الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوحة ( الشمس الساطعة)

حامد تركي هيكل

2020 / 5 / 9
الادب والفن


المشهد الأول........بغداد 1988....... إيقاع مرح
مفعمةٌ بالنشاط والأمل، مغمورةٌ بمزيج من الإصرارعلى النجاح، والقلق من عدم إستمرار الأوضاع على ما هي عليه، وبتشجيع منقطع النظير من الأهل كما هي طبيعتهم دوما، وبمساعدة من الزملاء والأصدقاء. تفتتح المهندسة الشابة الجميلة لبنى حسن النجّار معرضها اليوم لفن الأعمال الخشبية.
كمعمارية متخرجة حديثا من جامعة بغداد، وكابنة لعائلة ميسورة ، فكرت لبنى حسن أنها تمتلك موهبةً وذوقاً فنيّاً متميزاً. ورأتْ أن الاشتغال بالمكاتب المعمارية بما يتطلبه من ساعات عمل طويلة برسم التفاصيل المملة، والعمل في مكاتب المعماريين المعروفين من أجل التدرج والإلمام بأسرار المهنة قد لا يناسبها. ثم أنها تملك إرثاً عائلياً غنيّاً وممتداً لفن النجّارة لا يعرفه حتى أشهر النجّارين. لذلك كلّه قررت لبنى حسن النجّار أن تفتتحَ مشغلاً لعمل القطع الفنية الخشبية مستلهمة حرفيّة عائلتها من جهة وما تعلمته من فنون التصميم والتكوين في هندسة العمارة من جهة أخرى.
بعناية فائقة إختارت موقع مشغلها في بناية تعود ملكيتها للعائلة قرب شارع السعدون. طابق كامل من بناية تقع على شارع فرعي غير مزدحم. جهزت المشغل بكل ما يحتاجه من مكائن صغيرة لقطع الاخشاب وتنعيمها، ومن أدوات الكبس والحفر والتطعيم، ومن مواد اللصق والدهان وغيرها من المواد التي لا يُستَغنى عنها في أي مشغلٍ يكون الخشبُ مادته الأساسية. وجهّزتهُ بمكتبٍ صغيرٍ لها تشرف من خلاله على عمل الحرفيين، مزوَّدٌ بمرسمٍ صغير، وبكل ما يتطلبه عمل التصميم من أدواتٍ ومواد.
وإحتاجتْ لعملها معرضاً إختارته هو الآخر بعناية فائقة. فهو يقع على الشارع العام قرب المسرح الوطني ويتوسط واجهة الطابق الأرضي لبناية تعود ملكيتها للعائلة أيضا. وبهذا ضمنت لبنى حسن استقرار الوضع المالي لعملها الجديد، إذ إنها لن تكون قلقة بخصوص دفع الأيجارات الشهرية. أما العمال الفنيين فقد رشّح لها والدُها ثلاثةً من أمهر الحرفيين ممن كانوا يعملون في ورشه.
حرصت لبنى على تصميم معرضها، وجعلته تحفةً فنيَّةً نابضةً بالجمال. فمن إنتقاء ألوان التصميم الداخلي، إلى تصميم مواد وملمس الجدران، إلى نوع الأنارة، إلى تصميم أثاث العرض ومقاعد الجلوس حتى إختيار القطع الفنيّة التي عكفت على تصميمها وتنفيذها مدةً من الزمن، فضلاً عن المكملات الأخرى، إهتمت لبنى بكل التفاصيل. إستمر الإعدادُ للإفتتاح ثلاثةَ أشهر. جاء الافتتاحُ حدثاً مبهراً تحدثَ عنه الأصدقاءُ والزملاء، والوسطُ الفنيُّ في بغداد. وإزدهرت الأعمالُ بسرعة.
كان كمال ساكو ومجموعة من زملاء لبنى حسن الذين تخرّجوا معها في القسم نفسه وفي السنة عينها 1982، من أكثر من قدم المساعدة والنصح. وكانت لبنى تقدّر له ذلك. في يوم الأفتتاح أبدى إعجابة بلوحة أسمها ( الشمس الساطعة) وهي لوحة من خشب الأبنوس مطعمة بقطع من المرايا والزجاج الملون، كان موضوعها الأمل والتجدد وولادة الحياة. عندما لاحظت لبنى أهتمام كمال بتلك اللوحة قررت أن تهديها إليه بمناسبة خطوبته التي عرفت أنها ستكون قريبة. كتبت على قصاصة ورق صغيرة كلمة (مباعة) ولصقتها على اللوحة لكي لايشريها أحد.
كان التفاؤلُ سائدا في تلك الأيام من شتاء عام 1988، فقد انتهت حرب السنوات الطويلة للتو، ولابد أن تزدهر البلاد، ولابد أن تتوجه كل الجهود والقدرات الآن للبناء والفن . وستحقق لبنى بعملها الرائد والمتميز نجاحا منقطع النظير.

المشهد الثاني ....... بغداد 1991 ....... إيقاع مضطرب
حين كان هواء بغداد ما زال ملوثا برائحة الحرائق والانفجارات، كانت لبنى تلك الصبيحة الحزينة على عجلة من أمرها تلملم قطعها الفنيّة من المعرض الذي بدا مهجوراً. يعلو الغبار جميع الأسطح. زجاج الواجهة الأماميّ للمعرض مكسور بفعل الارتجاجات التي أحدثها القصف القريب للأبنية المجاورة. الأرضية مليئة بشظايا الزجاج. كانت لبنى ترتجف هلعاً لما حلَّ بمعرضها، وما حلَّ بعملها الناجح والذي لم تمضِ على إفتتاحه مدةٌ طويلة. كانت ترتجف لما حلَّ بالعراق. فالقصف الأمريكي كان قد أتى على كل شيء تقريبا. وكانت خائفة لأنها مقبلة على تجربة لا تعلم نتائجها. فقد قررت العائلة السفر الى عمّان، ومن هناك ستغادر الى أي بلد أوربي أو الى أمريكا إن سنحت الفرص. كان عليها أن تودِّع زملاءها، وتودِّع بغدادها التي عشقتها. كانت تبكي. كانت الغاية من مجيئها الى المعرض هذه الساعة لكي تلتقط لوحة (الشمس الساطعة) التي قررت إهدائها لكمال ساكو.

المشهد الثالث....... بغداد 2018 ....... إيقاع حزين
عادت السيدة لبنى حسن الى بغداد من الولايات المتحدة لأول مرة منذ أن هاجرت العام 1991. كان شعورها وهي تتجول في شوارع بغداد مختلطاً، شعور بفرح لقاء المحب بمحبوبه، مع شعورٍ بالحزن لما آلت إليه أوضاع بغداد، مع شعور بالأسف للسنوات التي ضاغت، والآمال التي تبخرت. عرفت لبنى النجّار أن كل شيء تغير منذ أن وطأت قدمها أرض بغداد. فصورة المدينة التي ظلت عالقة في ذاكرتها لم يعد لها وجود. وهي أيضا تغيرت كثيرا. فالشابة النشطة المتدفقة حيوية والبالغة من العمر إثنين وثلاثين عاما عندما غادرت بغداد تعود اليها سيدةً بل جدة لأحفاد، وهي تبلغ من العمر ستين عاما. ستون عاما مرت كلمح البصر. إغرورقت عينا لبنى حسن بالدموع. وبكت طويلاً وبحرقةٍ لم تعهدها من قبل.
قررت أن تذهب الى مشغلها القديم حيث وضعت لوحة ( الشمس الساطعة)، إذا لم تستطع تسليمها إلى كمال ساكو الذي عرفت حينها أنه غادر هو وزوجته بغداد.
كانت البناية قد شُغِلَت بشكل غير قانوني من قبل حزب سياسي. عندما ذهبت برفقة أحد أقربائها هناك، قال لهما شخص يبدو أنه مسئول كبير في مقر الحزب. (نحن نخاف الله، لم نسمح لأحد بالعبث بالمواد العائدة لكم، وضعناها كلّها في السرداب وأغلقنا عليها).
وجدت لبنى نفسها غارقة وسط فوضى عارمة في السرداب المليء بمواد غريبة مكدسة بعضها فوق بعض، يعلوها الغبار، وقد غيّرت الرطوبة من طبيعتها. تأملت المشهد بصمت، وأدركت أنها لن تجد اللوحة أبداً في هذا الركام. الا أنها لمحت إنعكاس ضوء المصباح الكهربائي المعلق في السقف على قطع زجاج ومرايا كانت مركونة في زاويةٍ من زوايا السرداب. إنعكاسات وإنكسارات كوَّنت ما يشبه قوس قزح على جدار وسقف السرداب. خفق قلب لبنى، وتوجهت مسرعة الى مصدر تلك الانعكاسات متعثرة بالأشياء، وهناك وجدتها. كما لو أن (الشمس المشرقة) كانت تناديها، جثت على ركبتيها رغم آلام الفقرات التي تعاني منها منذ مدة، إلتقطت اللوحة من بين الأشياء الأخرى، مسحت الغبار عنها بملابسها برفق، إحتضنتها كأمٍ تحتضن وليدها وأجهشت ببكاءٍ مريرٍ تردد صداه في كلّ أرجاء السرداب، والبناية، وشارع السعدون، وبغداد كلّها.

الشهد الرابع....... الولايات المتحدة 2018 ...... أيقاع بطيء جداً
جلست لبنى حسن في صالة بيتها الكبير في ولاية بنسلفانيا. اليوم شعرت أن لديها وقتاً كافٍ لتأمِّل (الشمس الساطعة). فقد جاءت إبنتها بعد الظهر وأخذت الحفيدتين الجميلتين اللتين ملئتا البيت ضجيجا طيلة الاسبوع الماضي.
جلست ترتشف قهوتها بهدوء وتتفحص جمال (الشمس الساطعة)، ووجدت نفسها تكتب لكمال ساكو المقيم في كندا رسالة عن طريق الواتس آب.
عزيزي كمال ساكو
رجعت من بغداد منذ مدة، كانت زيارة مليئة بالأحداث والمشاعر، لا أستطيع التعبير عنها هنا. ولكنني جلبت اللوحة التي وعدت أن أقدمها إليك هدية بمناسبة الخطوبة. لازالت كما هي لم تفقد شيئا من جمالها. سأبعثها اليك على عنوانك في كندا باقرب فرصة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي