الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقيبة فاتح جاموس

منهل السراج

2006 / 6 / 17
حقوق الانسان


آخر قطعة وضعها في حقيبة السفر كانت أفرولاً من المخمل الأبيض لحفيده المنتظر. قال: أراهنكم.. سأكون أكثر طفولة منه. انبعث صوت خشخيشة الطفل من حقيبة سفره المتواضعة، فيما راح يضع بعناية فائقة غرسة صنوبرة صغيرة لابنه مهندس الزراعة.
هواتف ابنته لم تتوقف: سيعتقلونك في المطار، بابا جاءتنا أخبار تؤكد أنهم سيفعلون.
نظرت في عينيه متسائلة عن قراره. ابتسم. ثم قال: الآن أعذر كل من يلجأ خارج البلد.
تناول بضع حبات من الزيتون كي يسكت إلحاحي على أن يأكل جيداً. كأني كنت أرى قبضاتهم وهي تزج به خلف القضبان.
حين سمعت بخبر اختطافهم له من المطار.. كتبت له رسالة. أبقيتها بعضاً من الوقت في علبة الصادر لأني لا أعرف عنوانه، مثل كل المخطوفين هو.
أفترض أن مايا ابنته ستوصلها إليه، أرسلها إليها إذاً. وغرقت في وحدة خرساء.

صديقنا الغالي فاتح:
أعرف أنك لن تقرأ رسالتي الان. لكن لن أؤجل إرسالها إلى أن يكون بمقدورك ذلك. إن ماخلقته بيننا، وما تركته فينا لا يمكن تأجيل الحديث عنه. طفلنا "عاصي" مايزال مبتهجاً بقدومك، رائقاً وهادئاً.. ابتساماتك ومداعباتك له ملأته طاقة وزادته إشراقاً.
لم يؤجلوا قرارهم حتى تغرس الصنوبرة وتقبل يد حفيدك، وتقدم لمايا وأمها لوح الشوكولا الغامق الذي تفضلانه.
ولم يمهلوا أم مايا كي تعدّ الإفطار لك بعد غياب.. أم مايا التي عشقتها في السنة الثانية هندسة، فنسيت دروسك، وأضعت عاما ما فتئت تذكره كأن طعم العشق بعد كل هذه السنين مازال طازجاً ويملأ القلب.
وأنا كعادتي دائماً أقول كلمتي بعد أوانها. لم أعرف حين أبلغت خبر المطار إلا أن أقول: لكنه لم يتناول الفاكهة ولم يأكل جيداً، أخشى أنه سيمرض في أجواء غرفهم القبيحة.. وزرعته ستتلف، وأشياء الحفيد وشوكولا ابنته..
أعلم أن صمودك بديهة وأعرف أن ممارساتهم بديهة، ولكن كيف ستربح رهانك معنا؟. لابد أن تكون أول من يقبِّل جبين الطفل الجديد، وتثبت أنك أكثر طفولة منه. الخير بداخلك يفيض ويعلم القاضي كيف يكون ثوب العدل نظيفاً.
هذا نص رسالتي التي أرسلت. والآن علي أن أضيف:
لكن لم تشهد ولادة الطفل. بل ضاقت صدور الطغاة عن احتمال حقيقة الطفولة في عنادك الحقّ.
و ها هي اللغة أضيق من أن تشرح ما حدث.
يوماً ما علمت أنهم اعتدوا بالضرب على عارف دليلة في سجنه. لم أصدق.. غير معقول. كنت قد حضرت بعض محاضراته وأخِذتُ بهدوء لغته الواثقة وصدقها وقوتها. فقلت: لا.. مستحيل، هي مبالغات صحفية. لا يمكن أن يُضرب ويُهان رجل بهذه الهيبة وهذا الحضور. لكنهم فعلاً مارسوا هذا. وها هم يرتكبون الفعل نفسه مع رجل سبق أن قال كلمته فسلبوه ثماني عشرة سنة من عمره في ظلمات معتقلاتهم.
و لا أدري ماذا هم بعدُ فاعلين.
لِمَ رفضت البقاء في أوروبا يا فاتح؟
هل كان عليك أن تخجل من اللجوء خارج البلد؟.
ألا يكفيك نصف عمرٍ فقدته في السجون؟
وماذا إن قرأت في كلامي أن على الشعب السوري كله أن يهاجر خارج البلد؟ أظن أن الكل لديه أسباب مقنعة جداً لنيل اللجوء.
لا بأس، تخيّل حصول ذلك.
ترى ما الذي سيفعله المستبدون ببلد فرغت من أهلها؟
وعلى من سيستبدون؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بريطانيا تحطم الرقم القياسي في عدد المهاجرين غير النظاميين م


.. #أخبار_الصباح | مبادرة لتوزيع الخبز مجانا على النازحين في رف




.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال


.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي




.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون: