الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آيات الانصياع والتحدي في زمن الجائحة

زيد غازي
شاعر

(Ali Ziad)

2020 / 5 / 11
الادب والفن


ذات لحظة، بعد غروب الشمس و قبل آذان المغرب بقليل ، تجرأ "لمقدم" مكان إمام المسجد، انتصب في ذات المكان كالمسمار، مندهشا، مأمورا، كان ماسكا بيده اليمنى ورقة بيضاء، لم يولها اهتماما واضحا في البداية، أصر و تشبث بها و كأنها خلاصه الأخير . أمسك البوق بكفه الأيسر، تمتم بكلمات غير مضغوطة بشكل مفهوم، حاول مرة أخرى من خلال أخذه نفسا عميقا مع انسدال بطيء في عينيه، كأنه يريد أن يتجنب اجترار الكلام أو محاولة مجهدة لبلعه، تخطى هذا بإصرار عسير، بعد هذا شرع بلهفة يبعث لأهل القرية و المداشر المجاورة لها جملة من الرسائل؛ تحذيرية و استعجالية أول الأمر و أخرى ذات أهمية قصوى لتأتي في المقام الأخير النصائح والاحتياطات التي وجب التقيد بها لجعلهم بعيدين عن مرمى الإصابة بالعدوى و اتقاء شر العقوبات و هول غضب رجال الدولة في أي محاولة لكسر حالة الطوارئ المعلنة . كانت الكلمات انسيابية تبعث الخوف و الهلع في النفوس مخترقة أنواعا غير محصورة من القناعات، لدرجة أنها عندما وقعت على مسامع أولئك الذين سقطوا في تذبير أولويات حياتهم ، وهي الفئة الأكثر تصالحا مع نفسها و لا تترك شيئا غامضا ، حتى أنهم غالبا لا يجيدون حرجا واضحا لتبرير أن ثمن "بصلة واحدة " أغلى من حياتهم و أن الحظ و القدر فوَّتا عليهم فرصة ثمينة لركب قطار الحياة، و هم الآن يتذوقون طعم الحنظل، لا يفعلون ذلك باستحضار الأدوات الإقناعيه لِلَيّ عنق الشق العاطفي عند الآخر و خاصة الغرباء بل ارتباطهم بواقع البلدة يحكي حجم المآسي و مختلف لوحات الفقر التراجيدية ،باقية ومتجذرة...، لكن الطيور على أشكالها تقع هنا و هناك .
رسائل الدولة هاته التي تمر عبر أبواق لا حصر لها، جعلت أعناق الناس متدلية بدون شعور بين عرصة الباب أو بين النوافذ، انزلقت عليهم كلمات "لمقدم" محملة و مثقلة بإصرار خفي ، لا يعرفه إلا المسنون و الشيوخ الذين خبروا في وقت مبكر هذا الفزع و الخوف و يعود هذا إلى تاريخ الأوبئة التي ضربت و أهلكت البلاد.
كان صوت "لمقدم " خافت مليء بالحشرجة ، يعلو تارة و يدنو تارة، في عملية ميكانيكية معقدة و عجيبة، كأنه يعترف بجرم تحت تهديد السلاح، لكنه المسكين يواصل ، يواصل قسرا ، يخطف الحروف و الكلمات من الورقة البيضاء و يده اليمنى جامدة و الشرايين تنتفض بداخله ، بجوار و وسط قلبه حتى أحس أنها على مقربة من فوهة فمه و حان الوقت ليتخلص منها، أو، خلصه "لفقيه" بطريقة أقرب إلى التحدي من خلال إيحاءات تطلبه بأن يسلمه البوق و كأنهما وسط حرب يتناوبان على حمل بندقية ثقيلة، تقليدية الصنع، تابع "لفقيه" بنبرة صوته المألوفة تسمعها و تستحسنها الآذان و تنشرح لها القلوب . هكذا استوطن ذاك التأكيد الأخرس عند سكان القرية و العموم، بدأ معه أطوار مسلسل بعنوان اتفق على تسميته عالميا ب"الحجر الصحي ".
إذا كانت الأيام بتواليها المستمر العنيد تجرف معها الصخور من أعالي الجبال على حين غرة، و الأشجار تسقط أوراقها بذون إنذار، حلَّت مثل هذه الحقيقة على أرض القرية و فوق الرؤوس، فصارت خرساء، مخيفة سوى أنغام الطيور تكسر جدران الصمت المطبق المفروض، ترفع بإيقاعات زقزقتها هاته غبش الصباح و شريط من الكوابيس المفترسة هنا أكثر من المدينة، كما تصوِّر ذلك التلفزة، أرقام ترتفع و تفرخ كل يوم أعدادا أخرى مستأسدة و لا أحد له الجرأة و الشجاعة على كبحها، فالأرقام هذه المرة مفزعة أكثر من ذي قبل، لا تشبه تلك بالنسبة للبورصة أو أرقام النقود الخالدة في جنات البنوك، شيء مختلف هنا. بدأت الأيام تتوالى و بدأت تجرف معها أرواحا، و أخرى قيد الحياة خلف الأبواب محجوزة طوعا و إرادة بقوة الغريزة لمعركة الاستمرار الكبرى عنوانها " نكون أو لا نكون" . هناك من الناس من بالغوا في تصور "الوباء" على شكل مخلوق غريب مقطوع الذيل ينقض على البشر بمكر و شراسة منقطعة و هناك من يأتيه في صورة ثور هائج مطلوق من حظيرة يثيره اللون الأحمر الداكن متجاوزا خصمه المصارع إلى عامة الجمهور و تبدأ المجزرة الدموية الرهيبة ، لكن لا دماء في هاته الحرب الصامتة وهذا التخيل غالبا ما يخلف وراءه غصة ما تشبهها غصة. انكب هذا الشعور أيضا على تلك الثلة القليلة التي كان لها الحظ أن وصلت حدود الدنيا و أطرافها في مكان ما بهذا العالم، أفصحوا بصدق أن مواقفهم أصبحت مزيفة أمام معادلة معكوسة تثير سؤالا أنطولوجيا عميقا :" هل فعلا وصلنا إلى حدود نهاية هذا العالم " ؟
على هذا الشق الغريزي كانت تجري المعركة طوال أيام الربيع، أخذت التشكيلة الاجتماعية نحوا غريبا ؛ الشباب الذين كانوا غير آبهين بالمخاطر متمسكون بالمخاطرة و المجازفة كأنهم لا يتوقعون شيئا من هذه العدوى غير خوفهم الطبيعي على آبائهم، أما الصبايا فهم مفتونون و يقضون أيامهم بين مطرقة العطل المزيفة و سندان الدراسة عن بعد كوصفة سحرية ترتقي بهم درجات العلم بين الأمم في زمن الوباء، لكن معادلة تكافؤ الفرص بالقرية و المداشر غيرمتوازنة، هناك المسنون الذين احتفظوا في قرارتهم بالخوف، تشبتوا بالحياة أكثر بالرغم من أن السكينة استقرت خارج قلوبهم و لا يفوتون فرصة لمجاملة الأيام التي مضت بمختلف ألوانها؛ المرة و الحلوة.
"أليس غريبا اليوم أن يطلبوا منا الإنضباط و الإلتزام و الأخذ بجميع أشكال "التنظيم" عندما كان يثير هاجسا مخيفا يقض مضاجعهم، هؤلاء قد جنوا" ، يقول "كريم" و هو شاب بدوي يتابع دراسته بالجامعة لجاره "محمود"، يرد عليه هذا الأخير برتابة ثقيلة ، لا تأخذني بكلامك هذا فأنا لا أفهمه ، إدخره ما أن تجد خالدا يفهمك فأنتم طلاب العلم و المعرفة و بوصلة هذه البلدة. ما إن أكمل كلامه حتى كان "خالد" بينهم ملثما الوجه بكوفية وهو اعتاد فعل ذلك في حالات إطلاق غاز مسيل للدموع من طرف القوات الأمنية لتفريق المظاهرات هناك بالجامعة . كان "خالد" يحمل كتابا أحكمه بقبضة يده وهو ينط بخفة فوق أنواع من الشتائل و النباتات.و كعادته بعد إلقائه التحية، استهل يحكي عن التلفزة و الحملات المحتشمة المجهدة التي تقوم بها دون نية إبداع شيء جديد، و بدأ "خالد"يعرض و يناقش بثقة ثابتة أبرز أفكار الكتاب .
"إن مختلف الأليات المعتمدة في الإعلام لا حصر لها، يمكن أن نذكر منها آليات لصناعة الإجماع و ترويض الرأي العام...، ذهب في معالجته الموضع إلى نوع أقرب من التبصر :" هذه الجائحة ستفرض علينا مجموعة جديدة من المفاهيم و الأنماط، بعضها سيتقدم إلى الأمام لراهنيته و أخرى ستنزوي إلى الوراء و تصبح من الماضي..لكنني سأظل أؤمن بحقوقي الميتافيزيقية المتجسدة في تقديس الحياه بعدما كانت تستهويني مقولة "موت الإنسان "، وأن الحياة ستكمل دورتها من جديد لا محال ...
- قاطعه "محمود" طالبا إياه أن يؤكد له مغزى مصطلح "الجائحة" ..
- أجابه "كربم" باختصار : الجَّايْحَة ..
-فهمت الآن ، دائما ما تشتمني زوجتي و تقول لي " سير ضْرْبْك الجَّايْحَة الكْحْلة ، سأدخل و أقسم ظهرها لم ينقصني كهذا فَأْل ..يقول "محمود"
استوقفه "خالد" مبرهنا له على ألا يكون فظا و أن الجائحة أتت لتعطينا درسا قاسيا في الإنسانية و هذه فرصة ثمينة لإعادة ترتيب الأولويات بما في ذلك اختبار لذواتنا من مقدار الصبر و زادنا من الحب، مع أنه وجب علينا في هذا المنعطف الحاسم تعزيز روابطنا الاجتماعية بعدما اقتربت من حافة السقوط و التفكك ..كما أنه أراد أن يذهب إلى أبعد نقطة و يعطيه مثالا بالفيلسوف نيشه و عن تاريخه في عداء المرأة ، لكنه فشل و اكنفى باستمالته ومحاولة إقناعه بأدوات يفهمها عقله البدوي البسيط..
هكذا جرى النقاش بين "خالد" و "كريم " وبينهما مسافة خمس أمتار او أكثرها، أما "محمود" يتابع ما يقولانه من نافذة منزله هذان الإثنان بحيث يفهم منهما كلمة و يعجز عن مجاراتهم في فهم بقية الحديث الذي وقف فجأة مدويا تحت صفارة سيارة الإسعاف مسرعة نحو مستوصف البلدة لتسعف مريضا هناك.
" يعلم الله من هذا المسكين الذي أصابته العدوى في هذه القرية المنتحية البعيدة، لكنني على يقين أن النقل السري سيجلب لنا من المدينة كارثة و ستكون نهايتنا وشيكة من على وجه هذه الأرض "، يقول "محمود" بحسرة تملأ أنفاسه و أكمل بقلق:" كعادتنا، لا نجني من المدينة سوى اللعنة و السوء ."
"و هل تملك حلا آخر، أنت تعلم أكثر منا ومن "لمقدم" نفسه ما بداخل المستوصف من أدوية، لا يوجد سوى جهاز قياس الضغط و بعض المراهم الصفراء التي يقال عنها دواء لكل داء ؟ و أنه لا وجود لطاقم طبي و لا معدات تقينا من شر الفتك"، يحملق "خالد" في وجه "محمود" مستنكرا.
بادر "كريم" مجددا و أنه لا يريد أن يخوض في هاته المعركة الكلامية . أخرج هاتفه من جيبه، متحديا بذلك الروتين الخانق آملا في تزجية الوقت العصي عن الإنقضاء. أطلق من هاتفه أغنية لفنان مصري و بدأ يردد معه الكلمات التي نُقشت في ذاكرته بين أسوار الجامعة من زمن ليتبعه "خالد" في ذلك بشكل تلقائي، وكانت بداية الأغنية على هذا النحو من التوازن :
ممنوع من السفر**
ممنوع من الغنا**
ممنوع من الكلام**
ممنوع من الاشتياق**
ممنوع من الاستياء**
ممنوع من الابتسام...
مفردات مساعدة:
لمقدم : عون السلطة
.لفقيه: إمام مسجد.
سير: أغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة