الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الثالث/ 3

دلور ميقري

2020 / 5 / 8
الادب والفن


عندما حل الخريفُ، كان عليكي قد حقق لأسرته الاستقرارَ تحت سقف يؤويها، وتمكن هوَ بنفسه من فتح محل لبيع الأقمشة في بلدة ديركا جبل مازي، القريبة. المنزل، طرأ عليه تحسن كبير لناحية المنظر والنظافة، بفضل جهوده المشتركة مع امرأته. برغم وجود حجرة نوم إضافية، قررا تحويلَ جزءٍ من الإسطبل الكبير إلى حجرة نوم مخصصة للصبيّ الكبير، آكو، المعروف بطبعه المائل إلى الانطواء. عقبَ عملية ترميم المنزل، كدّ الزوجان في البستان الملحق به، وكانت النباتات الطفيلية تغطيه، مستظلة بالأشجار المثمرة. فحولا القسم الأكثر تعرضاً للشمس إلى حديقة خضراوات، والباقي استزرعوا فيه الورود والأزهار.
في حقيقة الحال، أن أولاد العم غطوا من خير أراضيهم الجزءَ الأكبر من حاجة الأسرة للخضار والبقول والحبوب. حتى فواكه الصيف، كانت من الوفرة أنّ ليلو عمدت إلى تأمين مئونة الشتاء، وذلك بتجفيف كمياتٍ من التين والعنب والمشمش والخوخ واللوز والجوز. عدا عن تحضير المربيات المتنوعة، وكذلك المخلل والزيتون والباذنجان المكدوس والجبن واللبنة: هذا، كان غيض من فيض حصّة عليكي في ميراثه من أراضي والده. ناهيك أن لامرأته ليلو حصة مماثلة في أملاك، تعود لأبيها الراحل. لكنهما أغضا البصر عن الموضوع، طالما الطمع لم يبلغ بالأقارب حد التنكر نهائياً لحقوقهما.
هؤلاء الأقارب، أبدوا لاحقاً امتعاضاً مما اعتقدوا أنه تكبّر في شخصية قريبهم، القادم من الشام الشريف؛ كونه لا يشارك ليلاً في مسامرات المضافة، ونادراً ما شاركهم في صلاة الجمعة بمسجد القرية. كان ذلك في المرحلة الأولى من استقراره في القرية، ودأبَ على الاعتذار من أبناء عمومته بقضائه أغلب أيام الأسبوع في محل تجارته بديريك.

***
ديركا جبل مازي ( أو ديريك اختصاراً )، تقع على مبعدة عشرين ميلاً من القرية؛ ثمة، أينَ افتتح عليكي محلاً لبيع الأقمشة في سوقها المزدهر. آنذاك، لم يكن قد ولد بعدُ شاعرٌ كرديّ شهير، سيكتب في مذكراته أنّ ديريك صنوَ دمشق، لناحية الجبال المحيطة بها، كالصدفة بالنسبة للمحار، فضلاً عن أنهارها العديدة وطبيعتها الخلابة وخيراتها. " شيخموس " هذا، الذي سيتبنّى اسماً أدبياً، ( جكَر خوين )، كتبَ أيضاً أنه لمحض المصادفة فإن الطريق الرئيس إلى الشام يمر من البلدة حتى أن الإقليم عُرف على لسان أهاليه ب " شَمْرَخ "؛ وهو تحوير عن كلمة مركبة بالكردية: شام ـ ري ( طريق الشام ).
منذ الشهر الأول، لاحَ أن تجارة المغترب القادم من الشام ستكون مزدهرة. إذ اكتسب عليكي ثقة الزبائن والعملاء على حدّ سواء طبقاً لما عاينوه من أمانته ونزاهته وظرفه. لكنه في الأثناء عانى من بُعد المسافة بين ديريك والقرية، وكان مضطراً كالبعض من زملائه التجار إلى النوم في المحل والاقتصار بالمبيت مع العائلة على يومي الخميس والجمعة. إلى أن وثقَ بمساعده، فأخذ يترك له المحل بعد الظهر كي يلحق بالمسير إلى القرية قبل حلول الظلام. " زاهد " هذا، كان شاباً ضئيل القامة، يتميز أيضاً بسحنة شبيهة بالصقر. كان يمت لمعلمه بقرابة بعيدة، أساسها التزاوج بين عشيرتين. فإنه من آل " لحّو "، الذين كانوا في سابق الأوقات نصارى بحيث عُرفوا أيضاً بآل " زنكَلي "؛ أي قارع جرس الكنيسة: سبعة عقود من الأعوام ستمضي، ثم ما لبثَ أن قدم إلى الحي الكرديّ بدمشق حفيدُ ذلك المساعد وكان يحمل اسمَ جدّه. زاهد الحفيد، تسلل عبر الحدود هارباً من الخدمة العسكرية، مؤملاً بتحقيق حلم الأسلاف البعيد؛ ألا وهوَ العيش في فردوس الله، دنيا وآخرة. أقام في الفترة الأولى بمنزل شقيقة زعيم الحي السابق، ثم ما عتمَ أن انتقل إلى عند أقاربه، ( اللحاوية )، الموزعة دورهم في حارة الوانلية برأس الحارة.

***
في مدخل القيسارية، أين محله التجاري، كان عليكي يتعثر كل يوم تقريباً بشخص غريب الأطوار تلوح شخصيته بين العابد المتنسك والتاجر المحنّك. لا غرو إذاً أن يدعوا التجار الرجلَ باسم " الصوفيّ "، لدرجة أن اسمه الحقيقيّ غابَ في لجة النسيان. من مكانه المعلوم، دأبَ الصوفيّ على تلبية طلبات التجار بخدمةٍ ما، وذلك لقاء قدح من القهوة المرة وأحياناً مع قطعة حلوى. مع مرور الأيام، صار مَن يُدعى في السوق ب " التاجر الشاميّ "، يُكلّف الرجل الخدوم ببعض المهام البسيطة؛ من قبيل جلب الغداء أو تقديم العلف للخيل المشدود بالعربة. لكن عليكي لم يكن يكتفي بمكافأة الرجل بالقهوة والحلوى، بل كان يمنحه بين الفينة والأخرى بعض المال أو القماش.
" لديّ خبر عن صفقة تجارية قد تجعلك، والله أعلم، من أغنياء هذا السوق "، كذلك همسَ ذات مرة الصوفيُّ في أذن عليكي. كان الوقت على حد الظهيرة، وهذا الأخير قد أنهى طعام الغداء واستعد لركوب عربته للعودة إلى القرية. استطرد صاحبُ الخبر، قائلاً: " ثمة قطيع كبير من الأغنام، سيطرحه للبيع شيخُ عشيرة عربية من نواحي ماردين. يمكنك شراء القطيع سلفا بثمن بخس، لحاجة الشيخ الماسة للمال كي يرشي الموظفين، الذين يغضون النظر عن سرقة أتباعه للدولة بالرعي العشوائي علاوة على التهريب! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال


.. الفنانة ميريام فارس تدخل عالم اللعبة الالكترونية الاشهر PUBG




.. أقلية تتحدث اللغة المجرية على الأراضي الأوكرانية.. جذور الخل