة في قضية شراء صمت الممثلة الإباحية


.. المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان




.. ا?صابة الفنان جلال الذكي في حادث سير


.. العربية ويكند |انطلاق النسخة الأولى من مهرجان نيويورك لأفلام




.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي