الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تخوم الآماد! قصة قصيرة

يعقوب زامل الربيعي

2020 / 5 / 8
الادب والفن


تخوم الآماد!
قصة قصيرة
................
فكر بالحق الذي يجعله أن يتذوق الآن السيجارة التي بين اصبعيه، بل أن يمضغ تبغها، كما لو إن لها طعم شواء، والتي غدت بين اصابعه، كما شريحة لحم ضان مشوية عليه أن يأخذها قطعاً متلاحقة دون سكين أو شوكة، مع قدح نبيذ أحمر.
مضت ثلاثة أسابيع بلا تبغ.
تساءل من غير يخدش بلعومه بحرف غريب: " ما رأيك وأنا في مدينة لا تدخن منذ ثلاثة اسابيع "؟!
بحثت عنه بنظرها. ألتفت إليها، كان خداها ملتهبين. وكان ينتظر فيما، وبطرف قدماه كان يرسم دوائرا على السجادة. وقبل ان تختفي الدوائر تماما، هزت رأسها في حزن. قالت :
ــ " الصبر شيء مضجر "
قالت ذلك بصوت خفيض وبطيء. لكنه شد على يدها ليقول:
ــ أنا اعرض نفسي على نفسي!
وكان يكره ذلك الشخير الذي يأتيه من مكان غير معلوم، كأن الحرّ يجتذبه من صدر مُتيبس.
تنهد وهو يمرّ يده المبتلة بالحمى على صدره، وكان الهواء يرشح عرقا، لذا اشارت عليه أن يختار غرفة أخرى للعيش والكتابة والنوم.
عند زجاج النافذة، وقفت عيناها تتابع بمرج الرؤوس المارة، الذين يحاذون بعضهم البعض بلطف غير منظور، أو الذين يتدافعون بالمؤخرات طلباً للطريق.
وعند منضدة الكتابة حين جلس خلفها، أشار لثقب في جدار خلفه:
ــ " هذا الثقب، ومن شدة الجفاف، كأنه كان ينظر إليَّ من كل الجهات ".
أحيانا كان تأتيه أصوات موسيقي عذبة، وأصوات لا تخلو من ترنح، وكان حسبه غطسة واحدة، يجعله يتحمل الشخير القبيح المتطاير من أنف وفم صاحب العربة، لينام دون أن يكترث بشيء.
الهدير الأصم، القادم من ناحية أذنيه، يثير جزعه. فكر: " يبدو أن لا شيء يجف في هذه الناحية القحبة ". وكان ثمة رجال يركضون بثيابهم السوداء المنقوعة بالعرق. قال أحدهم :
ــ لنجلس للحظات ثم نعاود الركض.
وحده من يقف تحت الشمس. وحده يسمع أغنية كريهة. وحده من يعاني من عرق جسده. وكان يسير ببطء وحذر لأن الحشود تخيفه. فهو غالبا ما كان يشعر بضرورة الحصول على واقيات أصيلة تقيه من خطورة الاصطدام بالصيحات المتوحشة الخائفة، وبأولائك الذين يتدافعون بلا عيون.
فكر أن يفعل شيئا يجعله يتصرف تصرفاً معقولا، لكنه سرعان ما تلاشى انطباعه، لحظة سقط الحرّ أكثر من ذي قبل. كما تعذر عليه أن ينظر للسماء التي كانت يغطيها الغبار الاحمر.
اسبلت جفونها على عينين شبه مبتلتين. قالت " لِمَ عليك أن تنتظر قدوم العربة؟ ".
لم يجبها. أكتفى يمضغ دخان سيجارته، وقت كان يلصق جبينه بزجاج النافذة الوحيد.

*
في عام 1905كان والدي قد جاء للحياة. الشيء المؤكد، كما نحن تماما، لم يختر وثيقة وجوده، ولم يستحسن مساره الصعب في حياته. كل ما كان يفعله أنه ولد وعليه أن يتجاوز محنة وجوده.
منذ وجدت بعده بعدة أعوام، قام بتبني طفله الذي أودعه تسعة اشهر في رحمها، التي هي أمي. والذي هو، أنا، وديعته.
كنت اتذكره دائما وهو في صوته، كان كلامه كمن يضبط العاصفة. حنجرة مستعدة للسعال. وقت كانت أمي لا تأخذ حشرجته على محمل الجد. فهو عندما يكلمها بصوته الاجش، تغمض عينييها المطليّتين بلون الابنوس، لتستلهم رائحة صوته. هكذا كنت اتخيلها انها تحب التنبؤات، تلك التي اخذتها أنا عنها.
يوم كان ما يزال يتحرك في علبته، رأيت رجلا غير مألوف البتة ينزل من عربة قديمة جدا، يجرها حصانين مستهلكين جدا، يتجه صوب أبي. لم يتحرك أبي عندما أسبل الرجل عينيّ أبي بيدٍ خشنة، لم يفتح أبي عينيه حتى حين كان الرجل يحمل أبي المسجى داخل العربة.
مُذ ذلك اليوم ولأعوام طويلة، عندما كانت العربة تداهم البيوت لتأخذ احدهم، كنت فقط أشاهد ما يحدث دون أن أنبس بثمة كلمة.
سنوات طوال، والرجل صاحب العربة يدخل البيوت ويخرج حاملا جسد احدهم مسجى، مسبل العينين، دون أن يحتج أحد، أو يحدث لي انا شيء مغاير مثلما حدث لي حين أختفى أبي داخل العربة.
أمي قالت لي، وكأنها تحدث نفسها:
ــ لا تبتأس كثيرا. أنت تضع خطواتك في الممر بعدي.
ــ صدقيني أمي. في كل مرة، كلما نزعته من رأسي، أكون أعقل.
كان ينظر في الوجوه التي استولى عليها صاحب العربة. فكر "هل سيمنحهم شيئاً هم بحاجة إليه ؟ ". كان الجمع، هذا القبول الصامت، تطرف عيونهم من الشمس ثم تنزلق مهترئة. ولكن لِمَ عليه الاستغراق، طالما عليه، وهو ينظر في عيونهم، أن يقيس عجزه بما كانوا عليه من عجز.
*
طلبت منه زوجته أن يدخل إلى غرفة أخرى. بذل جهدا عنيفا وهو ينهض ليدخل الغرفة التي اشارت إليها.
في تلك اللحظة، وهو يدخل الغرفة، يشبه مصطافاً. وكان الهواء صغيراً هادئا. لم يكن ثمة شيء يتحرك خلف الجدران. كل الطرق هناك تذهب للوجهة الخربة، فيما يحك قلمه وجه الورقة البيضاء بين يديه. وحين رفع عينيه بعينيّ زوجته نشق نفساً من دخان سيجارته. كان يراها أهزل مما كانت عليه. وجهاً مغلقاً، تنظر إليه بوجهها المغلق من غير أن تفقد عطرها الدافئ.
فكر مليئا: " هل سيأتي بثوبه العسكري وعربته القديمة ؟ "
انبثقت ملامحه المزهوة في الظل، ثم غطس في نصف اغماضة. لم تكن هيئته راضية. وكان يدفع منخريه بحثاً عن رائحتها، يدير رأسه بحثاً عن باطن رقبتها ونهديها.
لم يكن من سبب ليتحمل ثقل جسده لإرهاق جديد، بينما كانت هي تستعيد نشاطها، لتمشي متطاولة وقت كانت تجتاز الطريق من اليمين إلى اليسار، وكأنها قادمة من السماء لأرض مجهولة.
وكان صوتها لا يستطيع أن يتوقف، وهي تصيح مشمئزة:
ـــ " قذر أنت أيها الحوذي. قذر أنت وجبان. أنه طفلي.. حبيبي، لا يمكن أن تمسه بسوء ".
وكان فمٌ كبير طنان، له رائحة المحطات الطنانة المليئة بالبخار النيء، يركض نحو مكامن الروائح الحية، ذوات البشر الزعفرانية، والجمال الواهن، ليعينها على المغادرة.
حين طلبت منه أن يغلق الباب عليه، قال بصوت كأنه يجيء من ظهره:
ــ كلا ، دعيه مفتوحا. فأنا أريد أن اسمعه حين تتوقف عربته، ويدخل من الشقوق الكثيرة.
فكر أن يطلب من الجوقة الموسيقية أن يعزفوا تانغو لرائحتها السمراء، ليطفو عطرها الخاص. لكنه حين كان يقترب من النافذة، كان التانغو يمر مروراً عابرا.
ــ عندما كنت أحول بينك وبينه، كنت اشعر بثقل يده عندما تشبث بكِ. لقد كان ثقيلاً ودبقا. عندها كففت من المحاولة.
وحين انهارت الارض تحتي، لم يبق ما يمكن قوله، غير كلمات تحركت من ضميري كما القش فوق مياه سائبة:
ـــ لا حاجة بكِ للخوف!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا